كتب د. عبد العزيز سليمان أستاذ السياسة والسياسات
quincysjones@hotmail.com
قال أحد أتباع حميدتي من على منبر الجزيرة مباشر بجرأة يحسد عليها ولا يؤاخذ فيها:(إن حميدتي هو مانديلا السودان).
ما أثار دهشة مقدم البرنامج لفرط عدم اتساق المقارنة، أو قل لانعدام مقتضيات المنطق وانتفاء ضرورات القياس.
والواقع أنه ليس هنالك أي تماثل بين الشخصيتين لا في النشأة ولا في المسار ولا في الأثر .
فمانديلا نشأ عصامياً، عانق قضية السود و الدفاع عنهم باختيار الطريق الأصعب في مدارج العلم، حتى أصبح محاميا يدافع عن حقوق أهله بالقانون. وحينما اتخذ سبيل الكفاح المسلح، حمل معه سلاح المعرفة والاطلاع على تجارب غيره في حمل السلاح.
فقد أورد في مذكراته مسيرة طويلة نحو الحرية (ص 167) ما نصّه: (بدأت أقرأ أدبيات الحرب المسلحة، خاصة حرب العصابات. كنت أود أن أعرف الظروف الملائمة لمثل تلك الحرب، وكيف يُشكَّل الفرد ويُدرَّب، وكيفية تكوين قوة فدائية وتسليحها وأين تجد إمداداتها، إلى آخر المشاكل الأساسية. قرأت تقرير بلاروكا، سكرتير عام الحزب الشيوعي في كوبا، عن سنواتهم كمنظمة غير قانونية في كوبا، وقرأت عن جيفارا وماو تسي تونغ وفيدل كاسترو. وفي الفدائي بقلم ويلز ريتز، قرأت عن تكتيكاتهم أثناء حرب البوير. كما قرأت كتاب إدغار سنو الرائع النجم الأحمر، ورأيت كيف أن تصميم ماو وفكره غير التقليدي هما اللذان قاداه إلى النصر. كما قرأت كتاب الثورة لمناحِم بيغن، وشجّعتني حقيقة أن القائد الإسرائيلي قاد حرب عصابات في بلد لا جبال فيه ولا غابات، وكان هذا يماثل وضعنا. وكنت متشوقًا أن أعرف المزيد عن المقاومة المسلحة لشعب إثيوبيا ضد موسوليني، وعن جيوش الفدائيين في كينيا والجزائر والكاميرون. ورجعت إلى تاريخنا ودرست ماضينا قبل وبعد الرجل الأبيض، وحروب الأفارقة ضد الأفارقة، وضد البِيض، وحروب البِيض ضد البِيض.)
هكذا سلك مانديلا طريق النضال المسلح، مسلحا بالمعرفة، وهكذا صنع نفسه بين دفّتي كتابٍ ليكون أعظم مناضل في القارة الإفريقية.
وهذا ما ترسّخ في عقلية ونفسيّة شعوبها رمزا متجذرا في ذاكرة شعوبها. وقد قدحت مطالعاته ذهنه الوقاد حتى صار أكثر رجال السياسة نطقا بفصوص الحِكم، التي سارت بها الركبان وتناقلتها الأمم.. كأنما أُوتي جوامع الكَلِم.
فبماذا أخذ حميدتي نفسه؟
وماذا يتصوّر السودانيون عنه؟
وما الذي وقر في ذهنيتهم من رجلٍ بدأ حياته بفكّ عِقال الحمير خلسة من مرابطها، حتى انتهى به الأمر قائدا لصنف آخر لا يصلح أن يُستخدم حتى كفضل ظهر. فما أن اندلعت الحرب حتى غزت قواته منازل المواطنين، فصنعت فوضى لم يسجّل التاريخ مثلها. دخلت المدن مثل الهكسوس: لا ترى في الإنسان إلا غنيمة، ولا في البيوت إلا مخازن للسبايا والمتاع. وفي أفعالهم ما يذكّر بالمغول يوم اجتاحوا بغداد. وكما دخل هولاكو المدينة لا يعرف قدر مسجدٍ ولا كتابٍ ولا نفسٍ بشرية، دخلت جحافل حميدتي المدن وهي لا تفرّق بين مسجدٍ ومستشفى، ولا بين طفلٍ وجندي.
المغول جاؤوا بحدّ السيف لأنهم لا يعرفون معنى للعقل، وهؤلاء جاؤوا لأنهم لا يؤمنون إلا بالسلاح والسياط. سياطٌ تلهب ظهور الكبار والنساء على السواء.
مانديلا كتب فصول الحرية بالحبر والعقل، ووقّعها بتواضع الإنسان الذي عرف أن النصر الأخلاقي هو أسمى الانتصارات.
أما حميدتي فقد كتب فصوله بالدم والنار، وسجّلها في ذاكرة وطنٍ مكلومٍ لا ينسى.
مانديلا خرج من سجنه مشبعاً بالحكمة ورجاحة العقل والحجّة، أما حميدتي فخرج من التاريخ وفي يده حفنة حاقدين ساموا الناس العذاب والذلّ والهوان.
مانديلا أغلق دفاتره ليورّث الأمل لأمّته، أما حميدتي فترك دفاتره مفتوحةً على الجراح والقيح ولعناتٍ لا تُحصى.
وهكذا لا يُقارن مانديلا بالرجال، بل يُقارن الرجال بما تبقّى من قيمة مانديلا فيهم. فأي رسم أو وسم يا تُرى يجمع العملاق بالقزم؟؟
د. عبد العزيز سليمان
استاذ السياسة والسياسات
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم