بين يدي التغيير (2): العقل السياسي السوداني .. معنى الدولة وأدوارها؟!

 


 

 

 

ضد وعي النخبة: الدولة ليست لحملة الأسهم، الدولة لمن يمارس النقد الذاتي، ويعترف بالشراكة.. 

نضج الشعب" للديمقراطية لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال ممارسة الديمقراطية، تماماً مثلما أن الطفل لا يتعلم المشي إلا من خلال ممارسة المشي نفسه...
لا سبيل إلى الديمقراطية إلا عبر مزيد من الديمقراطية.. لأن البديل هو الطغيان، وليس هناك من خيار ثالث: هناك فقط إما عيوب الديمقراطية وإما عيوب الاستبداد والدكتاتورية..

"كل برهان هو استدلال يرمي إلى حقيقة استنتاجه، استناداً إلى مقدمات مثبوتة، أو مسلم بها كحقائق".
- أندريه لالاند

ما من مفهوم تعرض ويتعرض للتشويش المفاهيمي بقدر مفهوم الدولة، والحقيقة أن مرد هذا التغبيش يعود إلى تعدد مصادر تعريف الدولة، ماهيتها، ومحدداتها، وتجلياتها كذلك، والحق أنه يصعب بالفعل تحديد مفهوم دقيق لماهية الدولة، وما هو المصدر الأقرب لنا في فهم طبيعتها، وبالذات في سياق حديثنا عن الحالة السودانية التي ننشد إصلاحها، بالذات في ظل التغيير الذي يجوس في ثنايا ظاهرتنا السياسية هذه الفترة التي تمر على بلادنا، ونحن نسعى جميعاً لبناء وتجذير وعي يخصنا، ويعبر عن همومنا الاجتماعية، ويربط بيننا نخب ومستهلكين للخطاب السياسي، والقول هنا يتعلق بإيجاد نقاط التعارض بين التيارات السياسية التي تعتمد مرجعيات مختلفة، والحق أنهما تياري اليسار واليمين (لا زلنا نقول بإن هذا التقسيم مجازي)، فاليساري أي من يعتمد في حقيبته الأيديولوجية مفاهيم الديموقراطية الغربية بتوابعها من لدن الحريات الفردية وأشكال التعبير عن معاني الحياة، وجملة تصورات اليساري في تقديرنا هي هجين يأخذ من هنا وهناك، أي أن مرجعيته التي توصف بالكونية هي عيّل على المفاهيم الغربية، وإن حاول سودنة بعضها وإدماجها في وعيه الخاص، لكن يظل المصدر غربي بالأساس، طبعاً قد يخرج من يقول ما هو تعريفك للمنهجية الغربية؟ وماذا تقصد بالغرب؟ وكل هذه أسئلة واعية وجذابة في رأينا، وللإجابة عنها نقول إن الحضارة الإنسانية الآن تعيش لحظة أمريكية بالمطلق، أي ترهن أوعيتها لحصائد الليبرالية الجديدة، تلك التي يسميها أستاذ محمد عابد الجابري بأوهام الليبرالية، وفي ذلك يقول ويُشخّص ماهيتها ناظراً إليها في عمد بصير، وكيف أن الليبرالية الجديدة هي مذهب اقتصادي أهم عنصر فيه هو التبشير بنموذج جديد للدولة، وتمارس فيه السلطة على أساس مبدأ ركين وهو Governance وهي كلمة مشتقة من Govern وتعني "الحكم" أي ممارسة السلطة بمعية الرقابة والتوجيه، وهدفها الرئيس هو تقليص دور الدولة بحيث تكون مهمتها القيام بالتسيير تحت توجيه ورقابة بل لنقل ومراقبة أولئك الذين يوازي وضعهم إزاءها وضع حملة الأسهم بالنسبة للمديرين في الشركات الكبرى، أي الدولة هنا جسم متعالي بالمعنى الفلسفي، ولفهم أوسع نحتاج إلى عقل نقدي، وهذا العقل النقدي نحتاجه لفهم ظاهرتنا السياسية، والتي ينبغي أن تستهدي بجوهر اجتماعها الإنساني، لأن السياسة ليست إلا تعبيراً أعلى عن الظاهرة الاجتماعية، هي الجزء الأكثر فصاحة وبيان لمعرفة الطبائع والأشكال التي تعبر عن فهم الأفراد والجماعات داخل أي مجتمع، ولذا والحال كذلك، فإن الجماعة السياسية التي تشتغل الآن لبناء سودان جديد، سودان يسع الجميع، والجميع الذي نعني نقصد به الكل، من يستطيع أن يعبر عن رؤاه ومن يُكلف آخرين نيابة عنه، بل أبعد من ذلك السوداني الذي لم يولد بعد، وسيأتي بعدنا لينظر إلى وضعنا قدمه في المجتمع والسياسة والاقتصاد، فهذه لحظة حرجة، لأنها تريد أن تقفز عن خسائر الهبّات الشعبية التي أقصت حكومات وركبت أخرى، ولذا فإن دعوتنا للقادة السياسيين أن يحملوا في جوف خطاباتهم الجماهيرية معنى نقدي، أن يؤسسوا مشاريعهم المستقبلية على هدى من تساؤل لا يعترف بجدوى شيء سوى القيمة التي يحققها، إن أي خطاب سياسي يرهن نفسه للحظة سيموت، وكم ابتلينا بالهتاف في محل العمل، والآن الواجب هو العمل لأجل هتاف رطب يسقينا جميعاً نجاحات ولا يُعجل بالندم.
أي أن الدولة هنا كائن مجازي إذا صح التعبير، ولا يتعدى وجود الدولة كونها رهينة لمعنى ليبرالي جوهره الفردانية وتحقيق أقصى حد من الربح الاجتماعي، ويمكن أن يصح وضع الدولة بهذا الشكل في أمريكا أو بريطانيا مثلاً، لكن وكما نقول دائماً أن مشكلة الأفكار لا تتعلق بصلاحيتها بل بطبيعة مصدرها التي خرجت به، فالأفكار ليست كائنات متجاوزة بالمعنى النيتشوي (التجاوز عند نيتشه هو بمعنى القطيعة مع الماضي، راجع كتابه: " إنساني، إنساني جدا " عام 1878م) أي الأفكار تحمل في جوفها حقيقة استمراراً لمظانها، ولا يعقل فصل أي فكرة عن مصدرها والقول هكذا ضربة لازب بأنها صالحة، فالفكرة وإن بدت قابلة للتنفيذ فإن النظر داخل بنيتها والإحاطة بمجالها التداولي سيكشف إلى حد كبير عن قيمة تركيبية تفيد بأن الأفكار في تجليها الأعظم هي نتيجة حتمية لطبيعة الوعي الذي صدرت منه، وهنا لا يمكن نقلها بالوضع والإستعانة وكأنها معزولة عن أصحابها، رؤاهم وأشكالياتهم وتطلعاتهم كذلك، ومن هنا يأتي قولنا بضرورة النظر إلى الأفكار بشكل جدي، والتوقف عن ممارسة التبضع بغير حق في سوق هو بالكامل مصادر لصاحب امتيازه، نحتاج إلى أفكار تخصنا ومعاني ننتجها نحن، لا نفعل ذلك ترفاً بل لضرورة قصوى، وهي محاولتنا بناء مرجعية فكرية سودانية نستطيع بموجب العمل داخلها أن نجد حلولاً لأزماتنا وإجابات شافية وحقيقية لمصاعبنا ومتاعب أشغالنا السياسية والاجتماعية.
أما تيار اليمين فهو كذلك يعاني أزمة مزدوجة فهو من جانب يقول بأصالة طرحه وجدة ما يقف عليه من مفاهيم، لكن وبفحص دقيق وأمين وغير منحاز فأن أزمة اليمين تعود إلى أنه تيار يحمل بضاعة منزوعة من سياقها الحضاري، أي حين يقول لنا المنتمي لتيار إسلامي بأنه يريد أن يعود بالأمة (وهذا مفهوم كم يحتاج من تفكيك) إلى لحظة ما في تراثنا العربي الإسلامي، فإذ به يقع في ازدواجية مفاهيمية فمن جانب يريد العودة بنا إلى إلى الماضي أو إلى ما يقول بأنه أصول الإسلام لكنه لا يستطيع أن يحدد صلتنا بهذه اللحظة، أن يحددها بصورة واعية، وهذا ما نسميه أزمة تركيب التراث في الحاضر، التراث العربي الإسلامي الذي يعيش فينا ونعيش فيه على حد قول الجابري، هذا التراث يحتاج حتى نعود إليه أن ننشط أداتي الموضوعية والعقلانية، الموضوعية بأن تكون دعوتنا في العودة إليه دعوة منهجية وليست اضطرارية أو حتى انتهازية، فحين نقول بضرورة العودة إلى الماضي ينبغي أولاً تحديد مستوى العلاقة بين هذا الماضي المُستحضر وبين الذي نعيشه ونرتأيه ذا صلة به، ولا يكفي القول بأننا نريد عدالة كعدالة الخطاب رضي الله عنه، وليس من انتهازية نراها أشد مثل قول اليمين واليسار بأنهما ينهلان من المصدر نفسه، رغم أن هذه حقيقة، ففي جانب دعاة اشتراكية الدولة يعود داعينا الاشتراكي إلى نماذج تراثية مقتلعة من سياقها وكأنها كائنات فضائية، فيبشر بنموذج الصحابي الجليل جندب بن جنادة (أبو ذر الغفاري) ويرى في سيرته الذاتية نموذجاً لاشتراكي عتيد وقف ضد سطوة الأغنياء وقارعهم وتحمل في ذلك الأذى حتى مات وحيداً كما يقول الحديث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، أو يذهب الإسلامي لينادي بشدة الخليفة الأول أبي بكر رضي الله عنه، شدته في أخذ الحق، أو يستدعي أحدهم عدالة عمر بن عبد العزيز، نعم يحق لأي طرف أن يستفيد من التراث، لكن نعيب عليهم عدم فهم طبيعة السياق الذي جاءت فيه أشغال الصحابة الأجلاء وباتوا نماذجاً مشرفةً لوعينا العربي الإسلامي، لا يمكن أن نعمل على التبشير بعدالة العمرين دون فهم طبيعة موقعهم الاجتماعي، قضاياهم وأسئلتهم وإشكالياتهم، والمعالجات التي اقترحوها، لأنه من العجيب فعلاً القول بأن مجتمع الصحابة هو مجتمع اليوم، من الصعب محاولة البعض الدمج بالقوة إن لم يكن بـ(الفهلوة) على دارج عبارتنا، انتزاع مقولات من مستواها الدلالي وإلصاقها هنا بالعجلة المضطربة كما نشاهد، الحق إن قضية المصدر والمرجع في فهم دور الدولة والفاعلين فيها تحتاج منا إلى وعي جديد، وعي رصيده الأساس هو العقلانية، العقلانية ببساطة تلك التي تلتزم بشروط المنهج، والذي هو شرط المعقولية والثبات، هذا شرط مركزي لفهم العقلانية السياسية التي نريد، ذلك أن برهان السياسة، وكما صدر الفيلسوف الفرنسي أندريه لالاند مقدمة موسوعيته الفلسفية يقول عبارة آخاذة شديدة الدقة في فهم معنى العقلانية يقول: "كل برهان هو استدلال يرمي إلى حقيقة استنتاجه، استناداً إلى مقدمات مثبوتة، أو مسلم بها كحقائق".
تعييب الديموقراطية في العقل السياسي:
يرى محمد عابد الجابري أن التعييب الذي يلصق بالنظم النيابية، لا يعني فساد الديمقراطية كنظام "..عن عيوب النظام البرلماني..، التي تزداد وتتضخم بسهولة عندما يتعلق الأمر بمجتمعات لم تتطور الأوضاع فيها بعد إلى المستوى الذي يتطلبه التطبيق – السليم نسبياً- للنظام الديمقراطي. غير أن فساد تجارب برلمانية معينة مثلها مثل عيوب الديمقراطية نفسها، مهما اتسعت وتضخمت، لا ينبغي اتخاذها ذريعة بالكفر بالديمقراطية نفسها، ذلك أنه ليس هناك من بديل للديمقراطية إلا الاستبداد والدكتاتورية. ليس هناك من خيار ثالث: هناك فقط إما عيوب الديمقراطية وإما عيوب الاستبداد والدكتاتورية.." الجابري، الديمقراطية وحقوق الإنسان: 103-104. كما يردنا الجابري إلى ضرورة فضح الحجج الواهية في عدم الحاجة إلى الديمقراطية، فالبعض يقول أن الشعب غير مؤهل لممارستها، وإن جيء بها نظام للحكم، فسبيلها (الجماهير) إلى الفوضى.." أما القول بأن الديمقراطية تحتاج إلى "نضج الشعب" حتى لا تنقلب إلى فوضى، وأنه بالتالي من الضروري تأجيلها إلى أن يتحقق هذا "النضج"، فهو قول يمكن دفعه والرد عليه بأن "نضج الشعب" للديمقراطية لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال ممارسة الديمقراطية، تماماً مثلما أن الطفل لا يتعلم المشي إلا من خلال ممارسة المشي نفسه."
نواصل..


ghassanworld@gmail.com
/////////////////

 

آراء