ياسر عرمان أو صانع الملك

 


 

 

غندور: هل تريد إعترافا.
ياسر عرمان: لا لست قسيسا.
هذه جملة قصيرة من مشهد متطاول من التفاوض السياسي بين البروفيسور غندور وهو يقود وفد السودان للتفاوض مع الحركة الشعبية في أديس أبابا. كان ياسر عرمان يغلظ القول دون حكمة أو كتاب منير، ويطالب بإعتراف مشهود بأن تكون إتفاقية نافع عقار ضمن مرجعيات التفاوض. وكان غندور الذي قرظه الطيب مصطفي بأن ذكاءه السياسي قد حاصر مراوغات عرمان بعد أن  تراجع عن وصفه بأنه كالقطة الوديعة التي يخشي عليها من شراسة ياسر عرمان. كانت إجابة غندور مشحونة بذكاء الموقف وحذق السياسي وسلاسة الأديب.
وخرج ياسر عرمان من مؤتمر حاشد في عاصمة أوروبية وهو يقول للسودانيين  ( لا تخشوا من قادة الهامش) . وهي ذات العبارة التي رددها منصور خالد من قبل وهو يقول (علي أهل السودان الإستعداد لقبول رئيس من جنوب السودان). وفي كتاب هيلدا جونسون عن وقائع السلام في السودان قال ياسر ( كان قرنق يريد إذا لم يتحقق حلمه بحكم السودان تحت شعارات السودان الجديد أن يفصل جنوب السودان ويبسط سيطرته عليه ومن ثم يعود للتأثير علي شمال السودان). كانت آخر رسالة نصية أرسلها جون قرنق قبل تحطم طائرته في المرتفعات الحدودية بين يوغندا والسودان الي تيد داقني مسئول السودان في دائرة أبحاث الكونقرس الذي ينحدر من أصول أثيوبية والساعد الأيمن لعضو الكونقرس الراحل دونالد بين الذي لا ينافسه في كراهية السودان سوي الناشط أريك رييفز. كان قرنق يمهر رسائله الي تيد داقني تحت أسم (عمك) أو أنكل. وكان تيد داقني مشهورا وسط مجموعة مطعم عطيل بواشنطون الذين  أشرفوا علي تنظيم حملة العداء والكراهية ضد السودان وفصل جنوب السودان بأسم (الإمبراطور).كان فرانسيس دينق يحمل أسم (الدبلوماسي) وكان رئيس المجموعة روجر وينتر المسئول في وكالة الغوث الأميريكة الدولية والمستشار للمبعوث الخاص وقتها يعتبر القاعدة الرئيسية لعمليات اللوبي والعلاقات العامة ضد السودان لصالح الحركة الشعبية في واشنطون. وفي رحلة القطار بين نيويورك وواشنطون التقي تيد داقني بسوزان رايس للمرة الأولي وزعم حينها انه استطاع ان يجند سوزان رايس التي كانت تتقلد حينها منصب مساعدة وزير الخارجية للشؤن الأفريقية لصالح قضية جنوب السودان ومشروع الكراهية الأزلي ضد السودان وتعمل الآن مستشارةالرئيس أوباما لشون الأمن القومي. لذا لم يكن غريبا أن تتسلل رايس أثناء زيارتها لجوبا عام 2011 ضمن وفد مجلس الأمن الدائم لتشهد تدريب شرطة جنوب السودان لتهتف في المجندين (هل أنت جاهزون لإستقلال جنوب السودان. فصرخوا بهستريا نعم جاهزون). وعلقت صحيفة أينر سيتي الخاصة بالأمم المتحدة علي هذا الموقف بأنه خطأ دبلوماسي لا يغتفر.
خرج تيد داقني من جوبا بعد أن حصل علي وظيفة في هيكل الأمم المتحدة للعمل في جنوب السودان حسيرا طريدا ومهددا بالقتل لإتهامه بتحريض سلفاكير علي إرسال خطاب إستراداد الأموال المنهوبة من الوزراء والمسئولين.كان خروجه طريدا من جوبا أشبه بموت حلم كان قد صنعه مع قرنق حتي آخر رسائله قبل مماته. كان تيد داقنييقول دائما  إن الدوافع الحقيقية للنخبة الأمريكية التي تجعل من السودان شغلها الشاغل هو سعيها لتفكيك الدولة التاريخية المركزية التي تتحكم فيها الأقلية العربية المسلمة التي أفرزت الإنقاذ كأحد أبرز تمظهرات وتجليات المشروع العروبي الأسلامي في السودان
وأضطرت هذه المجموعة التي وصفت بالقابلة التي أشرفت علي ميلاد جنوب السودان لاحقا الي اصدار بيان تحذيري لحكومة جنوب السودان.
كان حينها أريك رييفز أستاذ اللغة الإنجليزية بكلية اسميث عضوا صغيرا في هذه المجموعة، يعمل بحكم تخصصه الأكاديمي في كتابة الأوراق والمسودات والمقالات الصارخة والملتهبة.كان أضعف أفراد المجموعة في قدراته السياسية، فأكتفي بتسويد الصحف وتحبير المقالات. ويكاد يخلو سجله الأكاديمي كما وصفه خبير جامعي من أي أسهام حقيقي في مجال تخصصه المهني. بل وجد حمار الشهرة والمجد الزائف واقفا فركب علي ظهره عري كما يقول المثل الشعبي.وأمتهن بدلا عن ذلك كراهية السودان ، فلا تجد ملطمة لبكاء وعويل أنتظارا لجسد السودان المسجي علي عتبة التاريخ حتي تراه في ركب الشامتين . لذا قام حلف معلن بين ياسر عرمان و أريك رييفز للأستثمار في ترسانة الكراهية ضد السودان بعد إنفصال الجنوب ، وأشعال دارفور وخلق جنوب جديد بمواصفات متشابهة تتمثل في خصوصية تاريخية وأقلية عرقية ووجود مسيحي في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق.
وكثف رييفز من نشاطاته والإدلاء بشهادته أمام الكونقرس خاصة بعد إطلاق موقعه (سودان رييفز) وتركيز هجومه علي السودان لصرف النظر عن الفظائع والمآسي بجنوب السودان حتي لا يتهم بتضليل الرأي العام وهو من أسهم في التبشير بجنوب حر ومستقل وديمقراطي فخاب فأله ورهانه.  وبدلا من الإنخراط في أصلاح الوضع في جنوب السودان صوب أسهمه الي السودان بإعتباره سبب الشرور في المنطقة ليكشف عن عجزه الفكري والسياسي.
لا يكاد يفوت علي كل ذي لب و متابع حاذق التعرف علي بصمات الصنعة وشهادة المنشأ لهذا التحالف المشترك بين ياسر عرمان وأريك ريفز لما أسموه وثيقة قلب الظلام والتي زعموا أنها تكشف الأسرار الخفية لتوجهات الحكومة السودانية للتآمر ضد دول الجوار ودعم الإرهاب والتسويف في مطلوبات السلام.
أحتفي الناشطون بالوثيقة التي عدوها أنتصارا لقوة الجبهة الثورية في أختراق حصون الحكومة السودانية في أعتي معاقلها العسكرية، وأنتشي آخرون لأن فيها فضحا وكشفا لروح التآمر علي دول الخليج العربي والجوار. قالت نشرة (أفريكا كونفدينشيال) المقربة لدوائر المخابرات الغربية أن الحكم علي مصداقية الوثيقة ما يزال مهزوزا، إذ يعضض البعض من موثوقيتها بينما يشكك آخرون في مضمونها وهو أمر أكده حسب النشرة أثنين من ضباط المخابرات السابقين في السودان.
لا شك أن كاتب الوثيقة المزيفة يستحق الثناء والتقدير لبذله الجهد المتصل في تلبيس أبليس وتصوير الوهم علي أنه حقيقة،وخياله الخصب المستمد من وقائع مماثلة،  لكن رغم حذقه لفنيات التحرير الصياغي فات عليه أتباع أسلوب المحررات الرسمية، لأن أسلوب كتابة الوثيقة يخالف المعايير المتبعة في تحرير وقائع الإجتماعات الرسمية في الدولة، خاصة في المزج بين اللغة الفصيحة والدارجة، وكذلك مخالفة ترتيب الحضور حسب درجات مناصبهم، التي يجب أن تراعي التراتيبية الهرمية، فلا يمكن أن يكتب في قائمة الحضور أسم بروفيسور غندور مساعدرئيس الجمهورية رقم (7) في القائمة وهو الثاني من حيث التراتبية الهرمية بعد السيد النائب الأول لرئيس الجمهورية. ولعل اللافت للنظر أن يبتدر النقاش الدكتور مصطفي عثمان وزير الإستثمار ويليه مباشرة الفريق صلاح الطيب، من مفوضية الدمج والتسريح ليتحدث في قضايا خارج أختصاصه المهني ومتابعاته اليومية. كما نسب للحضور استخدام مصطلح (المناطق المحررة) وهذا مصطلح خالص للجبهة الثورية وحركات التمرد لا يمكن أن تزل فيه لسان مسئول رسمي. وهذه المناطق بالنسبة للحكومة تسمي المناطق الواقعة تحت سيطرة التمرد وليس المحررة، ولا يمكن أن يقع محرر وثيقة رسمية بهذا المستوي من السرية والأهمية في خطأ لغوي وهو لا يستطيع أن يفرق بين (قروض التجارة)وهي الأصح وبين (غروض التجارة) التي استخدمتها الوثيقة.إلا أن تكون إعادة عرض للمناظرة الشهيرة بين الشريف الهندي ودريج في برلمان الستينات.لا توجد في مؤسسات وهياكل الدولة الرسمية أسما معنيا بهذه اللجنة التي تجمع في عضويتها شخصيات من مؤسسات مختلفة شعبية ورسمية لا يجمع بينها جامع. يحتشد كتاب الحكومة بكثير من الإخفاقات التي يمكن أن تستغلها المعارضة وتشكل منها برنامجا ناجعا ومقبولا للمعارضة ضد الحكومة ولكنها لا تحسن العمل السياسي الصادق والدؤوب بل تلجأ الي التزوير المحض لكسب نقاط متوهمة في حلبة الصراع السياسي. إن أصابع التحالف غير المقدس بين ياسر عرمان وأريك رييفز في تزوير هذه الوثيقة هو ما جعل ترجمتها تظهر في المواقع المختلفة قبل الكشف عن نصها العربي الأصل لأن الهدف هو أن تصل الي مضابط المعلومات والأجهزة الغربية لأنها تثير مخاوفهم و تضاعف قلقهم وأنشغالاتهم في ظل الحرب المستعرة ضد المجموعات المتطرفة في سوريا والعراق، وكذلك حاولت أن تدق أسفين من الشك واستثارة التوترات بين السودان ودول الخليج. ولم تفتر شهية محررها في أن تحشد في محتوياتها كل ما تخشاه دول الجوار والخليج العربي والدول الغربية.وكذلك التشكيك في نوايا الحوار وأحداث التسويات السلمية  وقد حاولت الوثيقة أن تظهر أن السودان دولة مارقة تحكمه أمزجة الأشخاص و رؤية العصابات وليس دولة مؤسسية.. 
لقد أسرفت من قبل وكالة المخابرات المركزية (سي أي أيه) في الإعتماد علي مصادر مزيفة لإستقاء المعلومات عن تطورات الأوضاع في السودان، وقد كشف الصحفي اليميني ذو التوجهات الجمهورية مننديز ميتنر مدير تحرير صحيفة الواشنطون تايمز الأسبق بعض هذه الملابسات في كتابه ذائع الصيت loosing Ben Ladin(إضاعة بن لادن)وهي أن المخابرات الأمريكية نجحت في تجنيد أحد العناصر السودانية وأطلق عليه أسم حركي وهو (طارق). وظل هذا العنصر يمد المخابرات الأمريكية بأرتال من التقارير الكاذبة والمزورة، وكان ذلك النمط من التقارير يجد أرتياحا وقبولا وسط  كبار مسئولي المخابرات والنخبة السياسية التي كانت تبحث عن ذرائع مستمرة لإستمرار وتكريس سياسة العداء ضد السودان. وصل الي يد الأدارة الأمريكية تقرير من العنصر السوداني الكذوب يؤكد فيه وصول عناصر من القوات الخاصة السودانية الي واشنطون لإغتيال هريمان كوهين، نائب مستشار الرئيس كلنتون لمحاربة الأرهاب في عهد الرئيس كلنتون، وأحد أضلاع العداء الأمريكي ضد السودان. وفقا لهذه التقارير أضطرت الإدارة الي أخفاء كوهين في مبني بلير للضيافة الرسمية في شارع بنسلفانيا وصار يخضع الي أجراءات تمويه وحراسة مشددة ، لمدة تسعة أشهر. وبعد أخضاع العميل السوداني لإختبار جهاز كشف الكذب أسرعت وكالة المخابرات المركزية لإعدام أكثر من 100 تقرير من ملف السودان، بعد فشل العميل السوداني من تجاوز الإختبار رغم أعادته أكثر من ثلاث مرات.. وعندها أدركت السي أي أيه أن كثير من المعلومات التي أرتكزت عليها في تقييم الأوضاع في السودان لم تكن دقيقة بل كانت كاذبة ومزورة لخدمة المرامي والأهداف السياسية المعلومة.
إن الحلف غير المقدس بين ياسر عرمان وأريك رييفز هو الذي أنتج هذه الوثيقة التي تشابه التقارير التي أعدمتها السي أي أيه من قاعدة سجلات بياناتها كما كشف كتاب ميتنر. وتشير حيثيات الواقع وحقائق السياسة أن ياسر عرمان يمكن في إطار التسويات الجارية لتحقيق السلام أن يكون صانعا للملك وهو دور مؤثر في مستقبل العملية السياسية في السودان ولكن لا تشفع له الحقائق الموضوعية أن يكون ملكا متوجا للسودان علي أسنة رماح التمرد أو علي مصحف أبي موسي الأشعري. آن لهذا الحلف غير المقدس بين ياسر عرمان وأريك رييفز أن يتوقف وهما فقط رمزان لحالة التحالف بين المعارضة السياسية والعسكرية ومراكز اللوبي الأمريكي ودوائر صناعة الكراهية ضد السودان وذلك بأكمال مسيرة التسوية السلمية ووقف الحرب وتحقيق الإستقرار والإنخراط في المشاركة السياسية. والمفارقة في الإختيار ليس بين مواصلة الحرب وتقوية شبكة هذا الحلف لكسب موقف القوي الدولية لدعم التمرد وبين المشاركة السياسية في صنع الملك القادم، فقد فشل ياسر عرمان المشهود له بالذكاء السياسي أن يكون بطلا للحرب، ولكن لديه فرصة عظيمة أن يكون بطلا للسلام، ولا شك أن من يصنع الملك القادم سيكون له دور في صناعة المستقبل السياسي في السودان.

kha_daf@yahoo.com

 

آراء