ضَيفٌ على القلبِ: رسالةٌ مِن الأديبِ عُمر السَّوري … بقلم: جمال محمد ابراهيم

 


 

 

أقرب إلى القلب:

jamalim@yahoo.com
        في البدءِ، أرجو المعذرة عن تأخري بالكتابة إليك خلال يومين كما وعدت.
 
      مَلومكُما يجلّ عَن الملامِ                 وَ وقـع فعـالهِ فـوقَ الكلامِ
      ذراني و الفلاة بلا دليـل                 وَ وجهي والهجيرُ بلا لِثامِ
      فإنّي أستريحُ بذي وهَـذا                 وَ اتعبُ بالإناخةِ و المقـَامِ
      
        لكن غدرتْ بي علّة ظننتها ممَا يطرأ في الصيف عارضاً ثم يزول بُعيد أيام قلائل، الا إنها تمكنت منّي، حينما أخذتني على حين غرّة. و هي ليس تزور في الظلام و حسب، بل تمضي اليوم كله؛ لا تستحي من ضوء الصبح وهو يغري بها، فلا تنثني، بل تتمدد أثناءه في أنحاء الجسم، عظماً و لحماً و دما. ثم تهيّج العصب و تشعل العيون و الجفون لهبا، و تضرم النار في الجلد سياطاً من سعير. بذلت لها المطارف والحشايا كما فعل أبو الطيب، وأمطرتها بعصائر من حمضيات المتوسط لا تتوافر إلا في الشتاء، جلبتها من هنا وهناك فلم يرقها، بل زادت من ضرامها، حتى إذا ما أيقنت أنها قضت حاجتها آثرت الرحيل بعد أن أنهكتْ الجسد، وذرته ضعيفاً واهنا. لذلك تجد الحديث في هذه الرسالة مرسلاً بلا ترتيب، لا ينتقي، فيه من كل نبع قطرة.
 
       فاتت، في الأيام القليلة الماضية، الذكرى الثانية لغياب مبدعين، رحلا في اليوم ذاته وبالعلّة ذاتها، وفي عمر يكاد يكون العمر نفسه، كلاهما ناهز الخامسة والستين. غادرا الفانية في بلدٍ واحدٍ، و لكن في مدينتين من مدن الجنوب الاميركي. أحدهما رحل في ممفيس بولاية تنيسي بالجنوب الغربي من الولايات المتحدة الاميركية، والآخر بهيوستن، عاصمة صناعة النفط في أميركا.
 
      حينما ولجتُ البيت ذلك المساء، كانت ملامح وجهي وعبوسه تدلّ على حزن ٍ وأسى، حاولت جهدي إخفاءه فلم أستطع. كان ابني ورفاقه هناك. هم في بداية العشرينيات. عاجلني جعفر بالسؤال عما يضيق به صدري. قلت له رحل اليوم مبدعان تركا أثراً في عالمنا، وأثريا ثقافتنا حتى آخر رمق في حياتهما؛ لعلكم تعرفون العربي منهما، فلن أحدّثكم عنه كثيراً، أما الاميركي فقد كان ممن طرب له جيلنا، و لا أحسبكم تعرفونه. لكن الدهشة ألجمت لساني حينما أخذوا يحدثونني بتفصيل الخبراء والعارفين – والألم يعتصرهم – عن "آيزاك هيز" Isaac Hayes، أيقونه موسيقى "العاطفة Soul" و ملك ملوك أغنية "التناغم و الإيقاعR&B ” و الـ"روك آند رول". إلّا أنهم (و كلهم من ديار العرب) لم يتعرفوا، للأسف الشديد، على محمود درويش. أحدهم ذكر انه سمع به من قبل، لكنه لا يذكر في أيّ فن من الفنون كان ناشطاً. كنت قد أعددت نفسي لأحدثهم عن "آيزاك هيز" و أترابه عمالقة موسيقى تلك الحقبة من الزمان أمثال "استيفي وندر" و" آل قرين" و "جيمس براون"، فأمسيت أحدثهم عن محمود درويش و صاحبيه، سميح القاسم و توفيق زياد، الثلاثي الذي ظهر بعيد هزيمة 5 يونيو/حزيران 1967. ثم توقفت ملياً عند توفيق زياد و ديوانه "أم درمان: المنجل و السيف و القلم" ، مستحضراً قوله:
 
      أعطِني حبّةَ سُكّر
      منذُ عامينِ و في حلقي مَرارة
      أعطِني حبّة سُكّرْ
      "أم درمان" تُناديني
      و في قبضتِهَا سيفٌ مُعطّرْ
      و أنا أشعرُ نفسي سيداً
      ينهى و يأمُرْ
      رايتي تكبُر في الشّمسِ، و تكبُرْ
 
      طلبتُ من جعفر أن يقرأ هذا الديوان فقد يشعر من خلال ذاك الفلسطيني الجميل بأم درمان التي لم يرها قط حتى الآن. لكن هذا الجمع من حولي أدار دفة الحديث، بعد هنيهة، نحو "هيز" و موسيقاه. تحدثوا عنه بلهفةٍ العاشق و ولع المحبّ المُتيّم، فكان وهج الحماسة يندفع مع كل خلجة من خلجاتهم، لا سيّما حينما يتكلمون جميعاً في وقت واحد، فتحسبهم من أبناء جيله، و هم ليسوا كذلك!
 
      في سبعينيات القرن الماضي ذهب هيز الى لقاء "فيلا انيكولابو كوتي" في لاقوس، بحثاً عن جذور موسيقاه و أغانيه. غنى "هيز" مع هذا المتمرد الفريد و الثائر الملتزم بما يؤمن حتى الموت، كما لم يغنِ من قبل. هناك وجد نبعه الصافي، وأكتشف الحبل السُري الذي أمدّ أفارقة أميركا عن بعد بألحانهم وشعرهم وأغانيهم وموسيقاهم و طبولهم وأصداء أبواقهم. هناك وجد أيضاً وادي عبقر، يمتدّ أمامه متمثلاُ في "فيلا كوتي" و فرقته وأنغامه. الإيقاع الأفريقي أو الافروبيت Afro beat الذي استلهمه "فيلا كوتي" من بيئته القديمة – المتجدّدة،  فتحت أمام كثير من مطربي الـ"سول" والجاز و"الروك آند رول"  ينابيع الأصول، و كان "هيز" منهم.
 
      حينما أعلن "فيلا كوتي" استقلال "جمهورية كالاكوتا" التي أسّسها في حي من أحياء لاقوس وأنشأ فيها مستوصفاً طبياً يقدم خدمات علاجية للجمهور بلا مقابل، ومحترفاً فنياً لتسجيل الأغاني والموسيقى، و فوق هذا وذاك، بؤرة ثورية نشيطة، تمتلك وسائل اتصال بالجمهور يستعذبها العامة، و يردّد شعاراتها – طرباً - البسطاء من الناس، اصبح الصدام مع السلطة والعسكر لا مفر منه. تحيّن هؤلاء صدور أغنيته الأشهر (زومبي) التي هاجم فيها الجندرمة، وسخر بها من العسكرتاريا لينقضوا ببساطيرهم وبنادقهم على جمهوريته فيدمروها تدميراً تاماً ، ويقذفوا بأمه من الشباك، كما قطع الأثاث، فتدخل في غيبوبة ثم تموت. مصير "كالاكوتا" لم يصبح مثل مصير كومونة باريس، وجمهورية الإسكندرية التي أسّسها الثائر المصري حسني العرابي في العام 1908، فورة سرعان ما هدأت، وشرارة لم تنطلق حتى خبتْ، وفقاعة تبددت. فرغم أن عنف عسكر نيجريا ضد هؤلاء الفنانين الحالمين، كان منقطع النظير، تمالك "فيلا كوتي" نفسه، وعضّ على جراحه، سائراً فوق ساقيه المثخنتين بالجراح خلف نعش أمه حتى منزل الجنرال "أوباسانجو"، زعيم الزمرة العسكرية التي أصدرت أمر الغارة على "جمهورية الفن و الموسيقى". مضى – كما تعلم – "فيلا كوتي" في دربه غير هيّاب ولا خائف ولا وجل،  يلملم بقايا حلمه ليطلق أغنيتيه "نعشٌ لرئيس دولة" و "الجنديّ المجهول" ، اللتين سرتا في أفريقيا كالنار في الهشيم، تستنهض الهمم. أليس"أوباسانجو" هو من يُطلق عليه اليوم حكيم من حكماء أفريقيا؟! ألا يذكرنا حال هذه الجندرمة بغيرها في أماكن أخرى؟! حاول "فيلا كوتي"، أيضاً، أن يتبع نهج الحكام، فأنشأ حزباً سياسيا ليخوض به الانتخابات الرئاسة في العام 1979 بعد عهودٍ من حكم الجنرالات، إلا أن ترشيحه رُفض ورُدّ على أعقابه فحُرم من خوض السباق الرئاسي. ألا يذكرنا هذا بما جرى منذ عهد قريب؟
 
      ظلّ "كوتي" يخرج من حبس ليدخل سجناً، و من زنزانة أُغلقت أبوابها عليه بتهم ملفقة، إلى معتقلٍ بلا سبب حتى وافته المنية؛ و لكنّه ظلّ يغني و يغني و يغني. يوم أعلن شقيقه، وزير الصحة النيجيري الأسبق، وفاته، خرجت نيجيريا لوداعه، ولم تشهد البلاد حشداً متلاطماً يمشي وراء جنازة مثل تلك البتة من قبل ولا من بعد. "ويلي سوينكا"، الحائز على جائزة نوبل للآداب، هو ابن خالته، كما تعلم. هو أيضاُ طريد آخر!
 
      "فيلا كوتي" لم يكن همباتياً وليس صعلوكاً على طريقة صعاليك العرب يأخذ أموال الأغنياء ليقتسمها مع الفقراء، وإنْ لامس جانبٌ من حياته قول السّليك بن السلكة:
 
      تقول سُــليمي لا تعرِض لتلعة               و ليلك عن ليل الصعاليك نائمُ
      ألمْ تعلمي أنّ الصّعاليك نومهم              قـلـيل إذا نـام الخــليّ المســالـمُ
 
      لقد كان صاحب مشروع للتغيير، أيّاً كان رأينا في هذا المشروع وطرقه ووسائله. فقد ترك بصمات واضحة حتى اليوم (على الأقل في الجانب الثقافي)، بل أثر في وتأثر بحركة "الفهود السود" و القوة السوداء الاميركية، ناهيك عن أنحاء اخرى من أفريقيا وبعض الكاريبي. هل لدعاة الافريقانية في السودان مثلاً واحداً ناصعاً يشبه هذا؟ و هل الافريقانية لون بشرة؟ أم هي مشروع تغيير وإضافة لموروث ومساهمة في بناءٍ مدنيّ كان أو حضاريّ؟ هنالك أسئلة كثيرة تتدافع اليوم بينما السودان يندفع نحو المجهول. ليس المطلوب اليوم إجابة حاسمة قاطعة عن كل الأسئلة المتتابعة، بل حوار جاد ورصين،  يفضي الى شيء.
 
      لم تكن "روث فيرست" سوداء، بل بيضاء البشرة، وهي تكافح في صفوف مناضلي جنوب أفريقيا. ليس هذا فحسب، إنما كرّست حياتها في سبيل نصرة القضايا الأفريقية كلها. لم تكنلا"روث" وحدها في ذلك، بل أفراد أسرتها جميعا، أباً و أماً كريمات، و في رواية ابنتها جيليان سولفو (روابط الدم) تفصيل ذلك.  سجنت طويلاً، وتركت في الحبس الانفرادي شهوراً، و طوردت سنيناً، ثم اغتالتها قوى الظلام (البيضاء) بطرد بريدي. وصف الكاتب و الناشر و المناضل الجنوب الأفريقي، رونالد سيقال، موتها التراجيدي بأنه "أشد أنواع الرقابة فظاعة و قسوة"! ذلك هو أن تحذف صاحب القلم من صفحة الحياة!
 
      أغنت "روث فيرست" الفكر الإنساني بسيل فياض من الكتابة في شتى ضروب المعرفة، لكن كتابها "ماسورة البندقية: سياسات الانقلابات العسكرية في أفريقيا" يبقى فريداً. لم تأبه "روث فيرست" لسياسة المؤتمر الوطني الأفريقي الرسمية التي كانت تكن العداء لحركة التحرر الوطني الإرترية وتساند إثيوبيا قلباً وقالباً، التزاماً منها بقرارات منظمة الوحدة الأفريقية. فقد شاركت في الجلسة التي عقدتها محكمة فيلسوف اليسار الإيطالي، "ليليو باسو"، التي عرفت "بمحكمة الشعوب الدائمة" في جامعة لوفين ببلجيكا، و ذلك لنصرة الشعب الإرتري. شدت مرافعة فيرست انتباهي اكثر من أي ورقة قدمت حينذاك.  محكمة ليليو باسو، كما تعرف، هي النسخة الثانية للمحكمة التي شكلها الفيلسوف البريطاني، "برتراند رسل"، لمحاكمة جرائم اليانكي في فيتنام.
 
      قرأت في هذا الصدد مقالك الضافي الذي نشر مؤخراً عن السودان و دوره العربي والأفريقي. أرجو أن تسمح لي بأن أزيد عليه أن السودان في (فسحاته الديموقراطية) التي مرت كلمح البصر كان فاعلاً في أفريقيا، لا سيما حركة التحرر الوطني الأفريقي. أتذكر وزير الخارجية المعمّم الذي كان يرتدي الكاكولة و الجبة؟ أنعقد في عهد الشيخ على عبد الرحمن أهم مؤتمر للتضامن مع شعوب المستعمرات البرتغالية وتلك الرازحة تحت أنظمة الفصل العنصري. و كانت منظمات المجتمع المدني من نقابات واتحادات وجمعيات، تقدّم في بعض الأحيان نضالها في سبيل أفريقيا على كفاحها المطلبي.
 
      قدم السودانيون الكثير أثناء مسيرة الكنقو للانعتاق من ربقة الاستعمار. ذهب ضباط سودانيون لتدريب ثوار الكنقو، وعادوا بقصصٍ وحكايات تستحق أن تروى. صحيح أن هنالك جانب مظلم عن مساهمة بعض السودانيين في هذا الفصل من تاريخ تلك البلاد، بعضه يتعلق بما تردد طويلاُ عن ذهب ثوارها و"ضياعه"، وآخر عن سرقة وثائق "جيزنجا"،   أثناء توقفه في مطار الخرطوم وهو في طريقه الى القاهرة حاملاً خطة مفصلة لإنقاذ باتريس لوممبا ، والبلاد بأسرها. هذا الجانب لم يكشف عنه الستار بعد.  وغير الكنقو قدمت الحكومات الديموقراطية والنقابات دعمها للتشاديين. فقد كان الدكتور" أبّا صديق"، على سبيل المثال، يأتي من باريس الى الخرطوم ليلتمس الدعم والمساندة؛ ناهيك عن كينيا وبلاد انزوت بعيداً عن الخريطة.
 
      لا أريد أن أثقل عليك أكثر بحديث النقاهة هذا. قد أعود إليك عما قريب لنتحدث عمن رحل في الشهور القلية الماضية وعن حديث "الأدب و قلة الأدب"، و هو عمود كان يكتبه في سبعينيات القرن العشرين الصحافي والناقد الفلسطيني – الأردني، أسامة فوزي في صحيفة ظبيانية. أسامة صاحب قلم مسموم، لكنه خفيف الظل، ليس عنده كبير في هذا العالم سوى البعير.
 
      مع فائق المودة و الاعتزاز.


 16 أغسطس 2010
 

 

آراء