طلاب دارفور وافتراءات قوش!!

 


 

 

 

 

لم تتعرض أي شريحة من شرائح طلاب أقاليم السودان المختلفة , لمثل ما تعرضت له الحركة الطالبية الدارفورية , من سحل و تعذيب وتشريد وقتل على أيدي مجرمي منظومة الإنقاذ , وما زالت ذاكرة الشعب السوداني تجتر تلك المشاهد البشعة لعدد من طلاب دارفور , بجامعات كل من الجزيرة و والخرطوم و أم درمان , فمنهم من تمت تصفيته و قذف بجثته في ترعة زراعية بولاية الجزيرة , وهنالك مأساة الطالبين الشهيدين محمد موسى وعلي أبكر ألتي ما فتئت تصك آذان الناس في نيالا و الفاشر , وهما اللذان تعرضا للخطف و الإغتيال من قبل منسوبي الأجهزة الطلابية لأمن المؤتمر الوطني , فكانت صورتا جثتيهما وهما ملقيان على مكب للنفايات في وسط عاصمة بلادهم (الخرطوم) , كما القطط والكلاب الضالة التي سحقتها إطارات السيارات المتهورة في الطريق السريع , فالمشهدان ماثلان و حاضران في الذاكرة الجمعية لسكان (العاصمة القومية ؟؟؟؟) , بعد أن شهدت عليهما مشرحة مستشفى الخرطوم التعليمي , أضف إليهم الطالب الشهيد جيفارا الذي غدر به زملاء السكن بالداخلية من جماعة التنظيم الشيطاني , فأوسعوه ضرباً وطعناً و سلخاً بمدية مشحونة بسم التمييز العرقي الزعاف , وبالظلم و البغضاء و الكراهية الجهوية , وهنالك الكثيرون من طلاب هذا الإقليم المنكوب الذين لقوا حتفهم في داخل دهاليز هذه المدينة المركزية , و بين أزقة بعض مدن السودان الأوسطية مثل ود مدني و الدويم و سنار ودنقلا , هذه المدن التي لم تكن قط آمنة لإقامة هؤلاء الطلاب بها , وذلك من منطلق إنتمائهم الجهوي و الجغرافي , وليس ببعيد عن الأذهان عملية الفصل و الطرد الجماعي لهؤلاء الطلاب من جامعة بخت الرضا , و اصطفافهم في الطريق العام يستجدون سائقي بصات النقل التجاري , كي يوصلوهم إلى (كرش الفيل) المدينة المركزية التي اتخذها البريطاني (كتشنر) عاصمة لمستعمرة بلاده , ومن ثم يشدون رحالهم إلى مدن سودانية بعيدة عن مركز قرار الدولة السودانية , مثل الجنينة و زالنجي و كتم والضعين , تلك المدن التي لم تشهد في تاريخها أن ميّزت وفرزت بين سكان السودان , الذين قدموا إليها من الشرق و الشمال والجنوب , بحثاً و طلباً للرزق و العيش الكريم بين سكانها الأصليين , إنّ دهشتنا وصدمتنا نحن طلاب الإقليم المبتلى بالأزمات والنكبات , عندما تطأ أقدامنا أرض السودان المركزي , لهي كبيرة وعظيمة عظم جرائم دويلة أبارتايد المشروع الحضاري , فالصدمة الأولى التي يتلقاها طلاب دارفور في هذا المركز الظالم , هي النظرة التنميطية والتصنيفية والتعميمية الضيقة , من لدن أناس يحملون ثقافة ومفاهيم متخلفة وإنكفائية ظالمة و إقصائية.
ما قال به صلاح قوش عن مندسين في جموع المتظاهرين يتبعون لحركة (المتمرد!!) عبد الواحد , ليس بحديث وليد لحظته ولا ذلة عفوية وعابرة ألمت بلسانه , وإنما هو استدعاء لمخزون ثقافي قديم ومتراكم كامن في العقل الباطن و الجمعي لعدد ليس بالقليل من سكان السودان المركزي , وهو شيطنة إنسان هذا الجزء العزيز من تراب الوطن الحبيب , وقد لعب هذا المخزون الثقافي الشائه في صناعة هذه الصورة النمطية لدارفور وما حوت من شجر وبشر , إنّهم الكتاب غير الأمينين الذين صاغوا و وضعوا مناهج و كتب تاريخ السودان قديمه وحديثه , وأودعوها مخازن وزارة التربية و التعليم في ظل الحكومات المركزية المتعاقبة منذ الأستقلال , و معهم كذلك المنقحون لذات التاريخ السوداني في قدمه و حداثته , وهم الذين كتبوه تاريخاً منحازاً ومن منظور النظرية الشائعة والخاطئة (التاريخ يكتبه المنتصرون) , هذا إضافة لأعمال الدراما و المسرح التي تتم صناعتها في مركز البلاد الثقافي , فقد لعبت الدراما دوراً جهوياً و عرقياً سالباً في تفتيت عضد فسيفساء نسيج الوطن الإجتماعي , ذلك بتنميط شخصيات القادمين من دارفور وجبال النوبة و الأنقسنا و أراضي النوبة التي طمست هويتها مياه السد العالي في الشمال الأقصى , و وضعهم أدنى تراتيبية سلم التصنيف الإجتماعي , بحسب زعم ومنظور المستحوذين على مال و سلطة أجهزة الدولة , و المتابع للنكتة المحكية و التي أشتهرت بها فرق كوميدية مثل تيراب و الهيلاهوب , يرى هذا التنميط المجحف للشخوص المنحدرين من هذه الجهات , فالمراقب لمسيرة النكتة المحكية بعد اندياح تطبيق واتساب وتوفره بين أيدي الصغار و الكبار , يلحظ بنية الوعي الجهوي و القبلي و المناطقي الذي زرعته و رعته وأسست له أنظمة الحكم المركزية منذ أكثر من ستين عاماً , فتجد الرسالة الإجتماعية و الثقافية و السياسية للنكتة تدور حول فلك أربعة أو خمسة قبائل لا غيرها في السودان , وهي (الجعلي) , (الرباطابي) , (الشايقي) , (الحلفاوي) و(والأدروبي) , ومن المؤكد ان هذا الترتيب لم يأت مصادفةً , بل هناك من اشتغل على ترسيخه عبر الغرطاس والقلم منذ زمان ليس بالقريب , وبمثل هذا التصنيف المناطقي جاءت مأساة إنسان وطالب دارفور , مع هذه الآلة القاهرة لأنظمة الحكم المركزية ذات الملامح والطابع الجهوي , ونتيجة لهذه الثقافة الإقصائية فقدنا ثلث أرض الوطن , و لم تزل بقية أرجائه مهددة بالأنقسام و التشظي لو لم يعمل حكماء الشعب على كبح جماح هذه النكتة العنصرية التي تفوح رائحتها كل لحظة وساعة و يوم وليلة , من غرف دردشات الواتساب و مجموعاته الأسرية و المهنية و السياسية و الثقافية , فالسيد (بين) ذلك الكوميديان البريطاني قد أضحك العالم بأسره وهو صامت دون أن ينطق ببنت شفة , وداعب رئات الملايين من البشر و أخرج منها هوائها الساخن دون أن يسيء إلى جنس أو لون أو قبيلة أوجهة.
صديقي عضو فرقة عقد الجلاد الموسيقية والغنائية , أخبرني بأنه لم يخطر على باله أن الناس في دارفور , يهيمون عشقاً بسماع أغنيات هذه الفرقة الراقية و الهادفة , إلا بعد أن زار مدينة الفاشر , لقد فات على صديقي وهو الفطن اللبيب أن الموسيقى لغة عالمية , لا تقتصر على حيز زماني أو مكاني معين , فبوب مارلي حجز لنفسه مكانة سامية في قلوب شعوب الدنيا , وهو إبن جامياكا تلك الجزيرة الصغيرة المجدوعة بين أمواج المحيط الأطلسي المتلاطمة , لم أقم بتوجيه صوت لوم لصديقي الفنان والموسيقار وذلك نسبة لمعرفتي و وعيي التام بأن محاولات تغييب هذا الجزء العزيز من إنسان وتراب الوطن الحبيب , عن وجوده وكينونته الفاعلة في مسرح الحياة السودانية القومية , لهو عمل مؤسس و منظم و معمول بدراية و وعي كاملين , وأن إدارة مؤسسات الدولة الثقافية و الأدبية ورصيفتيها السياسية , ظلت ترفل تحت سيطرة الأسرة الواحدة و الجهة الأحادية و القبيلة الحصرية و الثقافة المنغلقة على ذاتها , طيلة ما يربوا على نصف قرن من الزمان , فالمحصلة المنطقية والبديهية هي أن نعيش في عصر صحافة وتلفزيون ألطيب مصطفى , لقد برزت أنياب سلطة الإنقاذ وتجهم وجهها قبالة وجوه طلاب دارفور , منذ انتفاضة سبتمبر المجيدة قبل خمسة أعوام عندما كان ابراهيم محمود وزيراً للداخلية , فحينها صرح سيادته بأن أعمال التخريب التي حدثت بتوجيه من السلطة التي هو مسؤول أمنها الداخلي لقلة قليلة من المقهورين و المحبطين من ضحاياهم (والذين يطلق عليهم الشماسة) , ليفعلوا فعلتهم تلك بغرض تشويه صورة الأنتفاضة الشعبية التي أفقدت رأس النظام صوابه في تلك الهبة السبتمبرية الناجحة , إنما هي ديدن بعض من الطلاب المتظاهرين والذين تعود جذورهم إلى هذا الإقليم المنكوب , أو كما قال إبراهيم محمود , لذلك ما جاء به صلاح قوش في الأيام القليلة الفائتة ليس قولاً فردياً , بل هو تعبير خارج عن إجماع مفاهيمي لمجموعة قليلة من السودانيين , ذواتهم و وجدانهم مشبع وطافح بالقيح العنصري و الغبن الجهوي.

ismeel1@hotmail.com

 

آراء