شَرَاكةٌ .. أَمْ مُشَارَكَةْ؟!

شَرَاكةٌ .. أَمْ مُشَارَكَةْ؟!
الحَلُّ السِّياسىُّ ليسَ قشَّةَ غريقٍ
أو ظِلاًّ يتفيَّأهُ مؤقَّتاً مَن انقَطَعَ نفَسُه فى الرَّكضِ خلفَ السَّراب!
بقلم/ كمال الجزولى

بدأنا ، الأسبوع الماضى ، هذه المحاولة للخروج شيئاً من بين (أشجار) نيفيشيا الكثيفة بحثاً عن إطلالة أفضل على (غابتها) من بُعد ، وذلك للتحقق من صحة فرضية مفادها أن هاجس البحث عن (شراكة) مشروطة من جانب النظام هو (لعنة) هذه المفاوضات التى كادت تودى بها نهائياً فى حادث انقطاعها المأساوى خلال الأسبوع الثالث من أبريل المنصرم (2004م) ، وما تزال تتهدَّدها بالاجهاض حتى بعد استئنافها نهاية الأسبوع الماضى ، بل وبالفشل فى تطبيقها حتى لو تمَّ التوصَّل عبرها لاتفاق (نهائى)! فلقد بحت الحناجر من التنبيه إلى أن غياب (مشاركة) بقية القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدنى عن هذه المفاوضات إنما يهدر شرط الاستدامة الأساسى لترتيبات السلام. لكن النظام الذى لا يكف عن الحلم بإبرام (شراكة) ثنائية مع الحركة وحدها ، والوسطاء الذين لا يناسب مصالحهم أكثر من هذا الشكل ، يرفضون أجمعهم (مشاركة) هذه القوى. ومع أن ما يحلم به النظام ليس مجرَّد افتراض عقلىٍّ مستبعد ، إلا أن النظام ما يزال يصطدم بحقيقة فشله ، حتى الآن ، فى إقناع غريمته بصفقة (الشراكة الثنائية) التى تضمن له وقف الحرب ، وتفلت به من عين عاصفة المتغيِّرات العالميَّة والاقليميَّة ، وتدق له إسفيناً بين غريمته هذه وبين بقية أقسام المعارضة ، وتمكنه من بسط كفه (القويَّة) على الشمال كله ، حتى لو أفضى ذلك فى نهاية المطاف .. لانفصال الجنوب!
مع ذلك ، بل بإزاء ذلك ، فإن النظام ما ينفك يتحيَّن الفرص (لاصطياد) ما تيسَّر من بواشق المعارضة لاستضعافه منفرداً (بشراكة) تتأسَّس على شروطه هو. ولن يكون آخر تلك المحاولات (اتفاق جدة) الملغوم فى 4/12/03 ، والذى لا تصعب قراءته كمحاولة لإحداث فجوة فى جدار المعارضة ، فلما لم تحدث لم يعد ثمة معنى للاتفاق نفسه! أو كما قال نائب رئيس التجمع لصحيفة (الشرق الأوسط) فى حينه: إن الحكومة أبرمته “اعتقاداً منها بأنه سيفجر .. التجمع ويؤدي .. إلى تفكيكه ، وعندما فشلوا .. قرروا التملص .. من التزامهم”. وربما كانت ثمة دلالة خاصة فى هذا المنحى لإعلان قرنق عن رفضه تنصل الحكومة من ذلك الاتفاق (الاتحاد ، 3/3/04).
هكذا رهن النظام حسابات (السلام) ، نهائياً ، بهذه (الشراكة الثنائية). أما (الطلعات الاستكشافيَّة) فلمجرَّد الدفع التكتيكى بهذا الاتجاه ، فحتى لو أفضت (لاختطافات) جزئية هنا أو هناك فلا بأس بها ، كونها لن تتمخض ، فى أكثر الاحتمالات مخاطرة ، سوى عن (شراكات) صغيرة مرغوب فيها مع شركاء ضعفاء لن يكلفوا النظام مثقال ذرة من التنازل على غرار شراكاته مع مجموعتى الهندى ومبارك المهدى وغيرهما.  لذلك فهو لا يبدو مستعداً ، البتة ، لمجرَّد التفاكر حول (مشاركة) القوى الأخرى فى المفاوضات إلا من الزاوية التكتيكيَّة البحتة، وهى بالتحديد الزاوية التى ينبغى الاطلال منها على (اتفاق جدة) الاطارى. وقد كتب د. عبد الوهاب الأفندى يقول: “شيء واحد يبغضه المسؤولون السودانيون .. وهو الحوار .. ولكن هذه الايام .. تستمع الحكومة بصبر إلى اشتراطات المتمردين .. (لأنها) ترفض الاستماع لوجهة النظر المخالفة إذا كان صاحبها مسالماً” (القدس العربى ، 28/4/04). وكان السيد أمين حسن عمر قد قطع قول كلِّ خطيب بتأكيده “أن الحكومة لن توقع الاتفاق لتكون أقلية في السنين الأولى .. وإذا كان المقصود صفقة ثنائية فهى كذلك ، أما الاحزاب فإن المطروح لها الآن هو فقط المطالبة بانتخابات حرة نزيهة عندما يأتى وقتها في تفاصيل الاتفاق”! (من موقع NDA على الشبكة ، 5/10/04). بل إن للرجل تعبيرات سابقة أكثر فظاظة ، كقوله عن بقيَّة القوى السياسية: “فليس لهم أن يقولوا: أشركونا، بل بإمكانهم أن يقولوا: لا تنسونا!” (ضمن ابراهيم الأمين؛ الرأى العام، 14/8/03). ومنها أيضاً تعليقه على رؤية المعارضة (للتسوية السياسَّة) باعتبارها حكومة انتقالية تفكك دولة الحزب لصالح دولة الوطن ، قائلاً: إن “الوصول إلى زحل والمريخ ونجوم السماء أقرب لهم!” (الأضواء ، 12/9/03).  
وحتى عندما استعر الخلاف بين الحكومة والحركة ، مطالع هذا العام (2004م) ، حول تبعية منطقة أبيى ، فإن وفداً من الحزب الحاكم هُرع إلى نيفيشيا للتباحث مع وفد الحركة حول (الشراكة) بينهما بعد توقيع إتفاقية السلام! فلكأن ما استعصى على وفد الحكومة سوف يسلس لوفد الحزب! ولكأن المهم ليس (أبيى) ، وإنما (الشراكة)! وقد كشفت صحيفة (الشرق الأوسط) فى تقريرها المشار إليه ، أن الحكومة لا تمانع فى ضم المنطقة للجنوب شريطة موافقة الحركة على (الشراكة) مع الحزب الحاكم ، وخوض الانتخابات المقبلة معه فى قائمة واحدة ، ونفض يدها عن قوى المعارضة الأخرى! ولكن للحركة حساباتها بالمقابل ، فقد أورد التقرير ردَّ الناطق باسمها ، فى هذه المناسبة أيضاً ، بأن رؤيتهم للأمر تقوم على ” التحول الديمقراطى و .. إشراك القوى الأخرى عبر جميع آليات المشاركة”. ولعل هذا ما يفسِّر عودة النظام ، فى هذه اللحظة بالذات ، لسؤال الميرغنى مجدَّداً عن الموقف من ضم مقاتلى دارفور إلى التجمع! غير أن الميرغنى الذى اعتبر ذلك محض مبرر واهٍ للتنصل عن (اتفاق جدة) سارع لابتعاث رسول منه إلى نيفيشيا لحث الحكومة على حسم مشاركة التجمع فى المفاوضات. ولما عاد المبعوث بخفى حنين طار الميرغنى بنفسه إلى كمبالا أملاً فى وساطة موسفينى لتمكين المعارضة من (المشاركة) فى المفاوضات (البيان ، 19/3/04) ، ثم توجه من هناك إلى نيفيشيا حيث التقى بطه وقرنق. وفى حين لم يرشح ما يشير إلى حماسة حكوميَّة لمسعاه ، حملت الأنباء تفاصيل الاستقبال الملوكى الذى هيَّأته له الحركة ، حيث كان وفدها المفاوض ، وفى مقدمته د. جون قرنق “مصطفين فى مدخل المنتجع لاستقبال الميرغنى ووفده!” (موقع NDA على الشبكة ، 10/4/04). لكن ، وبما أن الأمور بخواتيمها ، فإن كلَّ هذا المخض لم ينتج ، للأسف الشديد ، ولو قليلاً من الزبد ، حيث ما تزال المعارضة معزولة عن (المشاركة) ، مِمَّا لا يغنى (الاستقبال الملوكىُّ) عنه شيئاً!
فقط فى أواخر أبريل الماضى ، عندما لاحت فى الأفق نذر الانهيار الوشيك للمفاوضات ، وغادر نائب الرئيس نيفيشيا إلى الخرطوم للتشاور مع حكومته ، بينما غادرها رئيس الحركة إلى (أسمرا!) للاجتماع مع الرئيس الاريترى المبغوض من النظام ، ومع زعيم مقاتلى دارفور التى أصبحت فى عين عاصفة التدخل الأجنبى ، وللاتصال من هناك بالميرغنى فى القاهرة ، وبالمهدى فى الخرطوم ، وفى الوقت الذى كان فيه مؤتمر البجا يحتفل فى الشرق بالذكرى العاشرة لانطلاق العمل المسلح وسط حضور جماهيرى شارك فيه نظار القبائل وفصائل المعارضة بما فيها الحركة الشعبية وحركة تحرير السودان (سودانايل ، 28/4/04) ، فى تلك اللحظة بالتحديد قرَّر الحزب الحاكم تجاوز مسألة قبول التجمع لمقاتلى دارفور بين صفوفه ، وطار أمينه العام إلى القاهرة ليعرض على الميرغنى تفعيل (اتفاق جدة) من أجل تحقيق الحل السياسي الشامل! (البيان ، 28/4/04).
حسناً! ولكنَّ (الحل السياسى الشامل) ليس (قشة) يتعلق بها من يستشعر الغرق فجأة ، أو ظلاً يصادفه من تقطعت أنفاسه فى الركض خلف السراب فيتفيَّأه لبعض الوقت ، بل هو قناعة مفكَّر فيها لدى أطراف سياسية متكافئة تعترف بشرعية بعضها البعض ، وباستقلالية بعضها البعض ، وبحقوق بعضها البعض. وطالما كان ذلك كذلك فلن يستقيم مسعى الحزب الحاكم مع الميرغنى فى القاهرة ، بينما هيئة شوراه كانت ، قبل أسبوعين فقط من ذلك ، قد فرغت من تقرير استراتيجيتها بشأن حزب الأمة ، مثلاً ، “للتحالف معه لتغيير مفاهيمه”! وكذا بشأن المؤتمر الشعبى “لإعادته للمؤتمر الوطنى ، أو التحالف معه فى جبهة يقودها المؤتمر الوطنى، أو البقاء مستقلاً مع منعه من الانضمام للقوى المعارضة للمؤتمر الوطنى”! كما قرَّرت عموماً أنه يتحتم على المؤتمر الوطنى “عقد تحالفات مع الأحزاب لتوحيد الرؤى السياسية!” (الأيام ، 13/4/04).
(توحيد) الرؤى السياسية ، إذن ، فى معنى (قصقصة) رؤى الآخرين كى تجئ على مقاس رؤية السلطة وإلا (مُنعوا) من التقارب مع بعضهم البعض ، هو أقصى ما يطيق الحزب الحاكم من (تنازل) لأجل (الحل السياسى الشامل)! وبعبارة أخرى: تلك هى شروط (الشراكة) وفق رؤية النظام لمن أراد ، أما (المشاركة) .. فلا! فهل ترانا نبدو متشائمين أكثر مما ينبغى إن نحن نظرنا ، فى ضوء هذه الحقيقة وحدها ، فى ما عساها تتمخض عنه نيفيشيا؟!

شاهد أيضاً

مرآة ذهنيتي على بندقية الوطن: الجيش السوداني في معادلة الشرق الأوسط

زهير عثمان zuhair.osman@aol.com هذه مقاربة فيها الكثير من الخيال المجنون، الذي ساقني إليه التأمل العميق …