الامن المائي ومياه النيل في القانون الدولي القديم والحديث هل بوسع اثيوبيا حجر تدفق مياه النيل الازرق؟ 

 


 

 

لقد اسهب المختصون وغيرهم فى هذا السجال الحامى منذ امد بشأن مصير مياه النيل بين ما وصفته الدبلوماسية السودانية  ب "التعنت الاثيوبى" وفشل جولات التفاوض المتوالية والتوجه لمجلس الامن او اعتماد خيار التحكيم  إذا إقتضت الضروره . فى عام 1960 نشر استاذ القانون والدراسات الشرقية بجامعة شيفيلد البريطانية "سى . دى. أو. فاران" ورقة تناول فيها موقف السودان تجاه اتفاقية 1929 حينما شرع السودان فى دراسة الجدوى القانونية لموقفه من اتفاقية مياه النيل ؛  بعد الاستئناس بمشورة محامين وقانونيين دوليين آنذاك. وكان السودان لا يرى اتفاقية مياه النيل لعام 1929 ملزمة قانونا لأنها تحجر على حريته فى الاستفاده من مياه النيل إلا بالقدر الذى ضمنته الاتفاقية كما اوضح الاستاذ فاران ؛ لانه كان يتطلع إلى الحصول على حصة اكبر من المياه ؛ وان العامل الأساس الذى بموجبه جرت المحاصصة المائية كان عدد السكان فى الدولتين، وهو عنصر متحرك.

يمكن تعريف المعاهدة بشكل مبسط انها اتفاقيه مكتوبة بين دولتين مستقلتين أو اكثر تنشىء التزامات قانونية بين الموقعين عليها بقصد تنظيم العلاقة القانونية بين تلك الدول وتتمتع بصفة الالزام بعد المصادقة عليها من قبل جهات الاختصاص السيادى العليا فى الدول المتعاهدة. صحيح ان المعاهده حسب القانون الدولى تنشىء التزامات تعاهدية ولكن ليست وحدها ؛ وان القانون الدولى الحديث يلزم الدول بالقانون الدولى العرفى.

 ويقصد بالقانون الدولي العرفي القواعد غير المكتوبة التى تنشأ من الممارسة العامة للدول التى ترقى إلى مرتبة الالزام القانونى ؛ فهى تنبثق من "التطبيق العام المقبول بوصفه قانونا" ولذلك فهى تنبع من الممارسة الدولية التى يتوافق عليها المجتمع الدولى. وهى "المبادىء القانونية العامة التى تقر بها الأمم المتحضرة " كما ورد فى ميثاق محكمة العدل الدولية. ومثال ذلك القانونى الانسانى الدولى الذى ينظم عملية النزاعات المسلحة المحلية والدولية ويحافظ على حقوق المدنيين عند اندلاعها والذى بلورته اتفاقيات جنيف الاربع لعام  1949؛  فهى ضمن عداد القانون الدولى العرفي.

وبهذا الحد يصبح القانون الدولى العرفى احد مصادر القانون الدولي مثله مثل قانون المعاهدات الذى يلزم فقط الدول المتعاهده فيما بينها. وتتكون "اكسيومات" القانون الدولي العرفى من عادات واعراف الدول الشائعة والسلوكات والتصرفات والتشريعات التى تواضعت عليها والتزمت الدول بمراعاتها وأتباعها بمرور الزمن وتوافقت عليها كقواعد ثابته منظمة واعراف راسخه عامة تخضع لأحكامها. ولذلك تعتبر قواعد القانون الدولى العرفى ملزمة فى المجتمع الدولى  وتطبق بالمحاكم الوطنية والدولية ويشار إليها بمصطلح لاتينى

"opinio juris".


هوية السودان الملتبسة فى اتفاقية الحكم الثنائى:

يرى الاستاذ البريطانى  المذكور "فاران" والذى بذل مجهودا اكاديميا كبيرا فى تاريخ القانونين الانجليزى والاسكتلندى وكذلك القانون الدولى ؛ ان اتفاقية الحكم الثنائى المعقودة فى عام 1889 لا يمكن ان يطلق عليها معاهدة تترتب عليها التزامات قانونية بموجب القانون الدولى. وذلك لأن مصر الطرف الآخر الموقع عليها لم تكن يومها دولة ذات سيادة او كيان ذى شخصية اعتبارية قانونية او دولية يمكنها أخذ الحقوق او التعهد بالالتزامات تحت القانون الدولى السائد يومها. وأفضل وصف قانونى لمصر يومذاك انها "ولاية عثمانية" مستقلة تخضع للاحتلال العسكرى البريطانى وهذا هو ما كتبه لورد كرومر بشكل صريح فى مذكراته المؤرخة فى 10 نوفمبر  1898.ولقد اعترفت بريطانيا فقط فى عام 1922 بإستقلال مصر كدولة ذات سياده ؛ ولذلك فإن اتفاقية 1929 ملزمة للاطراف الموقعه عليها حينذاك. ولكنه يطرح السؤال: هل يمكن لبريطانيا ان تلزم السودان فى سلوكه المستقبلى بتبعات اتفاقية وقعتها مع مصر؟. فى حقيقة الامر لم  تقم بريطانيا بضم السودان إلى سيادتها او تعلن عنه بإعتباره إقليميا تابعا لها. ولذلك يمكن طرح السؤال هل يحق لها ان تتصرف نيابة عن شعب السودان؟ ويجزم الاستاذ القانوني "فاران" ان السودان لم يعتبر بحكم القانون الدولى السائد حينها مستعمرة بريطانية ولم يكن ملزما بالأحكام او القواعد السارية على المستعمرات. وبالنظر فى نصوص الاتفاقية المذكورة "الحكم الثنائى" نجدها تورد ؛ ان يكون السودان فى المستقبل (بداية من توقيع الاتفاقية ومابعدها) تحت إشراف ادارة إنجليزية - مصرية مشتركة. ومن حيث المنظور القانونى لم يتم تغيير الوضعية القانونية السابقة التى كانت سارية إبان دولة المهدية وحكم الخليفة عبدالله. فمن جهة ؛ ان الاتفاقية لم تغير ولم تمس الوضعية القانونية لإقليم السودان لأن اتفاقية الحكم الثنائى نفسها لم تستوفى شروط المعاهدة القانونية فى القانون الدولى السارى يومذاك.

ومن جهة اخرى ان المالك او القائم بالاعمال السيادية الأصيل وهو فى هذه الحالة الإمبراطورية العثمانية أو الباب العالى فى تركيا ؛ التى تتبع لها ولاية مصر تحت حكم الخديوى العثمانى؛ لم تتم دعوته ليكون شريكا فى عملية الفتح (الغزو) العسكرى التى طالت دولة المهدية فى عام 1898. ولذلك فإن السودان لا يمكن القول انه اصبح إقليما بريطانيا كما ورد فى المصطلح "الثنائى"  وصفا لنمط الادارة السياسية المزدوجة ؛ وليس كذلك إقليما "إنجليزيا- مصريا" بموجب القانون الدولى. لقد استمر السودان فى حكم القانون الدولى إقليميا سياديا يتمتع بوضعيته السابقة على العهد المهدوى انتزعت سيادته بالحديد والنار؛ ولم يكن كذلك ضمن "املاك" مصر حينها، ولكنه خضع لعملية غزو  عسكرية وضعت مخططها بريطانيا وقام بتمويلها مخدوعا خديوى مصرى العثمانى. ولذلك جرت الاشاره إلى السودان بشكل غامض بحسبانه محافظة مصرية؟ إلا انه لم يكن كذلك بحكم الامر الواقع. ولذلك وفى عام 1899 أوضحت بريطانيا انها ستقوم بإدارة شؤون السياسة الخارجية للسودان او ما وصف بالمحافظات "المحررة" التى تكون السودان الحديث. ولم تتم الاشارة فى اتفاقية الحكم الثنائى إلى سلطة إبرام المعاهدات او الاتفاقيات الدولية إلا بإعتبار ان موضوع الاتفاقيات الدولية يقع ضمن إختصاص السياسة الخارجية حيث تقرأ المادة    (11) من الاتفاقية:-

" لا يتم إعتماد القناصل او نواب القناصل او وكلاء القناصل بخصوص السودان، او يسمح لهم بالاقامة بالسودان بدون موافقة مسبقة من قبل حكومة ملكة بريطانيا". ولم تتم الاشارة إلى الموافقة الثنائية او المشتركة لطرفى الاتفاقية بل إقترنت بالارادة البريطانية المنفردة . وفى ذلك الوقت كانت مسألة السياسة الخارجية المصرية نفسها تحت هيمنة بريطانيا. والسؤال: هل يحق لبريطانيا منفردة بموجب اتفاقية الحكم الثنائى كأمر واقع تم فرضه على اهل السودان قهريا وعسكريا ان تقوم بأعباء المسؤولية الدولية عن إقليم السودان؟ يقول الاستاذ القانونى "فاران" إن  أخذ موافقة مصر لم تكن ضرورية حتى بعد نيلها الاستقلال فى عام 1922، لأنه لم يحدث شىء حينها من شأنه التأثير على وضع السودان. بروفسور فيصل عبد الرحمن على طه استاذ القانون الدولى السابق بكلية القانون - جامعة الخرطوم يأخذ بنفس المنحى إذ يقول "إن عبارة - ثنائى - لم يرد ذكرها فى اتفاقية 1899 ؛ ولم ترد فيها  الاشارة إلى السيادة المشتركة  مما ادى إلى حدوث ارتباك حيال الوضعية القانونية التى اصبحت مصدرا للشقاق الدائم بين الحكومات البريطانية

والمصرية المتعاقبة ، ولم تنجح بدورها المعاهدة البريطانية – المصرية لعام 1936 فى حل الاشكال بيد انها نصت على الحفاظ على الامر الواقع".

الوضع القانونى السائد فى عام 1929:

عندما ابرمت اتفاقية 1929 كان حجم سكان السودان يعادل 5.5 مليون نسمة وفى الستينات بلغ 10 ملايين. وفى عام 1929 كان تعداد سكان مصر حوالى 14 مليون نسمة بلغ فى الستينات حوالى 22 مليون نسمة. لقد إزداد حجم السكان فى مصر والسودان واثيوبيا بشكل كبير جدا مما يبرر اللجوء لقاعدة تغير الظروف بشكل إستثنائى لأن هذا هو الظرف الذى تم الاعتماد عليه فى تقسيم مياه النيل فى اتفاقية 1929، اى عدد سكان مصر والسودان. وكذلك زادت رقعة الارض الضرورية للزراعة منذ ذلك الحين بشكل مضطرد. ومعلوم إن اتفاقية 1929 نتجت عن تقرير لجنة مياه النيل فى عام 1925 المتعلق بالاستخدام الاقتصادى لمياه النيل عبر التعاون وحسن النوايا. وإن الاتفاقية ابرمت بإسم "السودان الانجليزى - المصر ى". ونظرا لأن  نهر النيل يعتبر نهرا مائيا دوليا عابرا للحدود يستوجب هذا التفاوض بحسن نية للتوصل إلى اتفاق يسنده القانون فيما يخص مياه النيل. إن القانون الدولى العرفى السائد عند إبرام اتفاقية مياه النيل لعام 1929 مع السودان المتعلق بوضعية الانهار الدولية هو السماح بتدفق وإنسياب كامل مياه النهر فى المجرى الادنى بدون انتقاص.

إن القواعد المتعلقة بمياه الانهار الدولية قد تطورت فى اوربا لأن انهارها المعروفة مثل الدانوب والراين كانت تستخدم كوسائل مواصلات وليس كوسائل رى. يقول الاستاذ "فاران" إن القانون الدولى السائد حينذاك (عشرينات القرن الماضى) يقرر: "الدولة الجديدة بالرغم من كونها الخالفة لاسم السيادة السابقة او حقها القانونى الا انها ليست ملزمة بالمعاهدات التى تقع ضمن إطار المعاهدات العامة او السياسية ؛ ولكنها ملزمة بالمعاهدات المحلية و الاقليمية التى نجم عنها حقوق مكتسبة لدى الدولة الاخرى" مثل اتفاقية قنال السويس التى تعطى للسفن التابعة للدول الأخرى حق عبور القنال لأن حق العبور ذو صفة إقليمية " ولذلك فإن الدول الخالفة ملزمة بالمعاهدات الاقليمية ومن ضمنها المعاهدات المتعلقة بالانهار ، وهو حق اكدت عليه محكمة العدل الدولية فى قضية " المناطق الحرة لسافوى العليا " Free zones of Upper Savoy .


الاتفاقيات المانعة لإعاقة مجرى النيل:

تم توقيع اتفاقيات عديدة  لتنظيم او محاصصة مياه النيل خلال نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وفى اتفاقية روما المبرمة في  ابريل 1891، بين بريطانيا و ايطاليا كدولتين محتلتين لكل من مصر وارتريا تعهدت ايطاليا بعدم إنشاء أى مشروعات على نهر عطبره (تكازى). وتم توقيع اتفاقية اديس ابابا في عام 1902 بين بريطانيا التى كانت تحتل السودان ومصر "ن يابة عن مصر والسودان " و اثيوبيا  حيث تعهدت فيها اثيوبيا  بعدم القيام بأى اعمال على النيل الازرق او بحيره تانا او نهر السوباط من شأنها ان تؤدى للتاثير على كمية مياه نهر النيل المتدفقه دون اذن من الحكومه البريطانيه. ا ما في عام 1906 فقد تم توقيع اتفاقيه لندن بين كل من بريطانيا نائبة عن السودان - و إيطاليا وفرنسا و الكونغو البلجيكى تمنع اقامه منشآت على نهرى السمبيكى و التانجو وتقود لانتقاص المياه التى تصب فى بحيره البرت ؛ بدون موافقه حكومة  السودان. وفى عام 1925 تم ابرام اتفاقية روما التى منعت المساس بالحقوق التاريخيه فى مياه النيل أو اقامة مشاريع مائيه تؤدى لنقصان مياه النيل او خفض كميتها التى تجرى فى الاراضى المصريه . وفي عام 1959 أبرمت مصر والسودان اتفاقية حددت كمية المياه التى تصل مصر ب 55 مليار متر مكعب سنويا فيما خصص للسودان  18,5 مليار متر مكعب سنويا .

ومن حيث الدلالة القانونية يلاحظ بروفيسور " دو لا بينا " التالى:

ان الوضع الجغرافى للدول المختلفة تم بلورته فى الموقف القانونى الذى تمسكت به وان وضعية القانون المحلى فى الدول اعتمدت هيكل قانونى يضع تقنينا بطرق مختلفة لإدارة مائية مركزية ، وعلى الصعيد الدولى تمسكت الدول بموقف الدعاوى المطروحه من جهة والدعاوى المضادة لها من جهة اخرى. وان الموقفين اللذين تم التمسك بهما فى حوض النيل يعتمدان على نظرية السيادة الاقليمية المطلقة والتكامل الاقليمى المغلق. ولأن اثيوبيا تسهم بحوالى 80% من مياه النيل فإنها تتمسك بمبدأ السيادة  الوطنية على كافة الموارد الطبيعية داخل اقليمها السيادى وبالتالى تنادى بتطبيق هذا المبدأ على الانهار الدولية. كما تحاجج اثيوبيا بأن لها حقا طبيعيا فى مياه النيل والتزاما وطنيا حيال استغلال موارد المياه لمصلحة الأجيال الحاضرة والقادمة وهذا حق مشروع.

وتقول انه بعد إستيفاء حاجتها من مياه النيل فإنها ستسحب امتياز قدرتها على المساهمة عبر مواردها الطبيعية ووسائل حفظها فى رفاه سكان الدول المتشاطئة على النيل. وبالتالى فإن اثيوبيا تتمسك بمفهوم السيادة الاقليمية المطلقة فى القانون الدولى. وتشير اثيوبيا فى ذلك إلى قرار الجمعية العامة للامم المتحدة رقم ( 3171) - XXV111  الذى يؤكد على الحق الثابت للدول فى السيادة الدائمة على كافة مواردها الطبيعية الموجودة داخل حدودها الدولية وفى قاع البحر. ولكن قرارات الجمعية العامة لا ترقى إلى نفس مرتبة قرارات مجلس الأمن وليس لها ذات المستوى من الالزامية بحكم ان ميثاق الامم المتحدة أسبغ على قرارات مجلس الأمن صفة الالزامية القانونية. ويؤكد القرار على ان لكل حق قانونى التزام يتفرع منه ، وهناك واجب يملى على الدول احترام السلامة الاقليمية للدول الاخرى بما فى ذلك الالتزام بعدم تسبيب ضرر بليغ بمصالح دول الجوار. ان استخدام المياه لغير اغراض الابحار يحكمه مبدأ حسن الجوار حتى فى اوقات الحرب ، وان دول مثل اثيوبيا والهند وإسرائيل قامت بالاحتجاج السياسى اعمالا لنظرية السيادة المطلقة المندرسة من حيث كونها دول احواض عليا ضد دول احواض نيليه سفلى.


إثيوبيا ونظرية هارمون القانونية:

فى وقت ما استخدمت امريكا نظرية "هارمون" التى اقتبست مسماها من اسم النائب العام الامريكى "جودسون هارمون"  الذى احتج عام 1985 بقوله: "ان المبدأ الاساس للقانون الدولى هو السيادة المطلقة لكل امه ضد الدول الاخرى فى حدود اقليمها لأن القواعد والمبادىء والسوابق فى القانون الدولى تفرض مسؤولية او التزام على الولايات المتحدة ". واعتمدت امريكا على النظرية اعلاه فى خلافها مع المكسيك حول مياه "ريو غراندى" لتحول دون الاقرار بدعوى المكسيك فى المياه  المذكورة  لأن ممارسة الدول ومن بينها امريكا تدل على ان لدول الحوض الاعلى التزام بالاخذ بالاعتبا ر الحاجات المائية لدول الحوض الادنى. ولم تلتزم امريكا نفسها فى موقف آخر بنظرية هارمون فى نزاعها مع كندا فى الخمسينات عندما اعتمدت كندا على المادة (2) من الاتفاقية الثنائية مع امريكا المبرمة عام 1959 حيث تمسكت بالموقف التالى:

" تمتلك الدولة النيلية الحق بالاستفادة القصوى من نظام المياه الدولية فى اراضيها بالتوافق مع الحق المقابل لكل دولة نيلية اخرى.

ويحق للدول النيلية المشاطئة المشاركة فى استخدام منافع نظام المياه الدولية بشكل عادل ومعقول . اى الاقرار بمبدأ الجيرة الحسنة والاستخدام العادل والمعقول للموارد المائية المشتركة.

ان اثيوبيا لا تزال تتمسك بمبدأ "هارمون"  الذى نسخته ممارسة الدول فى القانون الدولى الحديث وهو الشىء الذى لن يخدم مصالحها. وعندما انشئت تركيا سد اتاتورك بالرغم من اعتراضات دول الحوض الأدنى مثل العراق وسوريا اضطرا  الى تقصير امد امتناعها الفردى من مياه نهرى دجله والفرات لملء السد لمدة يوم واحد. لقد تم حسم خلافات ومنازعات الدول على مجارى المياه المشتركة عبر التحكيم الدولى او محكمة العدل الدولية مثال نزاع فرنسا واسبانيا حول بحيرة " لا نو " حيث رفضت المحكمة حجة فرنسا ان يتم تفسير معاهدة "بايون" بشكل مقيد تمشيا مع مبدأ السيادة الاقليمية للدول لأن المبدأ يخضع للقيود والالتزامات الدولية الناشئة من معاهدات ثنائية او متعددة الاطراف. واكدت المحكمة على حق دول الحوض الأدنى الذى يجب الاقرار به من قبل دول الحوض الاعلىى. ولذلك قررت المحكمة انه بموجب القانون الدولى العرفى يحق لكل دولة امتلاك الحق السيادى فى استخدام المجرى المائى الدولى فى اقليمها ولكن يجب ان يتم تنفيذ هذا الحق باعتبار حقوق الدول النيلية الاخرى ؛ وهو ما يعنى ان لاثيوبيا الحق فى استخدام مياه النيل ولكن مع التزام اخذ حاجات دول الحوض الادنى بالاعتبار. ويعتقد الاثيوبيون ان مصر تقع فى الحوض الأدنى لنهر النيل وانها تلتزم بمبدأ التكامل الاقليمى المطلق وهذا يمكن التثبت منه من المصطلحات التى تستخدمها مصر "حقوق مصر الطبيعية والتاريخية فى مياه النيل وان " دول حوض النيل الاخرى عليها الا تستخدم مياه النيل باى شكل من شانه ان يضر بمصر وان النهر ليس مملوكا باكمله للدول الاخرى كى تستخدمه". وفى عام 1981 ورد فى ورقة بحثية مصرية: " فى حالة عدم وجود معاهدة تسمح لدول حوض النيل الاعلى بحيازة واستخدام مياه النهر الذى يوجد مجراه فى اقليمها؛ فأنها لا تمتلك الحق باى حال باتخاذ اى إجراء ايجابى او سلبى يؤدى إلى إعاقة تدفق كمية المياه فى النيل " وهذا صحيح من نظرة القانون الدولى. الثابت ان الدول لا تملك حق التصرف الكامل فى الانهار ماعدا التى تنبع وتصب فى داخل إقليمها السيادى ولكن ليس الانهار الموصوفة بانها دولية تنبع وتجرى مياهها عبر حدود دولتين او اكثر. ولا يمكن لتلك الدول ان تسد مجارى تلك الانهار كنهر النيل مثلا.

والثابت لدى فقهاء القانون الدولى ان القانون الدولى العرفى تسرى مبادؤه عند عدم وجود معاهدة او إتفاقية تنظم حصص المياه بين كافة الدول التى يمر عبرها مجرى النهر حتى مصبه النهائى. ولذلك لا تملك اى دوله من الدول النيلية بما فيها إثيوبيا ان تعلن عن حقها السيادى المنفرد فى التصرف التام بمياه النيل الازرق العابر لحدودها. وفى الطبعة الثامنة لكتاب الفقيه البريطانى فى القانونى الدولى "اوبنهايم" الذى حرره الفقيه القانونى "لوترباخت" وصدر فى عام 1955 ؛ تم تقرير القاعدة القانونية التالية:

" ان جريان الانهار التى تمر فى حدود غير وطنية وكذلك الانهار الدولية لا تقع تحت السلطة التعسفية لأى دولة من الدول النهرية  وان قاعدة القانون الدولى هى عدم السماح لأى دولة بتغيير الأحوال الطبيعية لإقليم الدولة المجاورة ". ولذلك فإن الدولة ليست ممنوعة فقط من وقف او تحوير إنسياب النهر  الذى يجرى من إقليمها إلى دولة مجاوره ؛ ولكن تمنع  كذلك من إستخدام مياه النهر لتسبيب خطر للدولة المجاوره او منعها من الاستخدام الملائم لانسياب النهر من طرفها".

إن اثيوبيا ملزمة بمراعاة عابرية نهر النيل الذى لا يمكن التحكم فيه من قبل دولة المصب بموجب قوانين محلية او إرادة سيادية منفردة وعليها بموجب القانون الدول مراعاة الحاجة العادلة لكلا الدولتين من مياه النيل وان اثيوبيا ينبع فيها انهار اخرى مما يضمن لها وفرة مياه الشرب والرى. من حيث الدلالة الاستراتيجية ستكون المياه العذبه اميز  مورد يتميز بقيمة غير مماثلة لغيرها من الموارد ؛ إذا انها سوف تتفوق على النفط واهميته كمورد طبيعى تصدر قائمة الموارد الاقتصادية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. سوف تشكل المياه العذبة قيمة عليا لاقتصاديات الدول التى تحظى بها نظرا لأهمية المياه لكل أوجه الاقتصاد مثل انتاج المواد الغذائية والمنتجات المصنعة وانتاج الطاقة وغيرها. وفى الشرق الأوسط تاخذ المياه اهمية إستراتيجية قصوى وحيوية حيث خصصت السعوديه مبلغ 53 بليون دولار ؛ والامارات  10 بليون دولار ؛ وأعلنت دبى عن خطط بتكلفة 20 بليون؛ بهدف الحصول على المياه العذبة. ولذلك يجب ان تعني الدبلوماسية السودانية كما تفعل الآن بموضوع مياه النيل لأنها ليست شديدة الارتباط بالاامن القومي فحسب بل قد تصبح عما قريب تباع بثمن باهظ ضمن إحداثيات الصراع المستتر الذى تقوده اكثر من 20 شركة ومؤسسة مالية وإستثمارية غربية تريد الهيمنة على مياه النيل إنطلاقا من إثيوبيا.

هذه الموضوع لا تحسمه العواطف الجياشة ولكن الاقرار بالمصالح المتأتية لشعوب حوض النيل الذين يهمهم مسالة مياه النيل قبل غيرهم من ملاك الرساميل الذين يريدون ان يخلقوا منها سوقا عالمية وسط متغيرات ايكولوجية وبيئية وموازين قوى آخذه بالتبدل. وسوف  لن تكسب هذه " الحرب" التى ينبغى خوضها ليس بالسلاح ولكن بالحكمة والعقلان والانتباه الحذر ووضع الاستراتيجيات الرصينة فى إطار ما يحدث فى المنطقة من متغيرات متسارعة.


 faran.idriss5@gmail.com

 

آراء