مخلصان من المؤتمر الوطني وسوق مواسير …. بقلم: صلاح شعيب

 


 

 

 

إثنان من أعضاء المؤتمر الوطني فجرا أزمة الفاشر الموسومة بسوق المواسير. بسبب جشعهما مات مواطنون مظلومون وأبرياء في القوت نفسه. هؤلاء الإثنان فازا في عملية التمثيل بحقوق الإنتخاب، وحجزا مقعدين في المجلس التشريعي الولائي. حاكم الاقليم محمد عثمان كبر يقول عنهما في حوار صحفي إنهما "نائبان منتخبان في المجلس التشريعي لولاية شمال درافور، ومن ابناء المؤتمر الوطني الخلّص ـ وانا اصر على الخلّص هذه ـ وهم الآن في السجن" (الأحداث، 5 مايو 2010).

خلاف كثير من الناس لم يفاجأ المرء بما أفرزه هذا السوق من أزمة جديدة للسلطة الحاكمة المعطونة بالمشاكل، وهي نفسها (السلطة- المشكلة) المتوقع فيها حلحلة مشاكلها على حساب مشاكل العامة. والشئ الآخر أنني لم أفاجأ بما أحدثه السوق المعني من دمار بالغ لموارد المواطنين، فوقا عن ما هم عليه من دمار أمني، وإجتماعي، وتدن معيشي، وخدماتي.

فكلنا يعلم أن المواطنيين المخلصيين، كما وصفهما الحاكم كبر، وجدا في فضاء التجارة ما يسهم سريعا في تحقيق رغباتهما الثرائية الحرام. ويعتقد المرء أن كل ما فعلانه المخلصان هو فقط إستغلال الوضع الاقتصادي الذي يستغله، بالمقابل، كل مغامر ينتمي للمؤتمر الوطني، ويريد أن يثري، بين ليلة وضحاها، بغض النظر عن تبعات ذلك الثراء على مجمل حياة الفقراء.

والمعادلة هي أنه (ما كان هناك غنى إلا على حساب الفقر). إذن، فالمسألة تتجاوز التعليقات الفوقية التي نظرت إلى ظاهرة المواسير، ولم ترجعها إلى اصولها العميقة. وضحايا الفاشر لن يكونوا آخر الضحايا، أو أولهم. فسياسة التحرير الإقتصادي التي طبقها الدكتور عبد الرحيم حمدي ظلت تعلي من قيم الثراء الفاحش خصما على حاجات المواطنين الواجبة الدعم، والحرية بالمتابعة. لقد أمسى هذا التحرير الإقتصادي، في ظل غياب الرقابة الحكومية، يتيح الفرص لأهل الولاء والطاعة للسيطرة على مداخيل الانتاج، والأسواق، وساحات التجارة الداخلية والخارجية، والتعاقدات الحكومية، دون أن يواجهوا بالشفافية التي تمنع إستغلال هذه السياسة التي تردت بالتعليم والصحة بقية الخدمات الأخرى.

حين يجزم كبر بهذا التأكيد على إخلاص أبني المؤتمر الوطني، وهما في قبضة حراس السجن، فهو صادق فيما يقول. فمصلحة الحاكم الذي إنتخبته آلية الإنتخابات الأخيرة هي أن يقول بشكل غير مباشر إن مؤسسي سوق المواسير هم السلطة المنتخبة، ولا داعي لحصر الأمر على مسؤولية الحاكم وحده، وتوجيه الإتهام إليه وحده. لقد أراد كبر أن يفرق دم المأساة على قبائل تنظيمه حتى لا يؤخذ وحده بجريرة المواسير كمتهم أول، أو ثان، أو شاهد ملك.

ولكن كل هذا كوم، ومسؤوليته كحاكم كوم آخر. فالحاكم، في الإسلام ولا نشك إطلاقا في إسلامية كبر، مسؤول أمام الله، والشعب، في حدود سطاته المخصوصة. وهذه المسؤولية السلطوية تبدأ من مراقبة الأسواق، وصدأ المواسير، ومرورا بالأسعار، والامن، وغذاء الناس، وإنتهاء بسلامتهم حتى لا يفجع يوما أن هناك أزمة أنتجتها هذه الأماكن، وأضرت ضررا بليغا برعيته، فيما كلفته أن يكون في هذا الوضع الذي لا يحسد عليه. وليس كافيا أن يلقي كبر مسؤولية سوق المواسير على إثنين من المؤتمرين ثم يجلس هناك ليشير أنه جاهز لأية جهة تنوي التحقيق معه لإثبات جرمه، أو براءته، أو سذاجته.

إن تورط كبر في هذه الماساة من الإبانة ما لا يدعو للشك. فمسؤولية كبر قبل التحقيق معه بانت في إهماله لأمر هذا السوق الذي توسع، وتمدد تحت سمعه، وبصره، ودعمه للإثنين الخلص الفائزين في الإنتخابات الأخيرة، وغضه الطرف عن تلقي تقارير دورية عن مسار هذا السوق الذي يدخله الآلاف كل يوم. ولكن الاستاذ كبر كان ينتظر الشاكون الذين يقولون له إن هناك ظلما وقع عليهم، وعندها سيكون للمقام مقال.

إنه أراد ــ بالمثل الرائج ــ أن (تقع الفأس في الرأس) حتى إذا تصايحت الأصوات تحت الأنقاض تحرك للقيام بمهام الولاية الإسلامية. أما أن يتقصى أمر هذا السوق الزئبقي في بدء نشأته، وأن يطلب فتوى من جماعة علماء السودان تؤكد أحليته، أو ربويته، أو ربوبيته، أو أن يقوم بزيارة ليرى بأم عينه كيف تتوفر لهذا السوق المكتظ دورات مياه تعين النساء، والمرضى، أو أن يختبر مستقبل السوق من خلال وزيره المالي، أو مستشاريه الماليين، أو أن يرى كيف أن السوق بحاجة إلى تطويره كمعلم بارز في فاشر السلطان، فإن هذه الأماني ليست في فقه الوظيفة الإسلامية التي عرفها كبر بدرت وجرى أخبارها في المأثور الإسلامي بدرب آخر.

فالحاكم كبر، وهو عضو بالحزب الإسلامي، لا يعرف تخوم مسؤولية الحاكم في الإسلام. ولهذا يقول لمحرري (الأحداث): (لا يوجد بائع اشتكى لي، وكذلك لا يوجد مشتري تقدم بشكوى ولم يأت مواطن متضرر، خصوصا في ظل سياسية التحرير الاقتصادي وعليه انا لست مسئولا عن التفاصيل، وليس من حقي سؤال الناس عن دخولهم للسوق) هؤلاء هم حكام الإسلام الجديد الذي إنتخبتهم الجماهير، المغمومة إسلاميا، لحماية مكتسباتهم. وهذا هو الفقه الحضاري الذي يسعى المؤتمر الوطني لتبليغه للناس. فالسيد كبر، وهو يستظل بسياسة التحرير الإقتصادي الرمضاء، يعتبر نفسه ليس مسؤولا عن تفاصيل حياة الرعية الذين يغدون ويروحون إلى السوق. وليس في نافوخه فقها إسلاميا عن سؤال سيدنا عمر لتلك المرأة عن حال أبنائها، أتعشوا أم لا؟، ولم ير في الفقه الذي نصبه حاكما لدارفور، بالتعيين والإنتخاب المشبوه، إستنادا صحيحا ليدخل به هذا السوق ليسأل عن مرتاديه إن كانوا قد قضوا فيه حاجاتهم بعسر، أم بأريحية.؟ كان حسب السيد كبر هو أن يجلس في قصره المنيف لينتظر المواطنيين وقد تعرضوا للمأساة حتى يتحرك، حينها، ليقول لهم ولنا إن الذين أكلوا أموالكم بالباطل، ووضعوكم في هذا الموقف، هم أخلص المخلصين.!

إن أزمة سوق المواسير، على ما تبعتها من مسؤوليات لأبناء دارفور المخلصين، مع تستر حاكم دارفور، ليست معزولة عن حالة الفشل السياسي للمؤتمر الوطني في إدارة أحوال المواطنين أينما وجدوا. والتجربة بينت لنا أن معظم الأحداث التي جرت في العقدين الماضيين تتعلق بغياب أسس الحكم الرشيد.

فالرابط الأساس وسط مشاكل المحكمة الجنائية، ونذر إنفصال الجنوب، والتدني الاقتصادي والأخلاقي، وتدهور القيم، وتنامي العنف، إلخ، هو عدم وجود النظرية، والأشخاص الذين يستطيعون تسييس حيوات الناس بالشكل المطلوب. والسيرة الذاتية للحاكم كبر هي سيرة جميع الأشخاص الذين يشكلون سلطة الدولة، وما فعله كبر يمكن أن يفعله اي واحد منهم إذا تواتت له سانحة لتولي أمر الناس. بل أن القصص المتداولة عن تجاهل رموز الإنقاذ لمسؤولياتهم العامة لا تختلف عما لكبر من قصص تتنوع وتطول، ولكنها في خاتم الامر تدل على نوع المسؤوليين الذين يجب أن يتماشوا مع حالة التوهان الإسلاموي.  

يقول السيد كبر للمحررين: "وما يؤكد ان القضية اصبحت سياسية أن المتظاهرين يرفعون شعارات وهتافات على شاكلة «مليون شهيد أو والي جديد» وهناك من يهتف «الشجرة عصرتنا يا الديك افزعنا» فما علاقة هذا بسوق المواسير". والحقيقة لم أفهم مغزى الفصل بين السياسة والقضية محل الخلاف، فعلى السيد كبر الذي ينتمي للمشروع الحضاري الذي لا يفصل بين السياسة والدين، أن يدرك أن الهتاف بضرورة وجود وال جديد أملته تفرطه في حقوق الرعية، وأن المقاربة السياسية التي أقامها المواطنون بين الشجرة والديك هي رد فعل لفشله في القيام بسلطاته العامة.

إن السيد كبر يستنكف من تحول القضية المتقاطعة مع كل أنواع التعاملات التجارية إلى قضية سياسية. وكأنه كان يتمنى ألا يستخدم المتظاهرون المظلومون حق التظاهر السياسي في محاولة لإسترداد حقوقهم المنهوبة. وما الذي لا يجبر المظلومون، وغير المظلومين، من تبني السياسة بوسائلها الكثيرة لفضح ولايته التي فهمت أنه ينبغي لأزمة سوق المواسير أن تكون بمعزل عن السياسة أو تحويلها إلى قضية سياسية.

إن الجماهير التي وظفت السياسة للهتاف بقولها " مليون شهيد أو والي جديد" يا سيدنا كبرت أرادت أن تقول لك إن أي فشل للمؤتمر الوطني في تسيير أمور الناس الحياتية ينبغي أن يواجه بإجراء سياسي وسيلته التظاهر السلمي الذي لن يؤذيك في قصر، أو يلحق الذين يدركون في الخرطوم أن سياساتهم عموما، والتجارية خصوصا، هي من بنات تفكير القوي الأمين الذين يرى أن من يهدر أموال المواطنين ويدخل السجن هو من الأبناء المخلصين.

salah shuaib [salshua7@maktoob.com]

 

آراء