أبناء الخليفة عبد الله التعايشي (وقصص أخرى) .. عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
أبناء الخليفة عبد الله التعايشي (وقصص أخرى): عشرون عاما كمفتش سياسي في السودان الانجليزي- المصري(1 -2)
Twenty years as a political officer in the Anglo-Egyptian Sudan
روبرت سيسيل ماي اول Robert Cecil Mayall
عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
*****************
عينت بعد نهاية الحرب العالمية الأولى مع أحد عشر خريجا من جامعتي أكسفورد وكمبردج كمساعد مفتش منطقة/مديرية (ADC) في "القلم السياسي لحكومة السودان". بعد مرور ثمانية أعوام ترقيت لمنصب مفتش منطقة، ثم رقيت في عام 1931م كنائب لمدير مديرية كردفان، ثم إلى منصب نائب للسكرتير الإداري في الخرطوم في عام 1933م. وفي عام 1936م عينت كمدير لمديرية النيل الأزرق حيث بقيت في ذلك المنصب حتى غادرت السودان عام 1940م متقاعدا لأسباب صحية.
ما يلي من سطور هي مختارات من مذكرات الرجل ومحاضراته التي قدمها في سنوات الحرب العالمية الثانية. وضعت عائلة الرجل كامل المذكرات والمحاضرات في "أرشيف السودان" في جامعة درم الانجليزية، وموقعها هو: http://www.dur.ac.uk/library/asc/collection_information/cldload/?collno=377
1. عملي كمساعد مفتش مركز في مديرية النيل الأزرق، 1921م
غادرت الخرطوم في فبراير من عام 1921م على ظهر سفينة ذات مجاديف (paddle steamer) متجها نحو الدويم، والتي تبعد نحو 150 ميلا جنوب الخرطوم... لا أذكر من أيامي هناك شيئا غير ما حدث لي في ليلتي الأولى هناك. استيقظت من نومي مذعورا لأجد "شيئا" دافئا مكسوا بالفراء في داخل قميص بيجامتي. أذكر أنني "مسدت" ذلك الشيء خلال نومي، بيد أنه عندما بدأ يعض اصابعي، انتزعته بسرعة وقذفت به بقوة فإرتطم بالحائط... عثرت عليه في الصباح محطما نافقا. كان جرذا ضخما لم أر مثله في الضخامة. كان ذلك هو أول تعريف لي بالعمل في المديريات.
2. محطة كوستي وأبناء الخليفة عبد الله التعايشي:
هنا تعلمت لأول مرة ركوب الإبل. في رأيي أن امتطاء ظهور هو أكثر وسائل التنقل في السودان راحة. ليس هنالك أكثر راحة من امتطاء ظهر "جمل ركوب"، بل والنوم على ظهره بأمان وهو يغذ السير بسرعة 8 -10 ميلا في الساعة، شريطة أن يكون هنالك دليل يسير أمامك. كان يرافقني دوما نصف درزينة من رجال الشرطة السودانيين، كانت مهمة اثنين منهم تنحصر في حمل العلمين البريطاني والمصري في مقدمة ركبي، بينما كان البقية في الخلف يسيرون أمام الإبل البطيئة التي كانت تحمل أثقالنا من متاع وزاد. لا بد أنني، وخلال سنوات خدمتي بين 1920 – 1927م، وقبل إدخال السيارات، كنت قد قطعت عديد الآلاف من الأميال على ظهور الإبل...ليلا ونهارا... لم يكن لركوب الإبل من عيب غير أنه كان يصيبني بالإمساك، وكانت حقائبي ممتلئة دوما بملح الفواكه (اينو) الملين.
أذكر أنه في الصباح الباكر من يوم من أيام عام 1921م استلمت برقية من الخرطوم تنذرني أن باخرة ستصل بعد قليل إلى كوستي وهي تحمل 30 من أبناء الراحل الخليفة عبد الله (والذي حكم السودان بين عامي 1885 – 1898م) الذين تم اعتقالهم بسبب تآمرهم (التهمة الأزلية الخالدة عند كل الأنظمة الحاكمة منذ فجر التاريخ. المترجم). وضعوا في ذلك المركب كسجناء سياسيين، وكانت الأوامر التي صدرت إلى هي أن أصعد لتلك السفينة ومعي قوة من رجال الشرطة المدججين بالسلاح وأن أذهب بهم لمسافة لا تقل عن خمسين ميلا جنوب كوستي، وأن أنزلهم في مكان يمكن أن أقيم لهم فيه "قرية" (تقرأ: مستوطنة معزولة. المترجم)، وأتركهم فيها ليتدبروا أمرهم بأنفسهم...
(حكى المؤلف بعد ذلك بصورة مطولة عن ما قام به من أعمال في تلك "القرية" ليؤمن الغذاء ووسائل العيش الكريم لهؤلاء "المساجين السياسيين" بعد مغادرته لها)
كان المكان الذي اخترناه لسكن أولئك السجناء يقع قرب "الجبلين" على الشاطئ الغربي للنيل الأبيض على بعد مائة ميلا إلى الجنوب من كوستي. قمنا بذبح ثور عند مدخل المستوطنة طلبا لبركات الله، وعينا أحد السجناء كزعيم لهم، بعد أن أخذنا منهم جميعا عهدا مغلظا (في الأصل: بعد أن أقسموا بلحية النبي. المترجم) بأنهم في تلك القرية في غاية السرور والامتنان، وأننا قدمنا لهم كل ما يحتاجونه وزيادة (وسيبقون حيث هم). تركتهم وعدت مطمئنا في باخرتي إلى كوستي. عند وصولي استقبلني مفتش المركز وألقى إلى بقنبلة من العيار الثقيل: لقد عاد كل أبناء الخليفة عبد الله الذين تركتهم في تلك المستوطنة إلى كوستي قبلي عن طريق البر. يبدو أنه في الليلة التي تركت فيها هؤلاء الناس في تلك المستوطنة، قامت مجموعة من الأسود بمهاجمتهم وقتلت من بقرهم وغنمهم ما شاء لها الله، الأمر الذي أفزع أبناء الخليفة فمضوا يسابقون الريح نحو كوستي، وقطعوا المسافة لبلوغها (وهي لا تقل عن مائة ميل) في سرعة قياسية (لا ريب أن أولئك السجناء كانوا قد تركوا في ذلك القفر دون سلاح يدافعون به عن أنفسهم لأسباب لا تحتاج لشرح. المترجم). وهكذا لم تلق أولى محاولاتي لبناء قرية أي نجاح يذكر!
أذكر قصة أخرى عن عملي في كوستي. طلب مني رئيسي مفتش المركز أن أسافر بالباخرة إلى الجبلين لأشرف على بناء مركز للشرطة ومكتب للبريد. نفذت الأمر وأخذت في معيتي عددا من البنائين والنجارين وغيرهم من الحرفيين، وقمنا باختيار مكان معين شيدنا فيه مبنيين فخمين من الطوب الأحمر على شاطئ النيل الأبيض. كنت لقلة خبرتي – للأسف- قد أهملت دراسة مناسيب النيل في الأعوام السابقة قبل الشروع في البناء في ذلك المكان. في ذات يوم من أيام عام 1938م (أي بعد مرور 17 عاما على تشييدي لذلك المبنى) تلقيت كمدير للمديرية برقية من الجبلين تفيد بأن مياه فيضان النيل الأبيض قد قد غمرت وخربت مباني الحكومة هناك. لم أعترف بالطبع لرئيسي مفتش المركز في كوستي بأني كنت المسئول عن بناء تلك المباني في عام 1921م!!
وحدثت لي في كوستي قصة أخرى... حزينة هذه المرة... في ليلة مقمرة استقيظت من نومي فزعا وأنا أحس بوجود شخص ما بقربي. جلست على السرير وتبين لي أن هنالك فتاة تقف قرب رأسي وفي يدها سكين طويلة تقطر منها دماء. كانت تلك الفتاة طويلة سوداء، وعارية تماما كما ولدتها أمها. ظننت للحظات قليلة أنها قد طعنتني، فقفزت من السرير بصورة غريزية لاإرادية، وهجمت على الفتاة وطرحتها أرضا، وأنتزعت بعد لأي من يدها المدية الدامية. أفلحت في أن أربط الفتاة بحبل تصادف أن كان بالقرب من سريري، ثم لففتها – كالدجاجة- بملآة سريري. أحضرت شمعة موقدة من داخل البيت لأجد أن من كان مطعونا هو تلك الفتاة المسكينة وليس أنا. كانت مطعونة في ثديها... كان زوجها قد آب إلى كوخه (القطية) ثملا، وأراد أن يضاجعها فنفرت منه. أثار ذلك جامح غضبه فاستل سكينه وغرسها في ثدي زوجته. أفلحت الزوجة في الامساك بالمدية، وسارعت بالهرب إلى أقرب نقطة حكومية طلبا للعون والأمان.
3. عملي كمفتش مركز بمديرية أعالي النيل (1921 – 1923م)
دهشت جدا وفرحت لترقيتي في نهاية عام 1921م لوظيفة مفتش مركز في مديرية أعالي النيل. غادرت كوستي قبيل عيد الميلاد لاستلام عملي في منطقة الرنك (وهي مساحة تعادل مساحة اسكتلندا). كان السكان في تلك المنطقة من جنوب السودان من الدينكا... تلك القبيلة النيلية الوثنية التي كانت (وما تزال) مشهورة بأنها واحدة من أشد قبائل السودان ولعا بالحرب warlike... كانوا محاطين بأعداء تقليدين... العرب عن شمالهم، وقبيلة الشلك عن جنوبهم .
كانت أفظع مواجهة شهدتها هنالك في جيلهاكGelhak على بعد 100 ميلا جنوب الرنك...آتاني رجل يلهث من شدة الجري وأبلغني بالقتال الذي دار في منطقته. قدرت مما سمعت من الرجل أن الموقف بالغ الخطورة، فقمت على الفور بأخذ رجلي شرطة معي وتوجهنا للمنطقة، بعد أن أصدرت الأوامر لقوة مسلحة أن تلحق بنا. سرنا لمدة 10 ساعات قبل أن نصل إلى جيلهاك، لأجد أن ذلك القتال أسفر عن مقتل نحو 12 رجلا، وإصابة 70 آخرين بإصابات بليغة...كان جلهم من التجار العرب ومن قبيلة الشلك. كان المهاجمون (من رجال الدينكا) قد هاجموا المنطقة بأعداد كبيرة، وقتلوا وجرحوا من قاومهم، ونهبوا وسلبوا كل ما كان بإمكانهم سلبه ونهبه، ثم انسحبوا للغابة المجاورة. قمت مع الشرطيين بما كان متاحا لنا عمله، فدفنا الموتى، وضمدنا جراح المصابين. جعلت من أحد المتاجر الصغيرة المنهوبة مركزا لعملي، وبعثت بواحد من الشرطيين على بغلته إلى حيث يجد أقرب طبيب بريطاني، وبالآخر ليقص أثر المهاجمين من الدينكا الذين أختفوا في الغابة. بعد يومين سعدت بوصول الطبيب البريطاني قادما على ظهر باخرته (التي اتخذها كعيادة متحركة على النهر)، وبدأ في علاج الجرحى والعناية الطبية بهم.
بعد مرور أيام قلائل، رأيت من بعيد في الأفق، وأنا أحلق ذقني ذات صباح عند مدخل القطية التي كنت أقيم فيها، رجل الشرطة علي بغلته وخلفه عدد كبير من رجال الدينكا المحاربين. لطالما أعجبت بالاحترام البالغ الذي يبديه الدينكا للحكومة وممثليها (وكان رجل الشرطة الذي بعثت به لتعقبهم من قبيلتهم). نجح ذلك الشرطي في العثور عليهم في الغابة، ووجدهم في شغل شاغل بتقسيم الغنائم والاسلاب، وأفلح في جعلهم ينصاعون لأمره ويعودون معه لمقابلتي وهو أمامهم يقودهم للمحاكمة وبندقيته على كتفه. كان من الممكن لأي من رجال الدينكا خلفه أن يقذفه بحربة، ولكن لم يحاول أحدا أن يفعل ذلك، فهيبة الحكومة كانت قوية آسرة. تطلب معرفة هوية قائد الهجوم أياما عدة، بيد أني في النهاية أقمت لهم محاكمات قضت بسجن كل رجال المجموعة لفترات تراوحت بين 2 إلى 5 سنوات، مع غرامات بلغت نحو 200 رأسا من البقر، والتي قمت بتسليمها لرجال الشلك والتجار (العرب) على سبيل التعويض، ثم قفلت راجعا للرنك.
كان زعيم الدينكا في المنطقة (واسمه يول كير) خير صديق لي عرفته في المنطقة، وكنت أدين له بحياتي. كان رجلا طويلا (قرابة سبعة أقدام)...يسير حافيا دوما، وعنده 20 من الزوجات وعدد كبير من الأطفال. كان يرافقني دوما في رحلاتي التفقدية لتفتيش المنطقة (والممتدة لمئات الأميال) والاطمئنان على الأمن فيها. لم يرافقني لحظة واحدة بالليل أو النهار في تلك الجولات الطويلة. في يوم من أيام عام 1922م وبينا أنا معه في إحدى الجولات، أصبت بزحار ( دسنتاريا) أصابني بوهن شديد فلم أعد قادرا علر امتطاء حماري. كان يول كير يحملني كطفل رضيع ويضعني على حماري ويظل ممسكا بي طوال فترة الرحلة والتي امتدت لاثني عشر يوما. كان صديقا وفيا مخلصا لن أنساه طوال حياتي. نعم لقد كان رجلا وثنيا وعريانا ولمنه كان صديقا لا يخذلك أبدا في ساعات الضيق والحاجة...لقد كان أحد هبات الطبيعة.
لقد ارتبطت حياتي في السودان بالجرائم والمساجين، فلا بد لي من أن أحكي قصة عن هذا الجانب هنا. لا شك عندي أن السودان هو من أقل البلدان انتشارا للجريمة، ولا شك عندي أيضا أن مساجينه هم من أكثر الناس تسامحا وظرفا. كنت – خلال عملي- أصادق هؤلاء المساجين أذكر أنني كنت ذات مرة جالسا عند الأصيل في استراحتي في "كدوك" والتي تبعد بنحو ميل من شاطيء النهر. دق جرس السجن معلنا تمام الخامسة مساء (حين يجب على المساجين ايقاف عملهم في الطرق وشاطئ النهر، والعودة للمعسكر حيث يتناولون وجبتهم الأخيرة ويخلدون للنوم بعد أن يغلق الحراس عليهم الباب حتى صباح اليوم التالي). بعد حوالي نصف ساعة من سماعي لذلك الجرس رأيت من بعيد مجموعة من السجناء يسيرون نحوي، وفي أيديهم بنادق الحراس الأربعة. لم يكن معهم من الحرس أحد. توجست منهم خيفة، وكانت أول خاطرة تطرأ على عقلي هي أن هؤلاء المساجين تمكنوا من التغلب على الحراس وأخذوا منهم بنادقهم، وهم الآن في طريقهم لفعل شيء منكر تجاهي. لما قربوا مني صاح واحد منهم أنهم في حيرة من أمرهم. قال أن الحراس سلموهم بنادقهم، وذهبوا للحانة لشرب البيرة (فقد كان النهار قائظ الحرارة) ووعدوهم بالرجوع إليهم قبل موعد الانصراف عند الخامسة. عندما رنت أجراس الخامسة ولم يأتي الحراس جن جنونهم، فإن عادوا للسجن بالبنادق فلن يصدقهم أحد، وإن تركوها علي الشاطيء فربما يأخذها عابر سبيل فتقع الملامة والندامة عليهم. قر قرارهم أخيرا على أن يذهبوا للرجل الأبيض، والذي سيصدقهم. لم تخطر فكرة الهروب على عقولهم بتاتا. سررت بعودتهم أيما سرور، فأمرت بأن يعطي كل فرد من المساجين الأربعة مؤنة شهر (في الأصل a month’s “jug” )، وخفضت مدة محكومية كل واحد منهم تخفيضا كبيرا.
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]