جدليّة حصة جنوب السودان من مياه النيل .. بأيٍّ ذنبٍ نُسِيَتْ؟!!

 


 

إستيفن شانج
28 October, 2016

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

سعدتُ كثيراً بصدور كتاب الدكتور سلمان أحمد سليمان الموسوم بعنوان (السودان ومياه النيل - النزاعات والمفاوضات والإتفاقيات ومستقبل علاقات دول الحوض)، فالدكتور سلمان أحد الذين تتبعت كتاباتهم كثيراً وأجدُ فيها كل ما أحتاجه عن مسألة حوض النيل ودوله والتعقيدات التي تلفُّ بقضية تقسيم المياه ومعضلة إتفاقية 1959م التي أعطت دولاً أكثر من أخرى.
والدكتور سلمان رجل غنيّ عن التعريف، فهو عالم وخبير دولي في مجال المياه عموماً ويهتم أكثر بحوض النيل، أنا لم ألتقيه للتعرف عليه من قرب سوى مرة واحدة سنة 2013م في ورشة عمل بالخرطوم عن مساهمة الجامعات ومؤسسات التعليم العالي في تنمية المجتمعات المحلية، تلك الورشة التي أقامها أحد المعاهد الإقليمية العاملة في مجال التنمية البشرية، ولم تسنح لي الفرصة بمقابلته والتعرف عليه لضيق وقت البرنامج، غير أني كنت قد كاتبته عبر (البريد الإلكتروني) في النصف الأول من العام 2013م، وكنت وقتها رئيساً لتحرير صحيفة (9 يوليو) الجنوب سودانية اليومية التي تصدر في جوبا، فقد قررت بناءاً على إهماماتي وخبراتي السابقة في (السودان الواحد) أن أقوم بنشر مواد بعينها تتعلق بمسألة مياه النيل، وللحقّ؛ كنت أود أن أستفز الشعور بالمسئولية الوطنية في ضمير مسئولي جنوب السودان تجاه الوطن، وأهمية إيلاء أمر مياه النيل أهمية قصوى، كواحد من أهم قضايا الأمن القومي حساسيةً.
إجتمعتُ إلى هيئة تحرير الصحيفة والتي وافقتني الرأي، فقررت أن أقوم بنشر ملحق يومي متسلسل من صفحتين عن الحوض النيلي وقضايا تقسيم المياه، ثم مضى الأمر بكل سلاسة حتى أن بعض القراء تفاعلوا مع هذه المواد وكتبوا مقالات عديدة تعقيباً عليها، حيث بدأنا بنشر (إستعراض أطروحة الدكتور جون قرنق التي نال بها درجة الدكتوراة في (جامعة ايوا) الأمريكية تحت عنوان الأطروحة ذاتها والذي يتلخص حول( التنمية الزراعية في مشروع قناة جونقلي وأثرها على مجتمع وجغرافية المنطقة). عموماً لا أريد هنا ان أتطرق إلى الكثير من التفاصيل والتي لا أراها مهمة في هذا المقال كالحديث عن ما دار في تلك (السفارة) التي إستدعتني (بلطف) إلى مقرها لبناء ثقة بيني(كصحيفة) وبين دولتها للمساعدة في بعض الأمور التي تتعلق بالطباعة والتوزيع والإعلان وغيرها، أو لقائي بالسيد (علي كيتي) وزير الدولة بوزارة الري والموارد المائية في ذلك الوقت، وهو الإجتماع الذي خرجتُ منه بأمر واحد فقط هو (أن مسئولي جنوب السودان لا يعرفون عن نهر النيل سوى أنه نهر يعبر البلاد من الجنوب إلى الشمال) .. Full Stop!!
أعود إلى ما دار بيني وبين الدكتور سلمان من مكاتبات؛ فقد إستنفدتُ ذخيرتي من كل المواد التي كانت بحوزتي عن النيل وحوضيه الشرقي والغربي، وما كان أمامي إلا الإستعانة بالكتابات الثرة القيّمة والمحكمة لدكتور سلمان أحمد سلمان حول المياه، ولقد كانت جميعها متاحة ومتوفرة في مواقع إلكترونية مقروءة كـ( سودانيز أولاين) و(الراكوبة) و(حريات) وغيرها من المواقع، ولكم كانت سعادتي كبيرة عندما تلقيتُ منه رداً إيجابياً بالسماح لنا بنشر كل ما نريد نشره!! وقد سَعِد هو أيضاً عندما أرسلنا له نموذجاً للصفحة (PDF) وأشاد بها وبمستوى إخراجها، ودكتور سلمان لم يكتف بهذا، بل نبهنا - مشكوراً - في ذلك الوقت إلى ضرورة تبصير قيادتنا السياسية في الدولة الوليدة بأهمية هذه المسألة وأن يولوها كبير عناية. وقد دار بيني والدكتور الإنسان حديث حول هذا الأمر كثيراً قد لا يتّسع المجال لذكره هنا.
من المؤكد أنه بإنفصال جنوب السودان سيزداد الطلب على مياه النيل في هذه الدولة الوليدة، وبخاصة وأن أعداداً كبيرة من الجنوب سودانيين قد عادوا إلى بلادهم بعد أن ساد الأمن وتوقف القتال منذ 2005م، حيث تقدّر أعداد الجنوبيين خارج السودان أثناء إجراء الإستفتاء في 2011م بنحو 30% من إجمالي الجنوبيين، أضف إلى ذلك أن موجات هجرة جماعية إتجهت إلى جنوب السودان من كافة دول الجوار الإفريقي ليكون متنفساً جديداً عن سكان الإقليم الذين أنهكتهم المجاعات وشرّدتهم البطالة والعطالة والكوارث الطبيعية والنزاعات، وهو أمر يجب أن يتم التخطيط له بشكل سليم، إذ أن الماء كغيره من الموارد الطبيعية غير المتجددة عرضة إلى الشح والنضوب إن لم يتم إستخدامه بالشكل والتقنين الأمثل.
إنّ رأينا واضح في إتفاقيات مياه النيل وبخاصة إتفاقية 1959 والتي منحت مصر 84 مليون متر مكعب من المياه سنوياً تأتيها عبر نهر النيل من أنهار النيل الأزرق، النيل الأبيض، السوباط ونهر عطبرة، مقابل أن يكون نصيب السودان 18.5 مليون متر مكعب سنوياً، ولم تكتفِ الإتفاقية بهذا الحدّ، بل وضعت شرطاً قاسياً في متن الإتفاقية وهو حق (عدم هدمها أو إعادة المناقشة والإتفاق حولها أو بعض بنودها بأي شكل كان) أو ما عُرف بالحقوق التاريخية المكتسبة، وهو إتفاق (مجحف جداً) من الأساس و(قسمة ضيزى) ليس وبالاً على السودان فحسب، بل يمتد عواقبه إلى بقية دول النيل التي لم تشر الإتفاقية إلى أي حقوق تاريخية أو مكتسبة لهم في مياه النيل. وهذا لا يتفق مع (الإتفاقية الدولية حول المياه العابرة للحدود) والتي تمنح الدول حق الإنتفاع وحق الأجيال القادمة.
يقع جنوب السودان ضمن دول حوض النيل التي تقع في نطاق النيل الأبيض وروافده، وهو غني بالمياه الجوفية والسطحية ومياه الأمطار، إذ أن معظم أراضيه تقع في السافنا الغنية والمنطقة الإستوائية المطيرة، ما يعطيه ميزة هطول الأمطار في معظم أرجائه لأكثر من تسعة أشهر في العام، وتلك ميزة لم تكن موجودة في السودان القديم، إذ أن الإقليم الشمالي تحتل الصحراء وشبهها ما يقارب الـ 70% من أراضيه (النسبة غير دقيقة).
يجدر بالقول إن التكتل الذي قادته بقية دول حوض النيل في السنوات الماضية والداعي إلى إعادة تقسيم مياه النيل في (عنتيبي)، لهو أمر في غاية الأهمية ويجب ان لا يمر هكذا، فهذه الدول لا بد أنها في يوم من الأيام ستكرر تلك المطالب، ومن يدري..؟! قد تختلف الظروف هذه المرة، مما قد يؤدي إلى (حرب) وليس مواجهات دبلوماسية بين دول النيل، فسد الألفية (النهضة) الإثيوبي خير مثال على ذلك، إذ أن الأمر وصل بين الدولتين - إثيوبيا ومصر - مرحلة قطع العلاقات لولا تدخل الرئيس السوداني عمر البشير وقيادته لمساعي كُلِّلت أخيراً بإتفاق الخرطوم في مارس 2015م الذي قام بتحريك (جبل الجليد) الذي إعترض طريق العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وأديس أبابا. وبما أن جنوب السودان يعتبر وافداً جديداً على المنطقة، فإن مسألة أن يظل بعيداً عن هذا الحراك مما لن تكون في مصلحته البتّة، فإتخاذ موقف يؤيد دول المنبع الثمانية (كينيا، إثيوبيا، أرتريا، أوغندا، الكنغو، رواندا، بورندي وتنزانيا) واستثني جنوب السودان لكونه (دولة ممر)، أو دول المصب (مصر والسودان)، نقول إنه أمر ضروري، وصمام أمان لحقوق الأجيال القادمة.
في تجربتي الشخصية وخلال لقائي مع السيد وزير الدولة للري والموارد المائية بجنوب السودان السابق، أدركتُ تماماً أن الحكومة لا تولي هذه القضية أي أهمية أو بُعد إستراتيجي، بل الحكومة في غمرة سعادتها بالإنفصال الذي أسمته (إنتصاراً) في ذلك الوقت، ظلت منشغلة بتوزيع المناصب الدستورية أكثر من أي أمر آخر. لكن الأمر يختلف يوماً بعد يوم، إذ أن الأجيال القادمة في جنوب السودان هي من تقول كلمتها حول هذا الأمر، مهما أخفق الآباء المؤسسؤن الأوائل للدولة.
إن جمهورية مصر العربية التي حازت - وفق الإتفاقيات المتتالية 1906 و1929 و1959 - على نصيب الأسد من مياه النيل، مطالبة الآن أكثر من أي وقت مضى بالنظر في تلك القضية بعد أن إستجدت قضايا كثيرة كـ(إنفصال جنوب السودان) وشروع إثيوبيا في بناء (سد الألفية)، وعلى الرغم من أن النيل الأبيض الذي يمر بجنوب السودان لا يساهم إلا بنسبة ضئيلة جداً من مياه النيل تصل إلى 15% فقط، وكذلك التقارير العلمية التي ترشحه إلى النضوب في غضون المائة سنة المقبلة، إلا أنه يعتبر مورداً مهماً للمياه بالنسبة لمصر والسودان، فجنوب السودان بلا شك سوف لن تقف أمامه أي قوة إذا أرادت إنشاء سد بحجم (السد العالي) على مجرى النيل الأبيض، وذلك لأن حق الإنتفاع وفقاً للإتفاقيات الدولية، سيخوّل له هذا إن أرادت مصر مقاضاته أو منعه من ذلك.
على الرغم من أن مصر قد قامت منذ وقت مبكر بإقامة مشروعات ميترولوجية (Metrology)على النيل الأبيض في كل من الخرطوم وملكال ومنقلا (جوبا) أو ما عُرِف في السودان بـ(الري المصري)، إلا أنها محطات ظل الغرض منها قياس مناسيب النيل ومراقبة حركة التحول المناخي وخطوط المطر ..إلخ دون أن يكون لذلك عائد على مجتمعات المنطقة في الخدمات والبنية التحتية، وبالمقابل فإن الدور المصري مطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى، وذلك إما بالدخول في شراكات ذكية مع دول حوض النيل فيما يتعلق بالمشروعات المائية للإستفادة من خبرتها الطويلة في مجال هندسة الري، أو أنها ستفقد كل الدول التي تتحرك في الخفاء الآن بواسطة أيادي خارجية لسحب البساط من تحتها، ومن ثم تشييع إتفاقيات مياه النيل جميعها إلى مقبرة التاريخ.
إن معضلة (قناة جونقلي) قد تجد الحلول، لكن هذه المرة في صالح جنوب السودان، خيراً ورخاءاً على المنطقة ومجتمعاتها، حيث أن أي رأي مصري بأن يأخذ جنوب السودان نصييبه من حصة السودان التي تقدر بـ 18.5 مليار متر مكعب بإعتبار أنهما كانا دولة واحدة، سيواجه بالرفض التام من قبل جنوب السودان، أما الجانب السوداني فلا أعتقد أنه حينئذٍ سيقف إلى جانب مصر (كما يقف الآن).
ليس من العدالة أن يُغْمَض الطرف عن حقوق جنوب السودان من مياه النيل لمجرد أن الدولة تمر الآن بأزمة سياسية طاحنة كادت تؤدي بها إلى الإنهيار، فالوزارة المعنية يجب عليها أن تتحمل مسئوليتها كاملة تجاه هذه القضية والدخول مع الأطراف كافة في مباحثات مكثفة توطئة للشروع في بدء المشروعات التي تتعلق بالمياه كبناء السدود لتوليد الطاقة الكهرومائية والتخطيط للمشروعات الزراعية وتنفيذ الملاحة النهرية، وهي جميعها مشروعات تخدم النهضة المنشودة للدولة في بدايات تأسيسها.

stephone1258@hotmail.com

 

آراء