أخبار أخرى
هذه هي الحلقة الحادية والعشرون من وثائق وزارة الخارجية الامريكية عن سنوات اسماعيل الازهري، اول رئيس وزراء في السودان (1954-1956).
بدأت هذه الحلقات بخمس حلقات عن الشيوعيين السودانيين (من سنة 1953): تأسيس حزبهم، وقادتهم، و نشاطاتهم.
وشملت حلقات الازهري: شخصيته. وشخصية محمد احمد محجوب، زعيم المعارضة. واعضاء اول وزارة. وازمة حزب الامة بسبب انتصار الازهري في الانتخابات. ودعوة بابعاد الحزب عن عائلة المهدي. وتردد الازهري بين الاتحاد مع مصر والاستقلال. والازهري والشيوعيون. والازهري والجنوبيون. والازهري والمصريون. والازهري والاخوان المسلمون. والازهري والبريطانيون.
هذه الحلقة عن زيارة تاريخية الى القاهرة، حسم فيها تردده بين الاتحاد مع مصر والاستقلال الكامل.
قبل الزيارة، كان طرد الوزراء المؤيدين لمصر. وزاد هذا غضب المصريين عليه.
غضب جمال عبد الناصر، رئيس الوزراء، اقل من صلاح سالم، وزير شئون السودان. لكنه غضب:
مصر والجنوبيون:
من: مكتب الاتصال، الخرطوم
الى: وزارة الخارجية، واشنطن
الموضوع: غموض
التاريخ: 18-6-1955
عاد الازهري من مؤتمر الدول الافريقية والآسيوية في باندونق (اندونيسيا)، ووجد الوضع الداخلي مهتزا: تمرد وزراء يؤيدون مصر، بعد ان اصدرت اللجنة التنفيذية للحزب الوطني الاتحادي بيانا تاريخيا تحولت فيه من الاتحاد مع مصر الى الاستقلال التام.
وفي نفس الوقت، زاد المصريون نشاطهم في جنوب السوان لكسب مزيد من الجنوبيين للاتحاد معهم. وصار واضحا ان الجنوبي بولين الير، وزير الثروة المعدنية، وقع في شباك المصريين، وصار يدعو للاتحاد معهم.
حسب معلوماتنا الخاصة، سيتخلص الازهري، آجلا او عاجلا، من محمد نور الدين، وزير الاشغال، واكبر مؤيدي مصر. وربما بولين الير. لكن، يبدو ان الازهري يفضل الانتظار قليلا.
في نفس الوقت، طلب الازهري من مدير مديرية اعالي النيل اصدار اوامر للمصريين العاملين في مكتب الري المصري في ملكال الا يتدخلوا في شئون الجنوبيين.
ومثل التوتر والغموض في الجنوب، يوجد توتر وغموض في الخرطوم:
انفصل ميرغني حمزة عن الحزب الوطني الاتحادي، واسس حزب الاستقلال الجمهوري للدعاية لاستقلال السودان. وحسب معلوماتنا، سينفصل محمد نور الدين سينفصل عن الحزب، ويؤسس حزبا للدعاية للاتحاد مع مصر. وسيضم نوابا وسياسيين من الجنوب والشرق والغرب …
وعلمنا من مصادر قريبة من السيد عبد الرحمن المهدي، راعي حزب الامة، انه ابلغ الازهري انه مستعد للتحالف معه لتحقيق الاستقلال.
رأينا:
اولا: قبل اقل من سنة، لم يكن احد يتوقع ان المهدي والازهري يمكن ان يتفقا على اي شئ.
ثانيا: بقدر ما تحول “الازهري الاتحادي” الى “الازهري الاستقلالي”، تغيرت موازين القوى في السودان، وزاد الغموض … “
عزل نور الدين:
من: مكتب الاتصال، الخرطوم
الى: وزارة الخارجية، واشنطن
الموضوع: عزل وزيرين
التاريخ: 28-6-1955
“كما توقعنا قبل عشرة ايام، عزل الازهري وزيرين: محمد نور الدين، وزير الاشغال، وبولين الير، وزير الثروة الحيوانية. وعلمنا من مصادرنا الخاصة ان الدور سيأتي الى ابراهيم المحلاوي، وزير الثروة المعدنية، ومدثر البوشي، وزير العدل. او ان مذكرة تحذير سترسل الى كل واحد منهما.
علق نور الدين: “الآن وقد عزلوني من مجلس الوزراء، تحررت من مسئولياتي الحكومية، واقدر على التحرك في حرية. يوجد في الحزب الوطني الاتحادي مجال افضل من مجلس الوزراء.”
وعلق بولين الير: “يتوتر الوضع في الجنوب، وسيتوتر اكثر. ويرفع الجنوبيون شعار “الجنوب للجنوبيين”، داخل سودان فدرالي.”
وزادت احتمالات ما ذكرنا في برقية سابقة، وهي ان نور الدين سيؤسس حزبا يدعو للاتحاد مع مصر، وسيضم جنوبيين، وسيموله المصريون … “
الازهري في القاهرة:
من: السفارة، القاهرة
الى: وزارة الخارجية، واشنطن
صورة الى: مكتب الاتصال، الخرطوم
الموضوع: هجوم على الازهري
التاريخ: 25-7-1955
“بمناسبة احتفالات ثورة 23 يوليو في مصر، دعا المصريون رئيس الوزراء الازهري، مع قادة وحكام عرب آخرين …
وكأنهم لم يدعوه …
قبل الاحتفالات بشهر، بدات الصحف المصرية تهاجم الازهري، بعد ان تأكد لها انه تحول، نهائيا، من الاتحاد مع مصر الى الاستقلال الكامل. يوم 27-6، بدأ احسان عبد القدوس الهجوم في مجلة “روز اليوسف.” وانضمت الى الهجوم جريدتا النظام: “التحرير” و “الجمهورية”. ثم الجريدة المستقلة “الاخبار”.
اشارت هذه الصحف الى “التغيير المفاجئ في موقف الازهري.” واتهمت “الامبريالية الامريكية والبريطانية” بانهما تريدان فصل السودان عن مصر، وربطه بدول شرق افريقيا. وحذرت السودان بانه سيصير مثل ليبيا (الملكية) والاردن (الملكي) اللتين “فقدتا استقلالهما لتحالفهما مع الدول الغربية.” وقالت افتتاحية جريدة “التحرير”: “يجب وقف الازهري قبل ان يزور الانتخابات القادمة لصالح الذين لا يريدون الوحدة مع مصر.”
ونشرت هذه الصحف مقابلات مطولة مع محمد نور الدين، حليف مصر الذي طرده الازهري من الوزارة. ونشرت برقيات تاييد للاتحاد مع مصر من منظمات سودانية هناك، مثل: جمعية اللواء الابيض، والاتحاد السوداني، واتحاد الطلاب السودانيين، واولاد العباس. وشطبت كثير من هذه المنظمات اسم الازهري كرئيس فخري لها، بعد ان كانت وضعت الاسم بعد ان صار رئيسا للوزراء.
ومن مصادرنا الخاصة، علمنا الآتي:
اولا: خططت الاستخبارات المصرية مع بعض منظمات السودانيين في مصر لعرقلة اي مظاهرة، وادانة اي جمعية، تؤيد استقلال السودان.
ثانيا: يقف وراء ذلك الصاغ صلاح سالم، عضو مجلس قيادة الثورة ووزير شئون السودان.
ثالثا: حصل احسان عبد القدوس، رئيس تحرير مجلة “روز اليوسف”، على رشاوي، وعلى تخفيض عشرة في المائة من قيمة ورق الصحف مقابل تشديد الهجوم على الازهري … “
جمال عبد الناصر:
” … كان جمال عبد الناصر، رئيس الوزراء، اقل غضبا على الازهري من صلاح سالم. لكنه غضب. وفي خطبة علنية رسمية، طلب من “الاخوان السودانيين” التخلص من “الاستعمار واذناب الاستعمار.”
وقال لنا مصدر قريب منه انه كان معتدلا في غضبه على تحول الازهري من الاتحاد مع مصر الى الاستقلال الكامل. لكن، بعد فشل مفاوضات تقسيم ماء النيل بين مصر والسودان، وطلب الازهري من الوفد السوداني ان يعود، تحول عبد الناصر من الاعتدال الى العداء.
وظهر عداء عبد الناصر عندما وصل الازهري الى القاهرة للاشتراك في احتفالات ذكرى ثورة 23 يوليو.
على منصة الاحتفال والعرض العسكري، لم يجلسوا الازهري في المقدمة، مع رؤساء الجمهورية والوزارة. ولكن في مكان جانبي، مع الوزراء المصريين، وشخصيات سابقة، مثل الرئيس السوري السابق شكرى القوتلي، ومفتى القدس السابق امين الحسيني .
وعندما انتهى العرض العسكري، حيا عبد الناصر رؤساء الوفود، ولم يحيي الازهري، وغادر المكان. وفي الحال، دخلت مظاهرة اشترك فيها خمسمائة شخص تقريبا، وهتفت مع وحدة مصر والسودان. وكان واضحا انها بترتيب من الاستخبارات المصرية.
وقال لنا صحافي من باكستان ان الازهري، الذي كان يجلس قريبا من السفير الباكستاني، قال للسفير انه اصيب بخيبة امل كبيرة لان عبد الناصر تعمد ان يحرجه امام كل هذه الوفود العالمية. وانه، الازهري، سيعود الى السودان، ويكون متشددا اكثر ضد الاتحاد مع مصر …
رأينا:
اولا: تبدو معاملة المصريين لرئيس وزراء السودان مثل معاملتهم لرئيس وزراء العراق، نوري السعيد، بعد ان دخل العراق في معاهدة الدفاع الوسطى (حلف بغداد) مع تركيا.
ثانيا: حسب معلوماتنا، في وقت لاحق، بعد ان صار واضحا لعبد الناصر ان اغلبية السودانيين ضد الاتحاد، نصح صلاح سالم بعدم الضغط عليهم.
ثالثا: لا يتوقع المصريون ان يرضخ الازهري، ويؤيد الاتحاد معهم. لكنهم اما يريدون التخلص منه ليأتي رئيس وزراء جديد اقرب الى مصر منه. او ليتأكد للازهري ان مصر تقدر على ان تؤثر على السودان تأثيرات كثيرة … “
صلاح سالم:
من: مكتب الاتصال، الخرطوم
الى: وزارة الخارجية، واشنطن
الموضوع: مقابلة صلاح سالم
التاريخ: 30-7-1955
“عدت من القاهرة بعد ان اشتركت مع السفير بايرود في مقابلة الصاغ صلاح سالم، عضو مجلس قيادة الثورة، ووزير شئون السودان. كان صلاح سالم اشتكاني للسفير، وقال انني جزء من سياسة اميركية عدوانية ضد مصر. وفضل السفير ان يأخذني معه الى صلاح سالم.
طلب منى السفير ان ابدأ الحديث. وانا قلت ان مقابلاتي مع صلاح سالم، عندما زار الخرطوم اكثر من مرة، كانت مفيدة جدا بالنسبة لى لمعرفة تعقيدات الوضع في السودان، وتعقيدات علاقات السودان الدولية.
لكن، كرر صلاح سالم أراءه التي سمعتها في الماضي بان السودانيين مختلفون في قبائلهم، وعاداتهم، ولغاتهم. وانهم لن يقدروا، ابدا، على العمل كشعب واحد.
وقال صلاح سالم ان البريطانيين يريدون فصل السودان عن مصر. ولا يفهم لماذا يتحالف معهم الامريكيون لتحقيق ذلك.
وانا قلت ان هذا ليس صحيحا، وان مكتب الاتصال الامريكي في الخرطوم مكتب محايد.
ورد صلاح سالم ان عنده ادلة ان الولايات المتحدة تصرف مبالغ كبيرة في السودان لابعاده عن الاتحاد مع مصر.
وطلب السفير بايرود من صلاح سالم ان يثبت ذلك. وقال صلاح سالم ان ميزانية مكتب الاتصال الامريكي في الخرطوم عشرة ملايين دولار، ويعمل به اربعون شخصا.
وانا قلت ان هذا لابد ان يكون نكته، لان مكتبنا صغير جدا.
وطلب السفير من صلاح سالم ان يمده بأشياء مكتوبة تثبت ما قال، وتعهد صلاح سالم ان يفعل ذلك في وقت لاحق …
رأينا:
اولا: تعمق في نفسية المصريين ان السودان جزء من مصر. ولهذا، لن يكن سهلا اقناعهم بالعكس.
ثانيا: اكثر من مرة، قال لى صلاح سالم ان الرشاوي تغير السياسات، في السودان وغير السودان. ولم ينف ان مصر ترشي سياسيين سودانيين … “
(تعليق:
النقطة الاولى: في الماضي، كررت وثائق امريكية الحديث عن رشاوى مصر لسياسيين سودانيين لتأييد الاتحاد مع مصر. وهذه اول مرة تشير فيها وثائق الى اتهامات صلاح سالم بان الامريكيين، ايضا، يقدمون رشاوي لسياسيين سودانيين لتاييد الاستقلال.
طبعا، نفي الامريكيون، وطلبوا من صلاح سالم ادلة تثبت رشاوي الامريكيين.
لكن، يمكن استعمال نفس المنطق، وطلب ادلة من الامريكيين تثبت رشاوى المصريين.
النقطة الثانية: تستعمل الوثائق الامريكية احيانا كلمة “رشوة”، واحيانا كلمة “صرف”. ولا يوجد تعريف محدد لكلمة “رشوة”: هل لشراء عربات للحملة الانتخابية؟ او مطابع لصحيفة الحزب؟ او رواتب علنية؟ او رواتب سرية؟ او زجاجات ويسكي؟ او بنات؟
النقطة الثالثة: هذه وثائق وزارة الخارجية الامريكية، التي يفرج عنها بعد ثلاثين سنة. هذه ليست وثائق وكالة الاستخبارات الامريكية، التي ربما لن يفرج عنها الى يوم الدين. ولابد ان فيها ما فيها.
ولهذا، ستظل الاسئلة: هل انفقت الاستخبارات الامريكية سرا على سياسيين سودانيين؟ وبنفس المنطق، هل انفقت الاستخبارات المصرية سرا على سياسيين سودانيين؟
ممممممممممممممممممممممممممم
الحلقة الثانية والعشرين: نحو الاستقلال
ممممممممممممممممممممممممممم
mohammadalisalih@yahoo.com <mailto:mohammadalisalih@yahoo.com>
بسم الله الرحمن الرحيم نقابة المحامين السودانيين لجنة التسيير ورشة عمل: الحوار حول الإطار الدستوري …