دراسة علمية حول التغطية الصحفية لقضية المحاليل الوريدية الهندية

 


 

 


هذا عرض موجز لبحث علمي تم نشره في المجلة العلمية /الطبية العالمية "السياسة الصحية Health Policy"  في مطلع هذا العام (2011م)  اضطلع به مختصون  يعملون في وزارة الصحة الاتحادية بالخرطوم وكلية للصيدلة في إحدى الجامعات الماليزية، هم جمال محمد علي وأبو بكر الفاضل وأحمد فتح الرحمن. يحاول البحث المنشور الإجابة بصورة مجملة عن سؤال كبير هو: هل للصحف دور ما في عملية اتخاذ القرار في ظل أوضاع غير ديمقراطية، ويتخذ لذلك مثالا عمليا مفصلا هو تناول الصحف السودانية الصادرة بين 17 يناير 1999م و 8 أكتوبر 2007م لقضية المحاليل الوريدية الهندية، ومدى صلاحيتها وسلامتها. تسهل الإجابة على السؤال عن تأثير الصحف (وبقية الوسائل الإعلامية) على متخذي القرار في المجتمعات الديمقراطية، إذ أنه من المعتاد (والمتوقع) أن تلعب الصحف دورا مميزا ورئيسا في تشكيل هذه الوسائل الإعلامية لعملية اتخاذ قرارات الهيئات والحكومات. بيد أنه – وفي المقابل-  نجد أن الحال مختلف جدا في الدول التي تنعدم أو تقل فيها الديمقراطية. من المؤسف أنه يندر القيام عندنا  بمثل هذه الأبحاث الهامة التي تهدف إلى تقييم اتجاهات الرأي العام وتأثير وسائل الإعلام (ومنها الصحافة) عليها، خاصة في الأمور  الخلافية وحمالة الأوجه (وما أكثرها)، خاصة تلك التي تمس حياة المواطنين وصحتهم ومعاشهم ورفاههم. فما أكثر القضايا والحوادث المعزولة التي خلقت منها وسائل الإعلام (والصحافة خاصة) أمورا عامة ذات شأن وأهمية.
من القضايا التي ملأت الدنيا وشغلت الناس قضية الشركة الهندية "كور"المصنعة للمحاليل الوريدية. لقد ظلت تلك الشركة هي المصدر والمورد الوحيد للمحاليل الوريدية في تسعينات القرن الماضي لهيئة الإمدادات الطبية (وهي الوكالة الحكومية الوحيدة المخولة بشراء وتوزيع كل الأدوية والمعدات الطبية لكافة أرجاء البلاد). حدث ذات مرة أن استوردت كمية من هذه المحاليل الوريدية، واكتشف فيما بعد أن كثيرا منها ليست معقمة كما ينبغي (أي أنها ملوثة). ينبغي علينا تذكر أن تلك الشركة الهندية كانت في عامها الخامس من تصدير المحاليل الوريدية للإمدادات الطبية حين اكتشاف تلك الكمية الملوثة.
في هذا البحث الوصفي قام الباحثون بتقصي تأثير التغطية الصحفية لقضية المحاليل الوريدية الهندية على متخذي القرار في السودان (ويقصد بهم في هذه الحالة المجلس الوطني (البرلمان)، وكبار المسئولين في وزارة الصحة الاتحادية (الوزير والوكيل)، ومدير إدارة الصيدلة بوزارة الصحة، ومدير هيئة الإمدادات الطبية). غطى البحث ما تناولته الأخبار والمقالات والتعليقات التي وردت في الصحف السودانية من جوانب عدة، منها: اتجاه المقال (هل هو مع أم ضد؟)، واسم الصحيفة ومصدرها (هل تصدر في السودان أم في خارجه، أم هي صحيفة أجنبية؟) وتاريخ صدورها، وتصنيف المكتوب (هل هو مقال أو عمود أو إعلان أو خبر أو غير ذلك؟). وما هي حيثيات من كتب مدافعا أو مهاجما ورأيه/رأيها؟.
أوضحت نتائج البحث أن الأخبار عن تلك المحاليل الملوثة قد صدرت لأول مرة في نفس اليوم في ثلاث صحف سودانية، من ثم انتشرت أخبار تلك المحاليل في الصحف والندوات والإذاعة. قامت بعض الصحف بنشر تحقيقات مطولة عن النتائج التي ترتبت على استعمال تلك المحاليل الهندية الملوثة، مثل حالات الوفاة في المستشفيات العامة. أحصى الباحثون 310 مقالا عن تلك المحاليل الملوثة في ثمانية عشرة صحيفة في الفترة بين 17 يناير 1999م إلى 8 أكتوبر 2007م. وجد أن 165 مقالا منها (تمثل 53% من جملة المقالات) كانت تهاجم استيراد/ استعمال تلك المحاليل، بينما كانت البقية (143 مقالا تمثل نحو 46% من جملة المقالات) تفعل العكس تماما، ولم تحدد مقالتان فقط (0.6% من جملة المقالات) موقفهما بوضوح من تلك القضية. صدرت غالبية تلك المقالات (96.1%) في الصحف القومية، بينما نشر نحو 1% منها في الصحف السودانية الصادرة في الخارج (هما "الصحافي " و"الخرطوم")، ونحو 1.4% منها صدر في صحف غير سودانية ("المستقبل" و"الشرق الأوسط").
أبانت نتائج البحث أن الكثافة والحدة التي تم بها تناول قضية المحاليل الوريدية الهندية اتخذت شكل "الحملة المنظمة"، فلقد تشابهت، بل تطابقت الآراء المتواترة المؤيدة والمعارضة الواردة في كل أو معظم المقالات التي نشرت في الفترة المذكورة آنفا. ولسبب غير معلوم وجد أن عدد تلك المقالات بلغ أقصاه في منتصف أعوام 1999م و2000م و2001م (وتحديدا في شهور مايو ويونيو ويوليو)، غير أن ما هو جدير بالذكر أن تلك الشهور هي الشهور ذاتها التي تعلن فيها "هيئة الإمدادات الطبية" عن المناقصات السنوية لاستيراد الأدوية من الخارج! ولعل التنافس (التجاري) بين الشركات المستوردة للفوز بالمناقصات كان وراء بعض تلك المقالات (أو هكذا يدعي مؤيدو منتجات الشركة الهندية المذكورة)! لـتأكيد تأثير  الموجة الأولي من المقالات المحتجة على استيراد المحاليل الوريدية من شركة "كور" والصادرة في منتصف عام 1999م، قام المجلس الوطني ووزارة الصحة بمنع استيراد تلك المحاليل في 22 و25 يونيو من ذلك العام.
تباينت الصحف تباينا واضحا في موقفها من قضية تلك المحاليل الهندية الملوثة. فصحيفة مثل "أخبار اليوم" مثلا نشرت 8 مواد صحفية ضد استيراد هذه المحاليل من شركة "كور"، بينما كانت قد نشرت في ذات الفترة 13 مادة صحفية مؤيدة لها. نشرت صحيفة "ألوان"  48 مادة صحفية مضادة لاستيراد المحاليل من شركة "كور" و17 مادة صحفية مؤيدة لها. ونشرت صحيفة "الرأي الآخر" 32 مادة صحفية معارضة و5 مؤيدة لاستيراد تلك المحاليل من الشركة الهندية. وكانت "الرأي العام" أكثر الصحف توازنا (في هذا الأمر) إذ تساوى عدد المواد الصحفية المنشورة مع أو ضد الاستيراد (21 و25 مادة صحفية، على التوالي).  كانت معظم تلك المواد الصحفية (من مقالات وأخبار وأعمدة وإعلانات ونشرات)  المؤيدة لاستيراد تلك المحاليل تعتمد كثيرا على "تقارير المعمل المركزي" و"المنافسة بين الشركات" كحجج وأدلة وحيثيات، بينما أكثر المعارضون من ذكر أمور كالفساد و "نوعية المنتج" وتقارير الأطباء والصيادلة و "الضعف" و"الميل والهوى" عند من قرروا صلاحية ذلك المنتج.
تفاعلت جهات  حكومية عديدة مع الحملات المؤيدة والمعارضة لتلك المحاليل الوريدية،. من تلك الجهات "المجلس الوطني" وإدارة الصيدلة بوزارة الصحة وبعض المستشفيات والمجلس الطبي السوداني. وقام "المجلس الوطني" بإدراج تلك القضية في جدول أجندته، وكون لجنة مصغرة لبحث الأمر. أوصت تلك اللجنة بمنع توزيع تلك المحاليل، وكان ذلك خبرا واسع الانتشار في كثير من الصحف. على العكس من ذلك، اتخذت وزارة الصحة الاتحادية موقفا مغايرا من تلك الحملات الصحفية، إذ  منعت بعد 3 أيام من صدور قرار "المجلس الوطني" توزيع منتجات الشركة الهندية "كور" التي لم تخضع للفحص، ثم وافقت علي ذلك في أبريل 2000م! ولكن في 19 فبراير 2001م قامت الإدارة العامة للصيدلة بالسماح ببيع تلك المنتجات. ولم تمر أكثر من 48 ساعة من ذلك القرار حتى قامت وزارة الصحة الاتحادية ووزيرها بإبطال ذلك القرار وأمر بالتخلص من كل المحاليل التي استوردت من شركة "كور" الهندية! على الرغم من هذا استمر المسئولون في  "هيئة الإمدادات الطبية المركزية" في بيع تلك المنتجات، وأصروا على عدم استبدالها. كانت وجهة نظر كبار المسئولين في  "هيئة الإمدادات الطبية المركزية" وفي وزارة الصحة القومية أن الدافع وراء الحملة المناوئة للمحاليل الهندية والحديث عن تلوثها هو محض "تنافس تجاري محموم" يغذيه "إتحاد مستوردي الأدوية"، ويعتمدون على تقارير علمية  لنتائج فحص  120 عينة مختلفة من تلك المحاليل بواسطة المعمل الوطني المرجعي لفحص الأدوية (NDQCL)، ويحتجون بأن شراء المحاليل من تلك الشركة الهندية يتماشى مع السياسة الاقتصادية الهادفة ل "ترشيد الصرف". بالطبع رد منتقدو تلك الآراء بأن الدافع للقبول بتلك المحاليل هو الفساد والضعف والميل والهوى، وأن القول بصلاحية استعمال تلك المحاليل هو تلفيق صريح، وقد يعرض أرواح المرضى للخطر.
قد تفسر اختلافات آراء كتاب الصحف الذين عارضوا أو ساندوا استعمال تلك المحاليل بأنها انعكاس لاختلاف التقارير (المتعارضة) التي اعتمدوا عليها، ودخول الصيادلة والأطباء في الكتابة للصحف بالرفض أو القبول لتلك المحاليل، مما دعا المجلس الطبي أن يطلب من هؤلاء أن لا ينشروا شيئا في وسائل الإعلام إلا بعد أخذ الإذن منه، حتى لا تتزعزع ثقة الجمهور في ما يتلقاه من علاج ولتحاشي شيوع حالات – لا داعي لها-  من الذعر بينهم.
خلصت الدراسة إلى أن الصحف لم تقف في موقف المحايد عند تناول المحاليل الطبية الهندية، ولم تعرض وجهتي النظر في الأمر. كان للتذبذب والاختلاف في القضية من قبل الجهات المعنية شأن بموقف الصحافة  من القضية.، وكذلك تأثر الصحف بآراء أحد الطرفين من أصحاب المصلحة في منع أو السماح لذلك المنتج بالتداول. كل ذلك يضر – في نظر الباحثين-  بدور الصحافة في التنوير والإعلام ونشر الحقيقة للجمهور، ويؤثر على متخذي القرار في نهاية المطاف، وعلى السياسة الصحية في البلاد بوجه عام. يجب على الصحفيين توخي الحيطة والحذر عند تناول الأمور الصحية والطبية، والاعتماد فقط على المصادر العلمية/ الطبية المعتمدة وليس على غيرها. لوحظ من نتائج الدراسة أن القرارات التي تصدرها الجهات بخصوص أمر ما تتوافق مع توقيت تكثيف الحملات الصحفية (مثل ما حدث هنا في صيف أعوام 1999، و2000م و2001م). تأسف الباحثون أن حسم قضية مثل محاليل شركة "كور" استغرق 3 سنوات كاملة، قد تكون بعض الأرواح قد فقدت فيها دون داع، ونصحوا بابتداع وسائل جديدة لتقوية التعاون بين المؤسسات الصحفية والهيئات الصحية المختلفة، وزيادة تثقيف وتعريف الصحفيين والكتاب بحساسية الأمور الطبية والصحية بالنسبة للجمهور، وخلق علاقة مثمرة بين الصحفيين ومتخذي القرارات. كذلك عتب الباحثون على مستوردي الأدوية دفاعهم (بالحق والباطل) عن ما يستوردونه من أدوية دون النظر إلى المصلحة العامة، وطالبوا بإبطال الاحتكار في عمليات استيراد الأدوية.
تم بالفعل في النهاية سحب كل المحاليل الوريدية لشركة "كور"، بيد أن السؤال عما إذا كانت تلك المحاليل "ملوثة" فعلا بقي بلا إجابة، وظل الرأي العام في حيرة من الطريقة التي قفل بها ذلك الملف. كان من الواجب – كما يقول الباحثون- تكوين لجنة فنية من الخبراء لتقصي الأمر وبحثه من جوانبه المختلفة وجذوره المتعلقة بالتصديق لاستيراد الأدوية وطرق الشراء والتخزين والتوزيع والاستعمال للأدوية المستوردة.         
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]
 

 

آراء