هذا الاقليم السوداني الذي نكب بالحروب السياسية والصراعات القبلية منذ اكثر من ثلاثة عشر عاماً , مايزال جرحه ينزف جراء هذه الحروب اللعينة , ان اكثر ما اضر باقليم دارفور هو تجييش النظام لافراد من بعض قبائله بطريقة انتقائية صارخة , و استخدامه لهم في مشروعه الذي اراد به قمع واسكات صوت الثوار , الامر الذي فشل فيه النظام , اذ لم يستطع طيلة هذه السنين , كسر شوكة هؤلاء المنادين بالحرية والفدرالية والعدالة الاجتماعية , فبناء على هذا الاستقطاب القبلي في تجنيد افراد هذه القبائل اصبح امتلاك السلاح متاحاً للجميع , و انتعشت ثقافة العنف بين شباب هذا الجيل الذي نشأ وتربى تحت ازيز الطائرات و فرقعة المتفجرات , فاليوم اضحى من اليسير في دارفور ان يمتلك الفرد مدفعاً ثقيلاً مضاداً للطائرات , لقد تشبعت نفوس المراهقين والشباب بغرور الفروسية , والافتتان ببطولات رموز الحراك المسلح في الاقليم بشقيه التقليديين , التورابورا و الجنجويد , كما يحلو لسكان الاقليم تسمية وتصنيف هاتين الفرقتين , اصبحت صور جثث وقتلى المعارك امام اعين الاطفال و النساء في القرى و الاسواق امراً طبيعياً , فبدلاً من ان يصنع الطفل ذو الخمسة اعوام حصاناً او عربة من الطين , تجده يتفنن في نحت بندقية طينية يتوشحها متباهياً بها بين اقرانه , ان هذه المشاهد المأساوية في مسرح احداث دارفور , تتطابق تماماً مع مظاهر العنف و انتشار السلاح في الصومال.
هنالك ثلاثة محاور للحاملين للسلاح في دارفور , باستثناء الحركات المسلحة والقوات النظامية من شرطة وجيش وامن , فالمحور الاول هو محور المسلحين من فرسان القبائل , الذين لا علاقة لهم بالصراعات السياسية في الاقليم , هؤلاء يمتلكون السلاح بعد شرائه من سوقه الرائجة في الاقليم , ومن اسواق السلاح الاخرى في الدول المجاورة , يسعون بذلك الى حماية ثرواتهم من الابقار و الجمال و الاغنام , فهم قد فقدوا الثقة في النظام في ان يقوم بهذا الدور الذي يعتبر من اوجب واجباته على مواطنيه , ومن سخريات القدر ان هذه الثروة الحيوانية التي يقومون بحراستها , هي الرافد الاوحد لسوق السودان المركزي والسوق الاقليمية بالماشية , فهؤلاء اشتروا هذه الاسلحة بحر مالهم , وليس من السهل منحها مجاناً للنظام في حملات مشروعه الجامع للسلاح , وبهذه المناسبة تحضرني كلمة كانت قد بثت عبر تلفزيون السودان لناظر عموم الرزيقات , حول قرار الحكومة بمصادرة سيارات (البوكو) من المواطنين , قام الناظر بنصح النظام بان يجد بديلاً للاسر التي تمتلك هذه السيارات اذا كان عازماً في المضي قدماً لمصادرتها , لان هذه السيارات تعتبر مصدر رزق يومي لهذه العوائل , وذلك بتشغيلها في تقديم خدمات نقل المواطنين بين الاسواق و القرى , فظاهرة انتشار السلاح و السيارات غير المرخصة القادمة من دول الجوار الى دارفور , في الواقع لها ارتباط وثيق بحياة المواطنين المعيشية و تأمين ثروتهم الحيوانية من ماشية وغير ذلك.
اما المحور الثاني هو محور المليشيات الحكومية , وهؤلاء يتم تجنيدهم بانتقائية قبلية , حتى ان احدهم حدثني بان الضابط المسئول عن مهمة التجنيد هذه يمر على صفوف المتقدمين للانضمام الى هذه المليشيات , و يقوم بالتفرّس في ملامح ووجوه هؤلاء الساعين لولوج سلك الجندية , و يصغي بعناية لالسنتهم وللهجاتهم , وبناء على هذه الطريقة يتم التجنيد , فهؤلاء المنضوون تحت لواء المليشيات الحكومية تحركهم عقيدة قتالية خلفيتها العرق و القبيلة , تنطلق هذه العقيدة القتالية من حرب قديمة اندلعت في سالف القرون و الازمان , في المنطقة الممتدة من دارفور الى تشاد و افرقيا الوسطى , تسمى حرب (ناقة شرنقو) , وهي شبيهة بحرب البسوس التي شهدتها جغرافيا الجزيرة العربية ابان العصر الجاهلي , فحرب ناقة شرنقو هذه ارتكبت فيها جريمة ابادة جماعية بحق قبيلة باكملها , وتم محوها من خارطة المنطقة تماماً , لذلك وجد نظام الخرطوم ضالته في هؤلاء الفتية , وفي مقابل ذلك هم ايضاً وجدوا هذه الضالة في هذا النظام المتشبث بكرسي الحكم , التشبث والتمسك الذي لن يتخلى عنه مهما كلفه ذلك من ثمن , فهذا السلاح الذي هبط على ايديهم بهذه السهولة لن يفرطوا فيه لانه بمثابة الضمانة الوحيدة لبقائهم , وهم يعلمون اكثر من غيرهم مدى ضرورة وجود ترسانة السلاح هذه في حوزتهم , وسوف يصادمون كل من يقف ضد مشروعهم , حتى ولو كان احد ابناء عمومتهم او حتى النظام نفسه , وقد قالها لي احد شيوخ قبائلهم (يا ولدي ما كنا نحلم بهذا فاليوم الابل راتعة فوق سفوح جبل مرة) , ان هذه الشريحة من حملة السلاح في دارفور , هي من سيحرق ارض السلطنة التي امتد تاريخها لقرون حافلة بالامن و الاستقرار و الرفاه , و كما هو معلوم ان نظام الحكم المركزي في الخرطوم ومنذ استقلال البلاد المنقوص , لا يعبأ بارواح مواطنيه المهدرة عبثاً في هامش السودان الكبير , بل ظل يستخدمهم كوقود يحرقها كي تستمر عجلة الامساك باسباب البقاء في السلطة بالدوران.
المحور الثالث هو مجلس الصحوة الثوري , وهو النسخة المتطورة و المنقحة , التي عبّرت بوعي تام , عن تطلعات شريحة من الشعب الدارفوري ظلت حبيسة لسنين طويلة في قفص التخوين , هذا المحور اوقد شمعة في ظلام بحر دارفور المدلهم بالخطوب والحروب , فقد قام مؤسسه الشيخ موسى هلال , بوضع اولى لبنات رتق اللحمة الدارفورية , ومن مميزات هذا المحور انه لا يمتلك السلاح مجرداً , بل يحمل معه فكر صحوي لن يموت , ولو لم تكن خلفية موسى هلال المشبعة بتراث الادارة الاهلية , لما كان هذا ممكناً , فقد يصبح من السهل للنظام ان ينزع السلاح من المحورين السابقين , في حال استطاع توفير بديل يضمن تأمين ثروات المحور الاول , ويحقق وضع قانوني ووظيفي يسنده الدستور لمنسوبي المحور الثاني , اما المحور الثالث فقد تباعدت المسافة بينه وبين النظام , لانه أسس على فكر , و من يعتنق فكراً لن يرضى بالعلاج الموضعي ولا بالاعتماد على المسكنات و المهدئات.
ان تقاطعات المصالح الدولية و الاقليمية سوف تجعل من هذا الاقليم محرقة تزهق فيها الكثير من الارواح البريئة , وربما عصفت رياح هذه الحرب القادمة بهذا الاقليم الذي كان له سبق ودور مقدس في كساء الكعبة المشرفة قبلة المسلمين , وهنا يحضرني قول الراحل حسن الترابي ان البريطانيين لا ينسون ثأرهم , فدارفور المستقلة عن السودان ابان الحرب العالمية الاولى , وقف سلطانها مع حلف دول المحور الذي كانت تقوده المانيا انذاك , في مناهضة واضحة للتمدد البريطاني و الفرنسي في افريقيا , فربما ان الانجلو ساكسون قد هيئوا انفسهم للاجهازعلى دارفور انتقاماً , كيف لا وهي المتمردة بطبعها حسبما نبه لذلك حسن الترابي , فيا فتية هذا الاقليم المنحدر نحو هاوية العدم اين انتم ؟ , هل تنتظرون قدوم مهدي آخر من جزيرة لبب ليشعلها ثورة يخلّص بها الشعوب السودانية من هذا الطاغوت , ام ان مسيح دارفور ما زال قابع في كهفه يأبى ان يخرج ليغسل ارضها من دنس الغزاة و المفسدين و عملاء الاستعمار الجديد !!!
ismeel1@hotmail.com
//////////////////////////