بين الهامش والصراع: دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق على مفترق طرق السلام (6-10)
lualdengchol72@gmail.com
بقلم: لوال كوال لوال
من يتأمل تاريخ الدولة السودانية منذ الاستقلال لا بد أن يتوقف عند الخرطوم باعتبارها القلب السياسي والإداري، لكنها في الوقت نفسه كانت رمزاً للانفصال عن بقية جسد البلاد. فالخرطوم لم تكن فقط عاصمة جغرافية، بل كانت مركزاً لصناعة السياسات التي غالباً ما انطلقت من رؤية ضيقة، اختزلت السودان في هوية أحادية وثقافة محددة، متجاهلة بذلك التنوع الشاسع الذي يميز الأقاليم. هذه الرؤية هي التي جعلت الخرطوم موضع اتهام دائم بإعادة إنتاج سياسات التهميش التي أسس لها الاستعمار. بعد الاستقلال عام 1956، كان الأمل كبيراً في بناء دولة وطنية تتجاوز حدود القبيلة والإقليم والدين، لكن ذلك لم يتحقق. الحكومات الأولى، سواء كانت مدنية أو عسكرية، لم تضع مشروعاً قومياً للتنمية المتوازنة. جل الاستثمارات والمشروعات الكبرى تركزت حول وسط السودان، خصوصاً في مثلث الخرطوم–الجزيرة–النيل الأبيض، بينما تُركت الأقاليم الأخرى، مثل دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق والشرق، في حالة من الإهمال المزمن. هذا الاختلال لم يكن صدفة، بل نتيجة عقلية ترى في المركز وحده أولوية وفي الأطراف مجرد مخزن للموارد والجنود. المفارقة أن الخرطوم كانت في خطاباتها السياسية تدّعي تمثيل كل السودان، لكنها عملياً كانت تنحاز دوماً لطبقة ضيقة من النخب التي ارتبطت بالمركز ثقافياً واقتصادياً. هذه النخب لم تكتف بإقصاء الأقاليم، بل أعادت إنتاج فكرة “الهامش” كما ورثتها من الاستعمار البريطاني. فالبريطانيون حين حكموا السودان اعتمدوا على تقوية الوسط النيلي وإضعاف الأطراف، وعزل بعضها عبر سياسات المناطق المقفولة. الحكومات الوطنية لم تفكك هذا الإرث، بل واصلت العمل وفق منطقه، ربما لاعتقادها أن السيطرة على السودان لا تكون إلا عبر إحكام القبضة على المركز. ومع كل انقلاب عسكري أو تحول سياسي، كان الناس يأملون أن يحدث تغيير في هذه المعادلة، لكن النتيجة كانت دوماً واحدة: استمرار التهميش. ففي عهد الفريق عبود، استمر نهج عسكرة السياسة وتعميق الفجوة مع الجنوب. وفي فترة الأحزاب، انشغلت النخب في الخرطوم بصراعاتها على السلطة أكثر من انشغالها بوضع رؤية وطنية. ومع حكم نميري، توسع المشروع الأمني على حساب التنمية، وزادت سياسات الأسلمة القسرية من عزلة بعض الأقاليم. أما في عهد البشير، فقد بلغت الأزمة ذروتها، إذ تحولت الخرطوم إلى قلعة للنظام وأجهزته الأمنية، بينما تحولت الأقاليم إلى ساحات حرب ونزوح وفقر. غياب الرؤية الوطنية الجامعة جعل الخرطوم تُنتج باستمرار خطاباً فوقياً يتحدث باسم الجميع لكنه لا يضع مصالح الجميع في الاعتبار. ولعل أبرز مثال على ذلك هو اتفاقية السلام الشامل عام 2005. فمع أنها كانت فرصة لإعادة صياغة الدولة، فإن الخرطوم تعاملت معها كصفقة لتقاسم السلطة والثروة بين المركز والحركة الشعبية، دون أن توسع دائرة النقاش لتشمل بقية الأقاليم المهمشة. النتيجة أن الاتفاقية أسفرت عن انفصال الجنوب، لكنها لم تُنهِ الصراعات في دارفور أو جبال النوبة أو النيل الأزرق. هذا الإخفاق المستمر يجعلنا نتساءل: لماذا تعجز الخرطوم عن تجاوز هذه العقلية؟ ربما يكمن الجواب في طبيعة تكوين الدولة السودانية نفسها. فقد نشأت الدولة الوطنية في السودان دون أن تُبنى على عقد اجتماعي حقيقي يشارك فيه الجميع. كانت السلطة منذ البداية محتكرة من قبل نخبة ضيقة، تنتمي غالباً إلى مناطق الوسط والشمال النيلي، ما جعلها تنظر إلى الأطراف باعتبارها مناطق “تحتاج إلى تهذيب” أو “إلحاق” بدلاً من كونها شريكاً كاملاً. هذه الذهنية لم تسمح بنشوء مشروع وطني عادل، بل كرست لثقافة الاستعلاء والإقصاء. إن الخرطوم، برغم أنها العاصمة، لم تتحول إلى ملتقى للتنوع السوداني، بل أصبحت في المخيال الجمعي رمزاً للحرمان. فهي مركز القرارات التي تنتج الحروب، ومركز الاقتصاد الذي يحتكر عوائد الثروة، ومركز الثقافة التي تفرض معاييرها على الآخرين. ومن هنا، فإن أي محاولة لبناء سلام شامل في السودان لن تنجح ما لم تُعالج هذه المعضلة البنيوية: كيف تتحول الخرطوم من مركز للهيمنة إلى عاصمة للجميع؟ كيف تصبح مكاناً يعكس التنوع السوداني بدلاً من أن يلغيه؟ إن فشل الخرطوم في تجاوز عقلية التهميش لا يعني أن الحل مستحيل. بل العكس، فهذا الفشل يمكن أن يكون نقطة انطلاق لبناء دولة جديدة، شرط أن يكون هناك اعتراف صريح بأن سياسات الماضي لم تنتج سوى الانقسام والحروب. ومن دون هذا الاعتراف، سيظل السودان يدور في الحلقة المفرغة نفسها: حروب في الأطراف، وانقلابات في المركز، وأمل مؤجل في بناء وطن يسع الجميع. ومن هنا، فإن الانتقال في الحلقة القادمة سيكون نحو انعكاس هذه الصراعات على الدولة السودانية ككل، وكيف أثرت على بنيتها السياسية والاجتماعية وأفقدتها القدرة على الاستقرار والتنمية، ليتضح أن التهميش لم يعد أزمة محلية بل أصبح تهديداً لوجود السودان ذاته.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم