لماذا لم تصمد “تقدم”؟

 


 

 

"تقدم"، المتحوّرة من "قحت"، بمثابة الجسم المدني الحاضن لإرث ثورة ديسمبر المجيدة، وهي تحالف حزبي مهني سياسي ثوري، جمع لون طيف لا بأس به من فسيفساء المجتمع السوداني، وتوج شرعيته بدخول الدكتور عبد الله حمدوك رئيساً لحكومة الانتقال، الرجل الذي حظي بشبه اجماع من روّاد التغيير وغالب الشعب، الذي وجد فيه مصداقية الطرح وشفافية الممارسة، فظل كاريزما مؤثرة ومقبولة الى حد ما، من عموم قوى الحراك المدني، حتى انقلب الشق العسكري على حكومته، وبعدها تم فرض واقع مأساوي أدى لنشوب الحرب، التي غيّرت الموازين وقسّمت الناس لمصطفين مع فلول النظام البائد من منطلقات جهوية وأيدلوجية، وبالمقابل انبرت المجتمعات المهمشة لمناصرة قوات الدعم السريع، التي رأت فيها وجهاً منصفاً لاسترداد حقوقها، وهذا الانقسام لم يكن بعيداً عن تحالف "تقدم"، فلقد هتف بعض مناصروها (الجنجويد ينحل)، داخل قاعات المؤتمر التأسيسي، فانبرى احد التقدميين الدائن بالولاء للدعم السريع بصد الهتاف، وحدثت جلبة بالمكان تدخل على إثرها الحكماء، وذات المؤشر الدال على الانقسام سمعناه بلندن، حينما ذهب الدكتور حمدوك لاجتماع "شتم هاوس"، فارتفعت الأصوات المطالبة بحل قوات الدعم السريع، التي يراها المهمشون اليد التي لا بديل عنها في كسر بندقية الظالمين، لم يصمد تحالف "تقدم" لأنه حمل بذور فنائه منذ انطلاقته الأولى، فقد صمت بعض الراكزين فيه عن البوح بمناصرتهم لجيش الإخوان، وكذلك فعل بعض من يوالون قوات الدعم السريع، فالحرب وان طالت ايامها لابد وأن تكشف عن السبب العميق لاندلاعها، وجاء ذلك بعد دخول الجيش الاخواني مدينة ود مدني بعد انسحاب غريمه، ففرح وجدي صالح رائد التفكيك، وابتهج خالد سلك أمين سر حزب المؤتمر السوداني.
لقد تأخّر السياسيون كثيراً عن إعلان موقفهم من الحرب، وهذا بدوره كبل الحراك المدني، فتلبس قادة "تقدم" الحالة الرمادية المختبئة خلف شعار "لا للحرب"، ما مكّن طرفيها من الاستحواذ على المشهدين السياسي والعسكري، إذ أنه لم يكن الشعار الرافض للحرب بذلك القدر من المبدئية، فجل الذين رفعوه تواروا خجلاً عن كشف مواقفهم الحقيقية، تجاه المؤسستين العسكريتين المتصارعتين، وهذا المسلك هو تكرار لما سبق من تماطل للقوى المدنية، ممثلة في الأحزاب الثلاثة الكبيرة، في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، فالمماطلة السياسية ارهقت جسد الدولة لما يقارب السبعين عاما، وما آلت إليه البلاد من حرب شاملة جاء بسبب إدمان هذه النخبة الثلاثية القديمة المتجددة للترف الفكري، والتراكم الكمي والنوعي المستمر للخيبات الوطنية أفرز الصدام المسلح، كحتمية تاريخية لا فكاك عنها، وسحباً على ذلك انقسمت "تقدم" بين مجموعتين، إحداها كفرت بالدولة القديمة وأعلنت سعيها للتأسيس الجديد، والأخرى رفضت هدم القديم وإعادة التأسيس والترميم، فتحججت بالهيكلة والإصلاح والحفاظ على الرمزية القديمة لمؤسسة الدولة، الأمر الذي كفرت به المجموعة الأولى كفراً بواحاً لا توبة ولا أوبة فيه، وأمسى ضرورياً اعلان المفاصلة والتسريح بالإحسان، مهما كان الثمن، حتى ولو أدى ذلك إلى المجازفة بوحدة التراب، هكذا يقول لسان حال الكافرين بعبادة الصنم القديم، فلم يعد في العمر بقية وللصبر حدود، خاصة وأن وجه الحرب الجهوي الصارخ أخذ في المثول رغم تفاؤل الرومانسيين، فمن قبل، حينما تخاصم الاخوان جهوياً في مفاصلتهم الشهيرة، كانوا يلوحون بأيديهم أن لا أمل في مواصلة المسير مع من لا يتمتع بالنية الصادقة في الإمساك بالمعروف.
اذا كانت سلطة بورتسودان الاخوانية غير الشرعية قد استمالت اليسار الجهوي لصفها، وغازلت بني عمومتها وانفرجت اساريرها، فإنّ الأوان قد آن لكي يكاشف الساسة الصفويون شعوبهم بالحقيقة الراسخة، وهي استحالة المضي معاً على ذات الدرب القديم، ووجوب الإقرار والاعتراف بما حاق بالأجيال من عنت ومشقة وضياع، وراء الركض من أجل تحقيق المشروع الرومانسي الجميل المتخيل، فحقن الدماء أولى من الإصرار على عبادة البقرة المقدسة غير الحلوب، وليس صحيحاً ما يروج له الماسحون على قشور الجروح الوارمة، من أن الانقسام ظاهرة صحية وخصيصة ديمقراطية، ليس الأمر كذلك، إنّ الانقسام المتوالي حول المبادئ الأساسية، لهو مهدد وطني ماثل وملحوظ يجب الانتباه له، فلا يمكن بأي حال أن يكون الانقسام المفضي للانفصال بالأمر المستسهل وطنياً، بل هو انعكاس لأزمة مستحكمة ومرض قديم متجذر، لن يشفى منه الجميع الا بمواجهة انفسهم، فالرؤية المركزية المتحوصلة حول نفسها فصلت جنوب السودان، وها هي تجير كسب الثوار لتصب عصيره المعتق في ماعون القتلة والمجرمين، من بقايا النظام البائد في بورتسودان، فالانحياز العرقي والانعطاف الجهوي اليوم هو الموجّه لبوصلة السياسة والدائر لشئون الحكم، لكن الناس يغالبون هذه الحقيقة بالنكران، رغم أنها تطل بوجهها الصارخ بين الفينة والأخرى، فهل كتب على السودانيين أن يصارعوا طواحين هواء وهم الوحدة الكاذبة البائن في التطورات الأخيرة؟.

إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com

 

آراء