فترة الثقافات المبكرة من تاريخ السودان القديم (4)

 


 

 

ahmed.elyas@gmail.com

مناطق الشلالين الأول والثاني ولقية حتى الألف 5 ق م
تناولنا في موضوعنا السابق منطقة نبتا بلايا وتعرفنا بإيجاز على قيام الثقافات المبكرة فيها منذ الألف الثامن قبل الميلاد. وتناولنا تطور مجتمعاتها لأساليب حياتهم بالانتقال إلى مرحلة إنتاج الطعام ودخولها العصر الحجري الحديث في وقت مبكر، وأوضحنا أن مؤسسو تلك الثقافات ينتمون إلى سكان شمال السودان – كما أوضح علماء الاثار – ولا ينتمون إلى سكان مصر.
وننتقل هنا إلى التعرف على ثقافة لقية التي تأسست في منطقة الصحراء الحالية الواقعة إلى الغرب من منطقة الشلال الثالث منذ الألف الثامن قبل الميلاد. ولما كان سكان وثقافة منطقة لقية على ارتباط قوي وتواصل مستمر مع منطقة النيل الواقعة إلى الشرق منها فنتعرف أولاً وباختصار شديد على الثقافات المبكرة في مناطق الشلالين الثاني والثالث حتى الألف الخامس قبل الميلاد لكي تتضح صورة العلاقة بين المنطقتين. والألف الخامس قبل الميلاد يمثل مرحلة جديدة في تاريخ المنطقتين

المنطقة النيلية حتى الألف 5 ق م
شهدت المنطقة الواقعة بين الشلالين الثاني والثالث قيام أقدم الثقافات السودانية المبكرة. وأقدم الثقافات التي عرفت في هذه المنطقة هي ثقافة قادان - التي أطلقت عليهاUsai ثقافة بلانا - في منطقة الشلال بين الألفين 13 – 8 ق م أو كما ترى Rampersad بين الألفين 15 - 12 ق م. وقد تواصل وجود ثقافة قادان في المنطقة لمدة طويلة حتى ظهور ثقافة أبكان في الألف الخامس قبل الميلاد. (Uthai, 2016;Usai , 2020, p 99, 102; Rampersad, p 277)
ومن بين الآثار القديمة في هذه المنطقة مقابر جبل صحابة على بعد ثلاثة كيلو متر شمال وادي حلفا والتي يؤرخ لها بناءً على المخلفات الأثرية بين الألفين 12 – 10 قبل الميلاد. وتعود شهرة هذه المقابر التي تحتوي نحو 64 هيكل عظمى إلى أنها تعتبر أول أثر للحروب في تلك الأوقات المبكرة. (Uthai, 2020 p 109)
فإذا اعتبرنا أن هذه المقبرة تحتوي على قتلى جانب واحد من الجانبين المتحاربين، وافترضنا أن عدد المحاربين الذين لم يقتلوا في المعركة 64 (نفس عدد القتلى) أمكن أن نفترض العدد الكلي للمحاربين في هذا الجانب 64×2= 128. وإذا رجعنا إلى التجمع أو التجمعات التي أتى منها هؤلاء المحاربون سنجد النساء والأطفال وكبار السن. فإذا افترضنا أن لكل محارب شخصين فقط من أسرته (أب وأم) سيكون العدد الكلي لأحد الأطراف المتقاتلة في معركة جبل صحابة 128×2= 256 فرداً. فإذا أضفنا إلى هؤلاء عدد المحاربين من الجانب الثاني بافتراض أنه مساوٍ للجانب الأول يكون العدد الكلي للسكان في المجموعتين المتقاتلتين نحو 502 فرداً.
وهذا الرقم قد يبدو كبيراً – رغم التواضع في التقديرات - إذا ما وضعنا في اعتبارنا حجم السكان في تلك الأوقات المبكرة، ولكنه في نفس الوقت يشير إلى وجود أعداد كبيرة من السكان. وارتفاع عدد السكان يشير إلى العديد من مظاهر تطور المجتمعات في الصناعات الفخارية والحجرية وما يترب عليها من تحسين أنماط الغذاء والطبقات والنظم الاجتماعية.
وقد تعددت الثقافات المبكرة التي قامت في منطقة الشلال الثاني، فإلى جانب ثقافة أبكان قامت ثقافات أخرى مثل ثقافة اركِنيان وشماركيان ومتباين الخرطوم. وقد تواصل عطاء تلك الثقافات حتى الألف 5 ق م. Ross, 2013, p 49;Usai , 2020, p 102) (Sadig, 2010 p.133;
كما تطورت الثقافات في وقت مبكر في منطقة الشلال الثالث المواجهة لمنطقة لقية، إذ تشير نتائج التنقيب في المنطقة إلى استئناس الحيوان المبكر في الألف السابع ق م، ودخل الضأن والماعز من الشمال في الألف السادس قبل الميلاد. ومقابر منطقة كرمة فسرت بأنها مقابر زعماء محلين توضح مجتمع ذو نمط غذائي مختلط وحدود واسعة مما يشير إلى مقدمة الملكية. ( Sadig, 2010, p 137 - 138; Gatto,2009, p 22)
وهكذا فقد تميزت منطقة الشلالين الثاني والثالث بقدم وتوالي الثقافات المبكرة التي تواصلت دون انقطاع لنحو سبع ألف سنة حتى قيام مملكة تاستي في الألف الرابع قبل الميلاد في نفس المنطقة. وقد طورت تلك الثقافات أساليب معيشتها وكونت مستوطنات دائمة. ويبدو أن أحجام تلك المستوطنات كان كبيراً كما يتضح من عدد القتلى المدفونين في مقبرة جبل صحابة.
كما أضحت الأدلة الآثارية على انتظام الثقافات المبكرة على طول النيل من الشلال الثالث جنوباً حتى النيل الأبيض. وطورت تلك المجتمعات أساليب حياتها إلى جانب استئناس الحيوان دخل الشعير والذرة إلى نمط غذائها. وقد دخلت مجتمعات أغلب هذه في العصر الحجري الحديث منذ الألف الخامس قبل الميلاد. (Winchell, 485, 488; Haaland, 89)
وترى Gatto أن منطقة النيل في السودان شهدت التواصل السكاني المستمر طيلة أواخر عصر البلايستوسين وعصر الهلوسين إذ كان سكان الصحراء يتحركون نحو النيل في فترات الجفاف. (Gatto,2009, p 21)

البدايات المبكرة في منطقة لقية
تقع منطقة لقية غرب النيل على نحو 200 كلم جنوب الحدود السودانية المصرية الحالية. وكانت لقية في الأصل بحيرة قديمة ربما تكونت في المراحل المبكرة من تطور البحيرات في المنطقة الواقعة بين خطي عرض 16 و22 درجة شمالاً في الألف التاسع قبل الميلاد (Manning, and Timpson, p 28) .
وقد عُثر في وادي شاو في الجانب الغربي من منطقة لقية على آثار حوضي بحيرتين قديمتين أبعادهما غير معروفة لانتشار الرمال في المنطقة. وتم جمع بعض أصداف المياه العذبة من مكان البحيرتين يرجع تاريخهما إلى منتصف الألفين السادس والخامس قبل الميلاد. (Schuck, Werner, 1989 P 423))
وتتكون لقية من منطقة واسعة تتضمن جرف ووادي لقية، وواحتي لقية أربعين ولقية عمران وواديي سهل وشاو. (Lange, 2006, p 107) ويقع وادي شاو في أقصى الغرب من منطقة لقية على بعد 360 كيلو متر من النيل. وقد W. P. K. Shaw عام 1935 وأشار إلى غزارة آثاره وأُطلق اسمه فيما بعد على الوادي. ويجاور وادي شاو شرقاً وادي سهل، وعلى بعد نحو 70 كيلو متر جنوب شرق وادي سهل تقع واحتي لقية أربعين ولقية عمران. (Lange, 1998, p315)
وليس من السهل التعرف على السكان والثقافات المبكرة في منطقة لقية لعدم توفر المعلومات نسبة للتنقيب الآثاري المحدود فيها. وقد تم الكشف عن بعض المواقع الأثرية تم تحليل موادها تضمنت مقابر وصناعات حجرية وفخارية وبعض الرسوم الصخرية تمكن من إلقاء بعض الضوء على تاريخ المنطقة المبكر.
ويرى بعض المؤرخين أن جماعة السكان الأقدم في منطقة الصحراء الحالية غرب النيل وامتدادها حتى جنوب الجزائر فيما قبل التاريخ ربما تكونوا من التحركات البشرية التي خرجت من ضفاف النيل في منطقتي الخرطوم والشهناب الحاليتين والتي تحركت من الشرق إلى الغرب على طول منطقة البحيرات الكبرى. (Hugot, Vol. 1, p 596) وربما أيد ذلك رأي الباحتين الذين افترضوا وجود مظاهر ثقافية مشتركة بين سكان المناطق الواقعة بين النيل ومرتفعات تبستي في الألف السابع قبل الميلاد. (أزهري، 2013 ص 36)

بدأت المرحلة المبكرة بأول إشارة لظهور الانسان في منطقة لقية بالعثور على قبر لا يحتوي على مواد قرابين يرجع تاريخه إلى نحو 8000 ق م. وقد تركزت أغلب أعمال التنقيب في منطقة لقية في وادي شاو, ففي المسح الجيولوجي للمنطقة الذي تم في مشروع جامعة كولن BOS (مشروع تاريخ الاستيطان في الصحراء الشرقية).في عامي 1982/1983 عثر على 150 موقع أثري تمت دراستها. وأوضح Schuck أن مجموعات ثقافات ما قبل التاريخ في وادي شاو تواصلت لمدة 5000 سنة متواصل. Schuck, 1989, p 423 فقد تضمن هذه المواقع آثار استيطان متتالي منذ فترة مجتمعات الجمع والصيد من الألف السادس قبل الميلاد وحتى حتى النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد حيث كان الرعاة لا يزالون يستقرون موسمياً في هذه المناطق. (Lange, 2006, p 107; Lange, 2006/2007, p 243)
وفقاً لنتائج فحص مواد الألف السادس قبل الميلاد فإن منطقة لقية كانت تسودها أشجار السافنا الشوكية، كما توفرت الأحياء المائية في البحيرات الدائمة. Lange, 2006, p 107
تعود أول الآثار المؤرخة للاستيطان إلى نحو عام 5700 ق م تتضمن المصنوعات اليدوية الحجرية. وقد تتبع الباحثون المراحل المبكرة لثقافة لقية وتطورها من خلال دراسة ما تم العثور عليه من فخار المنطقة. وقد قسم لانج كما يتضح في الشكل رقم 3 ص 249 (Lange 2006-07) ثقافات مستوطنات منطقة لقية وفقاً لمراحل الفخار إلى ثلاث فترات. فترة مبكرة وفترة وسط وفترة أخيرة:
لفترة الأولى بين الألفين الثامن والربع الأول من الألف الخامس قبل الميلاد تدخل في المرحلة التي يتناولها هذا الموضوع. شهدت منطقة لقبة في هذه الفترة مرحلتين ثقافيتين. إحداهما بين الألفين 8 – 6 ق م وهي مرحلة ثقافة فخار الخرطوم المبكر المنقط ذو الخطوط المتموجة Dotted Wavy Line حيث سادت في منطقة لقية مجتمعات الجمع والصيد. ويوضح انتشار فخار الخرطوم المبكر في منطقة لقية في المرحلة المبكرة والمرحلة الثقافية الثانية بين الألفين 6 – 5 ق م بدأت مجتمعات الجمع والصيد تنتظم في تجمعات إقليمية بعد أن كانت متباعدة.
شهدت هذه المرحلة المبكرة للثقافات تواصل محلي وإقليمي واسع فقد أوضحت المخلفات الآثارية التواصل المبكر في كل المناطق الواقعة بين النيل شرقاٌ والحدود الحالية لدولة تشاد غرباً، وبين واحة سليمة شمالاً إلى جنوب وادي هور جنوباً. فقد كان العصر الحجري الوسيط في نبتا بلايا في الألف السابع قبل الميلاد معاصرا للمرحلة الأخيرة من لثقافة لقادان ولثقافة الخرطوم المبكرة ولثقافة الخرطوم المبكرة في لقية ولثقافة منتصف وادي هور وفي النوبة العليا ووسط السودان. (Uthai, 1998, p 437; Schuck, p423; Lange 2006, p 109)
ولم يقتصر ذلك التواصل على منطقة غرب النيل فقط بل كانت منطقة سرق النيل أيضاً داخل دائرة التواصل كما اتضح من تواريخ C14 لفخار مناطق شمال القاش ونهر عطبرة. (Manzo, 2017, p 17)
وهكذا يتضح أن منطقة لقبة كانت قبل الألف الخامس الميلادي على صلة بكل المنطقة الواقعة بين النيل شرقاٌ والحدود الحالية لدولة تشاد غرباً، وبين واحة سليمة شمالاً إلى جنوب وادي هور جنوباً. وغني عن البيان أن هذا الانتشار الواسع يؤدي إلى تبادل الخبرات والمنتجات المتنوعة. كما نشأت وتطورت في هذه المنطقة اللغة النيلية الصحراوية Proto-Nilo Sahara Language

المراجع
أزهري مصطفى صادق، 2013 “بيئات عصر الهولوسين والتغير الثقافي في نهر النيل الأوسط – السودان 10000 – 3000 ق م" الرياض: مؤسسة عبد الرحمن السديري الخيرية.
- Gatto, Maria Carmela, 2009 “The Nubian Pastoral Culture as Link Between Egypt and Africa: A view from the Archaeological Record” in Exell, Kurin, Egypt in its African Context. Proceeding of the Conference Held at the Manchester Museum, University of Manchester 2 – 4 October.
- Haaland, Gunnar and Rani, Haaland,2016, “Prehistoric Figurines in Sudan” In Oxford Handbook of Prehistoric Figurines (pp.85-104)Publisher: Oxford University Press Online:11/8/2016.
- Hugot, H. J. 1981 “The prehistory of the Sahara, General History of Africa” In Ki-Zerbo, Josef, General History of Africa, Methodology and African Prehistory, Vol.1 UNESCO. Vol. 1. Manning, Katie and Timpson, Adrine, Demographic response to Holocene Climate Chang in the Sahara” Quaternary Science Review, 101, (2014) 28 – 35.
- Lange, M. 1998.”Wadi Shaw 82/52: A Predynastic Settlement Site in the Western Desert and the Relations to the Nile Valley”. Nubian Studies. Proceeding of the Ninth Conference of the International Society of Nubian Studies. Augest 21-26. Boston Massachusetts. 315-324.
- Lange, M. 2006 “The Archaeology of the Laqiya Region (NW-Sudan): Ceramic, Chronology and Culture” in Caniva I and A. Roccati (eds.) Acta Nubica,. Proceedings of the 10th International Nubian Studies, Rome2006, 19 – 14 September 2002, pp 107 – 115. .
- Manzo, Andrea, 2017, Eastern Sudan in Its Setting: The Archaeological of Region far from the Nile Valley, Oxford: Archaeopress Publishing.
- Rampersad, Sabrina Roma, 1999, the Origin and Relationships of the Nubian A-Group. A Ph. D thesis, dept. of near and Middle Eastern Civilizations, University of Toronto.
- Ross, Larry, 2013, Nubia and Egypt 10 000 BC to 400 AD, New York: The Ewin Mellen Press.
- Sadig, Azhari Mustafa 2010, Neolithic Settlement Pattern and Cultural Sequence of Nubia (Northern Sudan) SAHARA, 21.
- Schuck, Werner (1989) “From Lake to Well, 5000 Years of Settlements in Wadi Shaw Northern Sudan” in Lech Kerzyzaniac and Michal Kobusiewicz eds. Late Prehistoric of the Nile Basin and the Sahara, Poland: Posnan Archaeological Museum
- Usai, Donatella, 2020 “The Qadan the Jebel Sahaba and the Lithic Collection” Archaeologia Polona, Vol.58, pp 99 – 119.
- Usay, Donatlla, 2016 “A Picture of prehistoric Sudan: The Mesolithic and Neolithic periods” in Oxford handbook online.
- Usay, Donatlla, 1998 “Early Khartoum and Related Groups” in Kendall, Timothy, Proceedings of the Ninth Conference of the International Of Nubian Studies, August 21 – 26, 1998, Boston: Northeastern University 2004.
- Winchell, Frank et al, 2018 “On the Origin and Dissemination of Domesticated Sorghum and Pearl Millet Across Africa into India: A view from Butana Groupof the far Eastern Sahel” African Archaeological Review,35:483 – 505.

 

آراء