حوار بالحسنى مع الأستاذ عبد الواحد محمد نور:

جذور الفكر العنصري ومستنداته في السودان
 د. محمد وقيع الله
 waqialla1234@yahoo.com
 (الحلقتان الرابعة والخامسة)
إذا نحينا الحديث عن فكر حركة التمرد التي يقودها الأستاذ نور لهنيهة جانبا، ريثما نتأمل في شكل القوى والديناميات التي تعتمد عليها وتراهن عليها، لرأينا أنها قوى وديناميات التمرد الإثني القبلي الإقليمي ليس غير. وفي الحق فإن هذه مفارقة كبيرة أن تستعين حركة فكرية ذات مبادئ وأفكار وشعارات تقدمية، بجماعات تعد حسب تصنيفات اليسار من قبل القوى القديمة لا القوى الحديثة التي يدعي بأنه يعتمد عليها ويراهن عليها.
وإذا تأملنا في هذه المفارقة جيدا استبانت لنا معالم توجه اليسار السوداني للاعتماد على الجماعات الإثنية والقبلية والمحلية لتنفيذ مخططاته (الثورية) لتمزيق الوطن. ومن هنا لا نستغرب أن يستعين الأستاذ نور لدعم حركته  المتمردة في دار فور بجماعات مطلبية ذات أهداف وقتية صغيرة كجماعة المطالبة بالتعويضات حول سد كجبار.
الأستاذ نور وسد كجبار:
 وقد بدا الأستاذ نور متلهفا للحديث عن جماعة سد كجبار. فعندما سأله الأستاذ شعيب السؤال التالي المقصور على شأن علاقته بالحركة الشعبية وهو السؤال القائل:” وماذا عن علاقتكم بالحركة الشعبية؟” زجَّ الأستاذ نور في إجابته ولغير ما داع معقول حديثا عن علاقته بجماعة سد كجبار فقال:” في قوي اخري ناس كجبار وقوى اخري كتيرة نحن ماشين معاها وحنغير البلد”.
إن قيام جماعة مطلبية  وقتية صغيرة كجماعة سد كجبار، هو أمر طبيعي يحدث في كل ظل الأنظمة السياسية، وحول أي عمل تنموي تحويلي كبير. وتعالجه السلطات السياسية الحاكمة بالحكمة والأريحية ودفع التعويضات لسد الذرائع التي تندلق منها الفوضى ويقطر منها الفساد.
 ولكن الأستاذ نور يريد أن يستقطب مثل هذه الجماعات المطلبية المشروعة أو غير المشروعة ويدفع بها ويشجعها لكي تصبح حركات تمرد دائمة خارجة عن القانون كحركته، تقوم بتعطيل مشروعات التنمية في إقليمها كما فعلت حركات التمرد في دار فور حين عطلت مجهودات التنمية في إقليمها، وأضرت به ضررا ضررا بليغا، وإلا فما داعي استعانة الأستاذ نور بجماعة تعويضات سد كجبار، وهو الذي رفض وما يزال يرفض أن ينسق جهوده مع الأحزاب السياسية الكبرى، ومع جماعات التمرد المناظرة له في دار فور، كالجماعة المسماة بجماعة العدل والمساواة؟!
لم يحدثنا الأستاذ نور عن أي دافع آيديولوجي ثوري معقول يدعوه لكي يضخم من شأن جماعة سد كجبار، ولم يتحدث، لحسن الحظ، عن اضطهاد عنصري أو ديني لحق بتلك الجماعة ودفع بها إلى التمرد والثورة المرتجاة، ولا ندري هل سيأتي الأستاذ نور في يوم آخر ليحدثنا عن ذلك الدافع الذي لم يحدثنا عنه اليوم؟! أم أنه سيقتنع بمنطقنا القائل إن المشكلة في أساسها مشكلة تخلف، ناتج عن الفقر، وضآلة الثروة، وسوء استخدام الامكانات المتاحة، وليست مشكلة تمييز عنصري، أو ديني، أو أي شيئ من هذا القبيل الذي يروج له اليساريون في هذه الأيام؟!.
إن مأساة اليساريين التقدميين السودانيين الذين ينتمي إليهم الابن عبد الواحد تكمن في انحدار حركاتهم النضالية الثورية إلى مستوى الحروب القبلية، أي إلى أدنى مستوى صراعي (غير طبقي!) شهده التاريخ. وهذا ما بدأه قبلهم مناضلو الحركات اليسارية التقدمية في اليمن الذين كانوا يبشرون بالصراع الطبقي، وبوحدة الكادحين على نطاق شعوب الجزيرة العربية أجمع، ثم انتهت حركاتهم إلى أن تتشرذم على أساس الانتماءات القبلية اليمنية الضيقة، وأن تخوض حروبها الشرسة على هذا الأساس!
ديكور على شكل ياسر عرمان:
  ولما شعر الأستاذ نور ذو الخلفية التقدمية اليسارية بهذا الانحدار النضالي لحركته التي ترنو إلى تحرير السودان من أهله، عاد يماري ويقول إن مؤسسي حركته ومناضليها جاؤوا من كل أنحاء السودان:”سبق أن قلت ان مؤسسي الحركة من كل اقاليم السودان..هناك 17 شخص من المؤسسين، كان بعضهم من الجنوب والشمالية بما فيها منطقة شندي..تكويننا في الحركة ليس له علاقة بالقبلية”.
وهذه مزاعم يصعب تصديقها ولا يمكن أن يتخذ ظهور شخص أو عدة أشخاص من خارج دار فور كجزء من الديكور في حركة التمرد الذي يقوده الأستاذ  نور كدليل على قومية  هذا التحرك المتمرد. إلا إذا صدقنا أن وجود ياسر عرمان، ومن قبله منصور خالد، في حركة التمرد في جنوب السودان، دليل أكيد على قوميتها!
ولا أدري لماذا يحتاج الأستاذ نور إلى أن يؤكد على منطقة شندي كل هذا التأكيد؟! فقد لاحظت أنه كرر هذا التأكيد على منطقة شندي أكثر من مرة خلال الحوار، فما هي هذه الخصوصية التي تمتاز بها منطقة شندي وتجعل الأستاذ نور يعطيها اعتبارا خاصا دون مناطق السودان الأخرى؟! هل يعتقد الأستاذ نور أن منطقة شندي تمثل شمال السودان أكثر مما تمثله مناطقه الأخرى؟! أم يرى أنها تتمتع بنصيب من الثروة والخدمات لا تتمتع به مناطق السودان الأخرى؟! إن كان الأستاذ نور يعتقد ذلك فعليه إذن أن يزور منطقة شندي ويمكث فيها أياما ليرى فيها غير ما يراه فيها من وحي الخيال!
وإذا ما زار الابن نور منطقة شندي، ولبث في ضيافة أهلها الكرام أياما، فلا شك أنه سيغير انطباعه الخيالي الزائف عنها. وسيدرك أنها منطقة متواضعة من حيث الثراء، ومن حيث البنية التحتية، ومن حيث التمتع بالخدمات. وسيرى أن أهلها الكرام لا يزالون يكافحون أشد الكفاح من أجل لقمة العيش الشريف، معتمدين في ذلك على أنفسهم، شأنهم شأن جميع أهل البلاد. وعندئذ لا يحتاج الأستاذ نور إلى أن يستصحب من أهل شندي وما جاورها من يعمل معه لغرض دلالي موهوم.
ولإحساس الأستاذ نور بصعوبة تصديق  هذه الغرض الدلالي الرمزي المصطنع، عن قومية حركته، ولحاجته إليه في الوقت نفسه، فقد عاد يؤكده بشكل مختلف. ففي مرة أخرى خاطب محاوره قائلا:” لأكن معك صريحا احنا فكرنا مع شباب كتيرين اصحابنا قعدنا معاهم.. من الجامعة ومن خارج الجامعة.. الليلة منهم 17 من مؤسسي الحركة لا استطيع اذكر اسماءهم نهائي الآن. الكلام ده سنة 92 ومعانا اربعة بنات والبقية شباب من شمال السودان اقصد الشمال الجغرافي..اعني الشمالية وناس من الوسط وناس من الجنوب وناس من جبال النوبة وناس من دارفور انا من ضمنهم وناس من الخرطوم ايضا”.
فكأنه يوحي  بقوله هذا أن حركته المتمردة في دار فور، هي حركة قومية خالصة، وأن معظم أعضائها هم من شمال السودان (الجغرافي) وأنه جاء إليها ضمن نفر قليل ليمثل إقليم دار فور، وهو قول يصعب تصديقه مثلما يصعب التدليل عليه!!
التواؤم والتلازم:
 ولكن القول النظري الذي يصعب تصديقه في هذا السياق، يمكن تصديقه بسهولة إذا أطلق في سياق آخر. أي عندما يطلق على السياق القومي الطبيعي العام  الخارج عن إطار حركات التمرد ذات الصبغة العلمانية المنبثة عن الحزب الشيوعي السوداني، أو حركات التمرد  ذات الصبغة العنصرية المنبعثة عن أحشاء المؤتمر الشعبي.
فعلى المستوى القومي السوداني لا توجد نُعرة عنصرية  (مُمَأسسة) متأصلة كما أكدت أنا في صدر هذا المقال، وكما يوافقني الأستاذ نور حين يقول:”في منطقتنا تتلازم الاشياء وتتعايش..وحينما كنا أطفالا ذهبنا إلى الخلوة وحفظنا اغاني كتيرة بلغة أهلي الفور وبذات الطريقة حفظت الكثير من أغاني أهلنا العرب، وكنت أذهب مع صديقي داؤود حمدان لمنطقة “ام زعيفة” اثناء الصبا..نذهب هناك لنرقص على أنغام “السنجك” وهي أهزوجة عربية وداؤود موجود حاليا في السعودية وينتمي إلى أحد القبائل العربية.. والحقيقة أن الغناء عندنا في دارفور تعبير عن ذات الناس وسواء كنت من العرب او الفور فلا بد أنك رقصت على أنغام إيقاعات قبائل الفور والعرب والمساليت أو القبائل الأخرى”.
ولو قال الابن الأستاذ نور شيئا غير ذلك لاتهمناه فيما يقول، ولكنه لحسن الحظ نأى عن المغالطة، وذكر الحقيقة التي لا يماري فيها انسانان، ولا تنتطح فيها عنزان. وهاهنا نسأله: ماهي المشكلة إذن طالما أن الناس يتعايشون ويتواءمون ويمتزجون بحب وسلام؟!
هل جاءت الحكومة السودانية الإنقاذية (الإسلامية) ومنعت هذا التواؤم والتلازم الاجتماعي الطبيعي الطيب في حياة الناس، كما فعلت الحكومة  القومية التركية (العلمانية) المتشددة في علمانيتها، حينما تدخلت في أدق خصوصيات القوميات الموجودة على الأرض التركية، ومنعت الأكراد مثلا من الغناء بلغتهم القومية، ومن الاحتفال بأمجادهم التاريخية، ومن تلقي التعليم باللغة الكردية، بل حتى من الحديث بتلك اللغة؟!
 إن الحكومة الإنقاذية (الإسلامية) في السودان لم تفعل ذلك، ولم تفعل شيئا منه، ولا من قبيله، ولن تفعله، وما ذلك إلا لأن الإسلام لا يأمرها أن تفعل ذلك، ولا يقرها على فعل شيئ منه. ولكن نظم الحكم (العلمانية) التي يعجب بها الأستاذ نور هي التي سوَّغت للجمهوريين (العلمانيين) الأتراك أن يمارسوا سياسة (التتريك)،  وازدراء القوميات الأخرى، وتحقيرها، واضطهادها، بما فيها القومية العربية، وذلك منذ أن جاؤوا للحكم بانقلاب جماعة الاتحاد والترقي في الربع الأول من القرن الماضي، هذا بينما نجد إسلاميي تركيا وحكامها اليوم هم وحدهم الذين يحاولون رفع هذا الضيم عن الأكراد وعن القوميات الأخرى المضطهدة على الأرض التركية!
 حوار بالحسنى مع الأستاذ عبد الواحد محمد نور:
جذور الفكر العنصري ومستنداته في السودان
( 5 من 8 )
من طريف ما أتحفنا به الإبن الأستاذ نور، في حواره مع الأستاذ صلاح شعيب، أن أنبأنا أنه كان في ماضيه معجبا بالقريض العربي، وأنه كان يهلهل الشعر على بحوره وقوافيه، وأنه نظر نظر وتأمل وإعجاب في خرائد الشعر الجاهلي والأندلسي، وذلك منذ أن كان طالبا في المدرسة المتوسطة، وأن زملاءه الطلاب كانوا ينادونه باسم أمير القوافي الأندلسي ابن زيدون!
كان شاعرا عربيا تقليديا:
 وعن تلك الفترة يقول الابن الأستاذ نور:” لم اكن اري ان إختلاف التكوين الثقافي مشكلة في حد ذاته..المشكلة تكمن في سيادة ثقافة ضد ثقافات اخري وفي بلد متعدد الثقافات والاعراف.. لم أكن شخصا منعزلا ليتخذ موقفا غيجابيا (هكذا في الأصل!) من ثقافة ما، فمثلا إنني كنت شاعرا وكانوا ينادوني بإبن زيدون وكنت احفظ اغلب المعلقات وانا في المتوسطة وكان استاذي محمد سعيد، وهو الآن وكيل نيابة، يساعدنا في حفظ القصائد ويساعدنا أيضا في كتابة الانشاء”.
 وقد أبان الأستاذ نور عن إعجابه بشعر عنترة بن شداد، وأبي فراس الحمداني ،وأنشد أبياتا له يذكرها الناس عادة منسوبة إلى المتصوفة رابعة العدوية، وهي في الحق لأبي فراس. وذكر من شعراء السودان عبد الله الطيب المجذوب، ومحمد المهدي المجذوب، والتيجاني يوسف بشير. وقال إن لشعر هذا العبقري الأخير أثر كبير في توجهه الأدبي.
ومعنى هذا أن الثقافة العربية الأصيلة هي الثقافة التكوينية الأصيلة للأستاذ نور، ولا نتردد أن نقول إنه قد أصبح بتمكنه في أدب العرب، أكثر من العرب، وشغفه بأدب العرب، أكثر من العرب، من خالص عرب العرب، كما كان يفخر شاعرنا السوداني الوطني الكبير صلاح أحمد إبراهيم.
ولما قاله الأستاذ صلاح أحمد إبراهيم عن نفسه قديما، ولما نقوله عن أديبنا  السوداني العربي الأستاذ محمد نور حديثا، سند مكين من الدين ركين، فليست العربية من أحدنا شيئا غير اللسان، كما قال سيد بني الإنسان، عليه أفضل صلاة وسلام.
العروبة والحداثة في الأدب:
 وكم نود أن نرى شعر الأستاذ نور منشورا في ديوان، ولست أدري كيف غفل الأستاذ شعيب، وهو محاور فطن، أن يسأل هذا الشاعر الثائر ويلح عليه لكي يتحفنا بنماذج متعددة من (سقط زنده)، أي شعره في عهد الصبا، وأن يسأله عما إذا كان لا يزال على عهده الأول في صوغ القريض؟! أم شغلته عنه السياسة كما شغلت عنه زعماء آخرين، ليس منهم ابن زيدون؟!
 ثم يسأله عن رأيه في موجة الحداثة الأدبية الناقمة على العروبة في هذه الأيام، لماذا لم يتأثرها ويقتفيها ؟! وهي الموجة التي تقود اليوم على صعيد الأدب دعاوى الشعوبية المنكرة المتنكرة لمجد العروبة، في قلب ديار العروبة، حتى أنها غدت على صعيد الشعر، ترى أن من العار أن ينظم شاعر عربي عصري قصيدة  مقفاة، موزونة على بحور الخليل، وأمست الصفحات الأدبية التي يسيطر عليها هؤلاء الأدباء الحداثيون تمتنع تماما عن نشر أي قصيد عربي على النهج العربي الرصين!!
ولما كان الأستاذ شعيب قد أغفل سؤالا مهما كهذا، فقد أعوزنا إجابة  مفصلة واضحة، كنا نتمنى أن نجدها من الأستاذ نور، لكي تكتمل رؤيتنا إلى فكره ومذهبه الأدبي إلى حد ما. ولكن ربما أسعفتنا لمحة عابرة ذكر فيها الأستاذ نور أنه لا يميل إلى الشعر الرمزي المبهم الذي يهيم به الرفاق. قال ذلك عندما سئل رأيه في أغاني مصطفى سيد أحمد فأجاب:” كنت بحبو جدا لما يغني بلابل الدوح وغدار دموعك… لكن لما رجع للطيور روحني مع الطيور و”البت الحديقة” بعد داك ما كنت بستمع ليهو ودا اكبر خلاف كان بيني وبعض زملائي.. لأني ما كنت بفهم أغانيهو الجديدة لأني لا     إستلطف الشعر الرمزي نهائيا”.
وهذا ولا ريب دليل أصالة وسلامة ذوق واستقلال وقوة في شخصية عصمت الأستاذ نور ومنعته من الانسياق الأعمى وراء أذواق الرفاق الآيديولوجيين التقدميين الشيوعيين الشعوبيين.
 واستئناسا بكل هذا فإنه فلا يجوز لناقد  متسرع أن يجازف في القول، ويعمم ، ويزعم أن مواقف الأستاذ نور التي تبدر منه أحيانا ضد العروبة، لابد أن تكون قد ساقته، أو أنها ستسوقه حتما إلى مواقف الشعوبية المتنكرة لماضي الأدب العربي الرصين.
وكان معجبا بمحمد وردي:
لقد أكد الأستاذ نور في أكثر من موضع من حواره أنه لا يزال على إعجابه القديم بروائع الشعر العربي، التي لا يحرم من تذوقها إلا مغبون الحظ حقا في هذه الحياة الدنيا! و كان جميلا أيضا أن الأستاذ نور لم يسقط إعجابه القديم بالفنان محمد وردي، كما فعل بعض غلاة الشيوعيين الذين كانوا يملأون الصحف (واللإنترنت) ضجيجا بآيات إعجابهم به، حتى إذا هادن محمد وردي الإنقاذ قليلا، وتخلى عن غلوائه غير المبرر في عدائها، تخلوا عنه وكأنه ما كان مطربهم (النضالي!) الأثير!
فعندما سئل الأستاذ نور عن فنانه المفضل، أجاب:” منذ نشات كنت من المعجبين جدا بالفنان النور الجيلاني وكذلك الفنان محمد وردي”. فهاهو الأستاذ نور يكشف عن إعجابه بضرب من الفن القومي الذي يشكل قاسما مشتركا بين أكثر مواطني القطر، ولم يذكر الأستاذ نور مع هذين الفنانين الذين ذكرهما واحدا من أرباب الفن المحلي الدارفوري، أو غير الدارفوري، إلا بعد أن سأله الأستاذ شعيب عن أرباب الفن الدار فوري على وجه التخصيص.
وفي الحقيقة فإن هذه إجابة تكشف عن مغزى كبير، وتدل على أن الفن الذي يحرك أعمق خوالج الناس هو ما يمكن أن يسمى بالفن القومي لا المحلي، وأن الفنان الذي يشتهر على الصعيد القومي، ويتعلق به الناس في مختلف أنحاء القطر، هو الفنان الذي يصدح باللغة الفصحى أو ما يقرب منها، أي باللغة العامية التي يتكلمها ويفهمها معظم أهل البلاد.
 ولو أن الفنان محمد وردي الذي أعلن الأستاذ نور عن إعجابه بفنه شدا أغنياته برطانة قومه من أحبابنا الحلفاويين الكرام، لما وجدت أغنياته صدى في دارفور، ولم ترنم بها الناس وتعلقوا بها في أقاليم السودان المختلفة، وفي أنحاء متفرقة من قارتنا الإفريقية، التي يمكن أن تتعرب عندما ينتشر فيها فن أهل السودان.
الحكومة والبيروقراطية والفن الشعبي:
وبالطبع فلا أحد يقف ضد أن يغني المرء بلهجة قومه ورطانتهم. فهذا أمر عادي جدا. وطبيعي جدا أن يغني المرء بلسانه المحلي الذي نشأ فيه، ودرج في أجوائه وطرائقه في التعبير. ولكن من غير المعقول أن يطالب البعض، أو يتوقع، أن تروج الأغنيات ذات الصبغة المحلية، كما تروج الأغنيات المصوغة باللغة الجامعة التي يفهمها كل الناس.
وخلافا لما حاول الأستاذ نور أن يؤكده، فلا  توجد عقبة تمنع من انتشار الفن الشعبي على نطاق قومي، إلا هذه العقبة الذاتية المنشأ. ولا يوجد في السودان، على مستوى الحكومة المركزية أو بيروقراطيتها من يقف ضد انتشار الفنون المحلية، ويمنع نموها، ويحجب انتشارها، حسب ما يمكن لها أن تتمدد وتذيع، بشكل طبيعي غير مصطنع ولا مصنوع.
 ومن المعروف أن الإذاعة السودانية تقدم منذ القدم برنامجا ذائعا للفن الشعبي عنوانه (ركن السودان) الذي تخصص في  بث أغاني الأقاليم السودانية المختلفة، وهو فيما أظن من أنجح البرامج الإذاعية، ولعله لا يزال على مستواه المتألق منذ أن كان قديما.
   وأما التلفزيون القومي السوداني فهو فيما يبدو أشد اهتماما بالفن الشعبي. وبرامج الراحل الأستاذ الكبير العلامة الطيب محمد الطيب، الذي هو أكثر من خدم أغاني دار فور في التلفاز، كانت وستظل من أنجح البرامج التلفازية وأروجها.  ويقيني أنها ستعد في المستقبل القريب بعض أهم  كلاسيكيات البرامج الفنية السودانية على الإطلاق.
خصوصية الفن الدار فوري:
 وإذا نظرنا من زاوية أخرى إلى هذا الأمر الذي يتعلل به الأستاذ نور، بأكثر مما يجوز له، ويحاول أن يستنتج منه خلاصات (عقائدية وشوفونية) غير سائغة، يمكن القول إن الأستاذ نور يظلم إقليمه أشد الظلم إذا أراد أن يصوره على أنه ناطق بغير العربية المفهومة في بقية أنحاء السودان!
 وسيظلم الأستاذ نور إقليمه أشد الظلم، اذا حاول أن يزعم أن فنانيه الكبارلا يستطيعون ان يعبروا عن أنفسهم بالعربية الفصحى، أو بالدارجة العامية، المفهومة في سائر أنحاء السودان، وأنهم لا يستطيعون أن يبينوا عن مشاعرهم ويعربوا عنها إلا باللهجات الفوراوية المحلية!
 مغنية أم كادر حزبي؟!
فهذه دعوى ما أبعدها عن كل صواب. وليس أبعد من ذلك عن  كل صواب، إلا زعم الأستاذ نور، أن مغنية محلية في دار فور، تذكر أنه معجب بفنها فقط عندما سأله الأستاذ شعيب:” وهل هناك بعض الفنانين في دارفور أعجبت بهم؟” قد تعرضت لمتاعب من قبل السلطات!
 وفي هذا الصدد قال :” كانت هناك فنانة اسمها مريم مابو وهي تغني بلهجة الفور وهي مشهورة جدا ولكن لأنها تغني بالرطانة واجهت مضايقات من الحكومة وإنضمت للحركة وهي الان بنيروبي بعد أن صعب عليها العيش في دارفور”.
وهذا كلام شديد الإبهام والإيهام. فما هي على وجه التحديد المضايقات التي تعرضت لها هذه المطربة غير المشهورة؟ لم  يتحدث الأستاذ نور ولم يتحدث غيره من كوادر حركته، على سبيل الدقة، والتفصيل عن أمر هذه المضايقات المزعومة.
ولا ريب أن هذه المطربة لو كانت تعرضت إلى أي نوع من المضايقات لكان إعلام اليساريين الطاغي قد جعل خبرها حديث الركبان، وملأ به الأثير والآفاق، فليس من عادة هؤلاء اليساريين أن يسكتوا عن لمسة إضطهاد واحدة، أو بادرة ملاحقة أو مضايقة واحدة،  يتعرضون إليها. وطالما أن إعلامهم الكثيف قد سكت عن ذكر ذلك الاضطهاد المزعوم، وعن تضخيمه، واستغلاله إلى أبعد مدى، فمعنى ذلك أنه ليس سوى اضطهاد مزعوم لم يحدث على الإطلاق!
ومما يحملنا على حمل الأمر على هذا المحمل أن الأستاذ نور قد ذكر أن هذه المطربة كادر عامل في حركته المتمردة الآن، فالأمر لا يتعدى إذن أن يكون مجرد محاولة لتلميع هذه المطربة التابعة للحركة ليس إلا. وبذلك تبطل كل الدلالات التي ساق الأستاذ نور دعوى الاضطهاد لتأييدها من مثل قوله:” لذلك لا بد لنا من مقاومة سيطرة الثقافة الاحادية واستعلاءها وتميزها علي بقية الثقافات.. وهذا يعني أن السلطة تتسبب في جعل الثقافات متصارعة بدلا من تعايشها ولو كانت الثقافات الاخري قد وجدت الاهتمام بالتساوي لما شعر شخص باستعلاء ثقافة علي اخري وإذا أحس أمرئ أن اللغة العربية مفروضة عليه وكذلك الدين الاسلامي فإن الحروبات ستأتي لا محالة..”.
وهذا أمر لا يحس به أحد لأنه غير موجود على الإطلاق، ولذلك فلا يصح أن يجزم الأستاذ نور بحتمية قيام الحروب كحل جذري  لمشاكل البلاد، فهذا أمر ليس بحتمي الوجوب، وليس له من مسوِّغ لأنه لا أحد يفرض العربية على أهل دار فور فهي لغتهم الأم، ولا أحد يفرض عليهم الإسلام فكلهم مسلمون، ويفخرون كما نفخر بأنا مسلمون.

 

شاهد أيضاً

مرآة ذهنيتي على بندقية الوطن: الجيش السوداني في معادلة الشرق الأوسط

زهير عثمان zuhair.osman@aol.com هذه مقاربة فيها الكثير من الخيال المجنون، الذي ساقني إليه التأمل العميق …