*لا زلنا وسنظل نعيش في ازمة مؤلمة بسبب الحرب الدائرة في البلاد ، والسبب ان هذه الازمة اصبحت تحمل طابعاً اثنياً ، اكثر من كونها صراعاً ايدولوجياً من اجل نشر مفاهيم ذات علاقة باطروحات او قيم فكرية ، او بمعنى ادق دفعت هذه الازمة الجميع الى النظر الى الجوانب الاثنية اكثر من التركيز على مناقشة القضايا الخلافية المطروحة حول كيفية ادارة البلاد وتطويرها لتحقيق العدالة والمساواة والرفاهية التي من اجلها صوتت الغالبية لصالح استقلال البلاد ، وفي وقت وجيز جداً حدثت الفوضى بحيث اصبحت الوقائع تشير الى ان شعب جنوب السودان صوت لصالح الاستقلال من اجل ان يموت ويشرد ويعاني من ظلم الذين هم في المؤسسات المناط بها حماية حقوق المواطنين بمختلف انتماءاتهم الاثنية او الدينية .
*قبل الاستقلال ظل سؤال القبيلة غائباً تماماً على هذا النحو المطروح الان ، صحيح لم يكن غائباً تماماً بالمعنى اللغوي للكلمة ، ولكنه لم يكن حديثاً يملأ كل الاماكن من دواوين حكومية او منابر شعبية ، فكان من السهل ان تغادر من مدينة الى اخرى حتى وان كانت تلك المدينة لا تحتوي أي شخصاً تعرفه او زاملته من قبل ، لقد كانت كل المدن كريمة في عمل الخير والكرم وكان ابواب المنازل مفتوحة للجميع غض النظر عن انتمائهم الاثني ، ولكن الان ماتت تلك المدن المعروفة بكرمها الفياض وعرفها الجميع والحكاوي التي تسرد من حين الى اخرى على مسامع من لم يفكروا في زيارة تلك المدن والتي عندما زاروها احسنوا الحديث عنها ماتت مدن جميلة شارك الكل في بناءها بسبب صراع لا يحمل أي قيمة انسانية ، دفعت الى تدمير وقتل مدن ، وكانوا من قاموا بهذا العمل خبراء جدا في تدمير المدن وليتهم كان خبراء في صناعة المدن ، لو كان كذلك لما اشتعلت هذه الازمة التي نعيشها الان .
*طوال الفترة الخاصة بتنفيذ اتفاقية السلام الشاملة التي وقعت في نيفاشا 2005م ، لم تكلف الحركة الشعبية لتحرير السودان نفسها عناء العمل بكل جهد في سبيل بناء واعمار مدن عديدة في البلاد ، في ظل الوقت كانت قيادة الحركة متماسكة واكثر من موحدة ، وتمتلك اموال ضخمة جدا كانت قادرة على بناء مدن جديدة وقريبة من المقاطعات العديدة المنتشرة في جنوب السودان ، ولكنها بالرغم من وحدتها العميقة فشلت في بناء مدينة كبيرة فحتى شقدوم لا تزال كما هي وكان الحرب لا تزال مستمرة والامثلة في هذا الاطار عديدة ومؤلمة جداً ، خصوصاً اذا نظرنا الى حجم الاموال العديدة التي ظلت تحول الى الحسابات البنكية الخاصة بحكومة جنوب السودان .
*وبعد الاستقلال ادى الصراع بين قادة الحركة الشعبية الى هدم المدن التي لم يساهموا حتى ولو ب"طوبة واحدة " في بناء مرافقها الحيوية ، تم هدم كل هذه المدن باسلحة اذا عرضت للبيع لا يمكن ان تجلب اكثر من 10% من الاموال التي صرفت لبناء تلك المدن ، والان اذا توصلت الاطراف المتصارعة الى اتفاق حقيقي للسلام فانها ستكون بحاجة ماسة الى اموال اكثر من التي صرفت للحرب لمحاولة بناء تلك المدن التي هدمت " اكرر محاولة بناء فقط " ، ان الذين ساهموا في تدمير هذه المدن عن طريق توجيه تعليمات عسكرية فقط ، هم في الحقيقة خبراء فقط في الهدم وليس في البناء ، هدموا كل الاشياء الجميلة حتى جدار النسيج الاجتماعي الذي كان متماسكا قبل تلك الازمة التي نعيشها .
mathiangcirilo@gmail.com