عن المظاهر السلبية للمثقفين والمتعلمين السودانيين

 


 

 

 

إفراز التخلف واحد أسباب استمراره : هناك العديد من المظاهر الفكرية والسلوكية السلبية ، التي تسود بين المثقفين والمتعلمين السودانيين، فهي توجد في مجموعهم إن لم توجد في جميعهم . هذه المظاهر السلبية هي إفراز امتداد الحياة في ظل تخلف النمو الحضاري للمجتمع السوداني، نتيجة لعوامل داخليه (كالتقليد، الجمود،الاستبداد) وخارجية(كالاستعمار،التبعية...) متفاعلة ، و في ذات الوقت فإنها احد أسباب استمرارها لأنها تفتك بمقدرة المثقفين، الذين هم قادة حركة التطور الاجتماعي في كل المجتمعات.

الخلط بين المثقفين والمتعلمين: أولا يجب التمييز بين المثقفين(أي الذين لهم المقدرة الفكرية لإدراك المشكلات الاجتماعية، ومعرفة حلولها، والمقدرة على العمل الجماعي اللازم لحلها)، والمتعلمين أو الأكاديميين (الذين لا يعرفون من العلم إلا ما تعلموه في جامعاته ومراكزه ومعاهده المتخصصة، ويجهلون علاقته بمشكلات الواقع الاجتماعي، أو لا يهتمون بتلك الصلة.
أهم المظاهر السلبية :
الفردية (الانانيه) : من أهم هذه المظاهر الفردية (التي يعبر عنها عامه الناس بمصطلح الانانيه)،ومرجع هذه النزعة الفردية عند بعض المثقفين أنهم قادة حركة التطور في كل المجتمعات، وإذا كانوا في المجتمعات المتقدمة كثرة تفيض عن الحاجة. فإنهم في المجتمعات النامية كالسودان قوة نادرة؛ ذلك لأنهم أكثر معرفة وعلماً ومقدرة على العمل من الكتلة السائدة. فلا تستطيع مجتمعاتهم أن تستغني عنهم، وبينهم وبين سواد الشعب ثغرة فاصلة.
يمكن أن يضاف إلى هذا أسباب عدة، منها أن برامج التربية والتعليم والثقافة والإعلام في المجتمعات النامية كانت لفترة طويلة من وضع القوى الاستعمارية لخدمة غاياتها، ومن غاياتها إضعاف العلاقة الاجتماعية التي تربط الناس بمجتمعاتهم في مصير واحد ، حتى لا تعود هذه الروابط إلى وعى الناس التزامهم بتحرير مجتمعاتهم. ومنها احتضان القوى الاستعمارية للعناصر المتفوقة من المتعلمين وإتاحة فرصة إكمال ثقافتهم في معاهدها وجامعاتها عن طريق البعثات، وهنا تدس في الأذهان مُثُلاً عُليا غريبة عن مجتمع المبعوث. ومنها ميراث الممارسة الليبرالية ذلك المذهب الفردي الذي يتجاوز تجميد الإنسان إلى إطلاق الفرد من التزاماته المترتبة علي انتمائه إلى مجتمعه؛ فيتحول المجتمع إلى ساحة صراع فردي لا إنساني؛ وتكون الفردية فيه قيمة لا يخجل منها صاحبها، بل يفخر بها، بقدر ما يكون لها من ضحايا من أفراد آخرين.
الانعزال عن الجماهير او الاستعلاء عليها :غير أن هذه الفردية قد تأخذ شكل العزلة عن الجماهير أو شكلاً الاستعلاء عليها، والتشبث بالقيادة، والتوقف أو الانعزال، أو التمرد على العمل الجماعي ما لم يخضع الناس لإرادته.
البيروقراطية: من أشكال الاستعلاء على الجماهير البيروقراطية؛ فالبيروقراطيون هم قطاع من المتعلمين، يشكلون جزءاً من موظفي الدولة، يُفرطون في توفير الشرعية الشكلية للقوانين واللوائح (عدم تناقضها مع قواعد الدستور، أو القانون) مع إهمالهم لمضمونها ( كأدوات وُضِعت لتنظيم حياة الناس وحل مشاكلهم)، كما تستخدم فئة منهم السلطة الممنوحة له لتعويض سنوات الفقر بالاختلاس أو تعويض سنوات الذل بالاستبداد بالناس. ولا يمكن مقاومه البيروقراطية إلا بمنح الشعب حق الشكوى ،لا بمنح الموظفين الحضانة ضد الشكوى.
تجاوز المثقف لدوره التنويري وفرضه وصايته على الشعب : ومن هذه المظاهر السلبية عدم معرفه كثير من المثقفين السودانيين لحدود دورهم الاجتماعي (المعرفي التنويري) ، مما يؤدى في كثير من الأحيان لتجاوزهم لهذا الدور.ومن أشكال هذا التجاوز محاوله كثير من المثقفين السودانيين فرض وصايتهم على الشعب السوداني .
عدم التمييز بين مشكلات التنمية ومشكلات التقدم: ومن أشكال هذه الوصاية التحدث بالنيابة عن الشعب السوداني، والحديث عن المشاكل التي يعانيها الشعب السوداني، دون تمييز بيننوعين من أنواع المشاكل :
أولا : مشكلات التنمية : وهى المشكلات المتجددة التي يعانيها الشعب وهو يحاول أن ينتج من الامكانيات المتاحة ما يشبع به حاجاته المتجددة...ومصدر معرفتها هو الشعب نفسه .
ثانيا: مشكلات التقدم : وهى التي تتعلق بالعقبات التي تحول بين الشعب وحل مشكلات النوع الأول من المشاكل ، و مصدر معرفتها هو الواقع الموضوعي والقوانين الموضوعية (السنن الالهيه) التي تضبط حركته...
محاوله تحديد أو إلغاء علاقات الانتماء : ومن أشكال هذه الوصاية محاوله بعض المثقفين أن يحددوا للشعب علاقات انتمائه المتعددة (الوطنية، القومية، الدينية...)، بينما دور المثقف مقصور على تحديد الأساليب والطرق الصحيحة للتعبير عن هذه العلاقات، أو تحديد الصيغة السليمة للعلاقة بين علاقات الانتماء المتعددة هذه، ولا يتجاوزه إلى إيجاد أو إلغاء هذه العلاقات.
مثال بالدعوة إلى إلغاء علاقة الانتماء العربية- ذات المضمون اللغوي غير العرقي - للشخصية السودانية: ومثال لذلك دعوه بعض المثقفين الشعب السوداني إلى إلغاء علاقة انتمائه العربية ذات المضمون اللغوي غير العرقي ، والتي مضمونها أن اللغة العربية هي اللغة القومية المشتركة لكل الجماعات القبلية والشعوبية السودانية،بصرف النظر عن أصولها العرقية أو لهجاتها القبلية أو لغاتها الشعوبية القديمة الخاصة . وذلك بحجه تعارضها – المتوهم عندهم – مع علاقة الانتماء الافريقيه التي هي في الأصل ذات مصممون جغرافي – قاري- اذ تضم قارة إفريقيا العديد من الشعوب والأمم التي لا رابط بينهما - أو علاقة الانتماء الزنجية التي هي ذات مضمون عرقي ،وليس لها اى دلاله حضاريه أو اجتماعيه سلبيه " كما تدعى مذاهب التمييز العنصري" ، أو ايجابيه"كما تدعى مذاهب تحويل ألزنوجه من علاقة انتماء عرفيه إلى علاقة انتماء حضاريه، كرد فعل – عاطفي - على مذاهب التمييز العنصري السعي للسلطة: ومن أشكال هذه الوصاية سعى كثير من المثقفين للسلطة، استنادا الى تفسير خاطئ لمقوله صحيحة هي أن المثقفين الذين هم قادة حركة التطور الاجتماعي في كل المجتمعات. والمقصود بهذه المقولة أن دور المثقف( وهو الاجتهاد في وضع حلول للمشاكل التي يطرحها واقع معين) سابق على دور السياسي (وهو تنفيذ الحلول التي رأى الشعب او اغلبه أنها الحلول الصحيحة)، وبالتالي فان التغيير الفكري سابق على التغيير السياسي.
الدوران في الحلقة المفرغة "التغريب والتقليد:" من هذه المظاهر السلبية أن المثقف السوداني في محاولته الاجابه على السؤال المتعلق بكيفية تحقيق التقدم الحضاري للمجتمع السوداني ظل يدور في حلقه مفرعه مضمونها إما القول بإلغاء القيم الحضارية للشخصية السودانية واستبدالها بقيم جديدة(التغريب)؛ متناسيا أن أن محاولة اجتثاث أي شخصية من جذورها محاولة فاشلة لن تؤدى إلا إلى حطام شخصية. أو القول بالإبقاء علي الشخصية السودانية كما هي كائنة (التقليد)؛ متناسيا أن هذا يعنى الإبقاء على المظاهر الفكرية والسلوكية السلبية التي افرزها التخلف الحضاري. ولم يفلح المثقف السوداني فى الوصول إلى اجابه جدليه مضمونها إلغاء المظاهر السلبية للشخصية السودانية بإلغاء سببها (تخلف النمو الحضاري)،وفى ذات الوقت إبقاء القيم الحضارية للشخصية السودانية لتسهم سلبا في بناء شخصيه مطهره من هذه المظاهر السلبية، وإيجابا في إنتاج مظاهر ايجابيه جديدة..ان كلا الموقفين (التغريب والتقليد) يلتقيان فى النتيجة رغم تناقض المقدمات التي ينطلقان منها ، فالمجتمع السوداني مثلا يعانى من شيوع نمط التفكير البدعى متمثلا في أنماط من الفهم الخاطئ للإسلام؛ التي تكتسب قدسية نسبتها إلى الدين ، وهو ما يساهم في الإبقاء على واقع تخلف النمو الحضاري للمجتمع السوداني(لان التفكير البدعى هو حاضن التفكير الخرافى والاسطورى).
التقاء تياري التقليد والتغريب في تكريس الفهم الخاطئ للدين: ومن أسباب استمرار هذا الجهل بالدين و الفهم الخاطئ له ،ان التيار التغريبي يرى أن التقدم لا يمكن أن يتم إلا بإلغاء الدين أو تهميشه،وهو بهذا يكرس للجهل بالدين وسط المثقفين الذين من المفترض أن يكونوا طليعة المجتمع في تثقيفه، وتوعيته بالإسلام وقيمه الحضارية الإنسانية، ومحاربه الفهم الخاطئ للدين الذي يساهم في الإبقاء على واقع التخلف الحضاري، وتقديم فهم صحيح له. بالاضافه إلى أن التيار التقليدي يخلط بين الدين الصحيح وقيمه الانسانيه والحضارية والمظاهر السلبية التي افرزها واقع تخلف النمو الحضاري للمجتمعات المسلمة. وأخيرا نلاحظ ان من احد أسباب الدوران فى هذه الحلقة المفرغة (التغريب والتقليد) أن من خصائص التفكير الاسطورى القبول المطلق لفكره ما والرفض المطلق لنقيضها ، وهو ما يتحقق هنا في الموقف من قيم المجتمع الحضارية، اى القبول المطلق لقيم المجتمع الحضارية (التقليد) أو الرفض المطلق لها(التغريب).
النخبوية بدلا من الطليعية: ومن هذه المظاهر السلبية اتصاف المثقفين السودانيين بالنخبوية بدلا من اتصافهم بالطليعية، اى إنه بدلاً من أن يكون المثقفين السودانيين طلائع التغيير الفكري للمجتمع السوداني بتبنيهم لنمط تفكيراجتهادى /علمي /عقلاني ، فإنهم أصبحوا انعكاسا لواقع تخلف النمو الحضاري، بتبنيهم لنمط تفكير بدعى شبه خرافى شبه اسطورى - شانهم شان باقي فئات المجتمع - مع رغبتهم فى التميز الوظيفي والاقتصادي والاجتماعي... عن هذه الفئات. والدليل على هذا شيوع أنماط من التفكير و السلوك الخرافى و الاسطورى والبدعى بين فئات المجتمع بما فيها الفئات المتعلمة. فمن أنماط التفكير الخرافى الشائعة: الاعتقاد بامكانيه العلم الغيب كرمي الودع وقراءه الكف وضرب الرمل وقراءه الأبراج .... و عدم احترام قيمه الزمن... ومن انماط التفكير الاسطورى القبول المطلق لفكره وبالتالي الرفض المطلق للأفكار الأخرى ، الشك المطلق ( إنكار إمكانية التحقق من صحة أي فكرة).، أو النزعة القطعية ( التسليم بصحة فكرة دون التحقق من كونها صادقة أم كاذبة)،اتخاذ الإلهام أو الوجدان و الخيال كوسائل معرفه مطلقه تلغى العقل كوسيلة معرفه محدودة بوسائل المعرفة الأخرى، اللامنطقيه ( التناقض ). ومن أنماط التفكير البدعى تقديس الأولياء ورفعهم إلى مرتبه الأنبياء...علاقة المثقف بالسلطة والدور النقدي:ومن المظاهر السلبية للمثقفين السودانيين ضمور دورهم النقدي، الذي يمثل جوهر دور المثقف في المجتمع .ودورانهم في حلقه مفرغه مضمونها القبول المطلق في حاله كونهم جزء من السلطة ، و الرفض المطلق في حاله كونهم خارج السلطة.
عدم انجاز التغيير الفكري: إن تغيير اى مجتمع لا يتم بالقفز على الواقع، بل بالتدرج بالانتقال به مما هو كائن ، إلي ما هو ممكن، إلى ما ينبغي ان يكون فالتغيير لابد أن يتم عبر مرحلتين المرحلة الأولى هي مرحله التغيير الفكري، والمرحلة الثانية هي مرحله التغيير السياسي. ونلاحظ ان السياسة السودانية ظلت تحاول دائماً الانتقال إلى مرحلة التغيير السياسي دون ان تكمل إنجاز مرحلة التغيير الفكري،لان المثقفين السودانيين لم يؤدوا دورهم الاساسى، وهو انجاز التغيير الفكري سلبا بمحاربة التفكير البدعى شبه الخرافي وشبه الأسطوري ، وإيجابا بإنتاج ونشر التفكير الاجتهادي والعلمي والعقلاني.
////////////////

 

آراء