أبناء الخليفة عبد الله التعايشي (وقصص أخرى): -2- عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
أبناء الخليفة عبد الله التعايشي (وقصص أخرى):
عشرون عاما كمفتش سياسي في السودان الانجليزي- المصري (2 -2)
Twenty years as a political officer in the Anglo-Egyptian Sudan
روبرت سيسيل ماي اول Robert Cecil Mayall
عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
*********************************
مفتش مركز في كردفان (1923 – 1931م)
كانت تلك أسعد أيام حياتي في السودان. كنت قد نقلت من مديرية أعالي النيل مترقيا إلي وظيفة مفتش مركز في غرب كردفان وهي من أكبر المراكز في السودان... لم يخطر ببالي وأنا أقطع المائة وأربعين ميلا من الأبيض عاصمة كردفان إلى النهود، حيث عاصمة مركزي، أنني سأقضي هناك ثمانية أعوام ونيف. استغرقت تلك الرحلة على ظهر جمل سبعة أيام كاملة، بينما غدت ذات الرحلة فيما أقبل من أيام لا تستغرق بالسيارة أكثر من ثلاثة ساعات.
كانت السمة الطبيعية الرئيسة للمنطقة هي إمدادات المياه، أو بالأصح نقصها. لم تكن هنالك من آبار في المنطقة غير ما كان موجودا في "النهود" و"الأضي" و"أبو زبد" و"المجلد" ...وفي موسم الجفاف (والذي يمتد من نوفمبر إلى يوليو) لم يكن هنالك مصدر للمياه غير بعض الآبار ومياه الأمطار التي تخزن في أشجار التبلدي. كانت تلك الشجرة (التبلدية) هي أعز ما تمتلكه قبيلة الحمر، والنزاع حول ملكيتها كانت من أكثر القضايا التي أقضي فيها بين المتخاصمين. كان الناس يحفرون حفرة كبيرة حول جذع تلك الشجرة تتجمع فيها مياه الأمطار، ثم يحدثون تجويفا كبيرا في جذع الشجرة يصبون فيه تلك المياه المتجمعة حولها. كانت غالب أشجار التبلدي قديمة، ويمكن للأشجار الكبيرة منها أن تخزن عدة آلاف من جالونات المياه... لتستخدم في شهور الجفاف. لم يبلغني أبدا أن أحد قرب تلك المياه بغرض السرقة.
كانت كل جولاتي التفقدية خلال فترة الأربعة سنوات الأولى من عملي في المنطقة تتم على ظهور الإبل، ولكن مع حلول عام 1927م استلمت سيارتي الأولى- كانت نوعا قديما من طراز تي فورد. كنت أسميها على سبيل التدليل "ليزيLizzie " (وهو اسم التحبب (الدلع) لإليزابيث/ الياصبات. المترجم). كنت كثيرا ما أبدأ رحلتي بتلك السيارة، وأختمها على ظهر حصان أو جمل، أو حتى على قدمي، بعد أن أصرم عددا من الساعات في دفع هذه ال "ليزي" المنغرسة عجلاتها في الرمال.
في يوم مطير من أيام عام 1926م وأنا بالنهود في داري المبنية بالطين اللبن كنت في معية صحاب نستمتع بلعبة الورق المسماة بيردج. دخل علي رجل شرطة فزعا ليخبرني بأن المطر الغزير الذي انهمر فجأة قد غمر كل المباني الحكومية ومبني السجن والسوق...وكلها مبنية من الطين اللبن. اختفت في دقائق كل هذه المباني. جرفت المياه الغزيرة كل ما صادفها من بشر وحيوانات ونبات وحجر... خرجنا لاستكشاف الخراب الذي أحدثته تلك المياه، وما أن خطونا أمتار قليلة خارج الدار حتى وجدنا الماء يصل إلى ما فوق الخصر، ونحن نشاهد مباني الحكومة تستحيل إلى أكوام من ركام طين غروري لزج. عند الفجر ذهبت مجددا لمعاينة الأضرار فرأيت أنه لم يبق من تلك المباني وما فيها شيء يذكر، وضاعت كل الملفات وأثاثات المكاتب. رأيت فوق روبة عالية مجموعة كبيرة من الرجال... كان أولئك هم المساجين الذين اختفت مباني سجنهم تحت مياه الأمطار. جلسوا في صبر دون أن يفكر أحد منهم في الهرب، وهم في انتظار من يأتي ويأخذهم مجددا لمحبسهم... لحسن الحظ كان مكتب التلغراف قد بني على أرض مرتفعة، فجلست فيه وبعثت لمدير المديرية في الأبيض رسالة تلغرافية من صفحتين أخبره فيها بالكارثة التي حاقت بمدينتنا، وطالبا منه العون المالي لجبر ما انكسر.
والآن إلى قصة حادثة القتل التي حدثت في طريق الفاشر. غادرت النهود فجر أحد الأيام مع بعض الموظفين بسياراتنا في جولة تفقدية للمنطقة كان من المقرر أن تستغرق ثلاثة أسابيع. بعد أن قطعنا مسافة عشرين ميلا، ومع بزوغ أول ضوء للشمس أمرت الموكب بالتوقف لملء مبردات السيارات بالماء، ولم أشأ أن أنتظر، فمضيت في السير في الطريق مشيا على الأقدام بعد أن أوصيت السائقين باللحاق بي في الطريق. رأيت بعد مسيرة ميل واحد ما خيل إلي أنه ثلاثة رجال نائمين تحت ظل شجرة. تقدمت نحوهم ففوجئت بسماع أنين صادر من أحدهم، ولما قربت منهم تبين لي أن اثنين منهما كانا مذبوحين من الوريد إلى الوريد، بيد أن الثالث كان ما يزل حيا، رغم إصابته البالغة. أتت – لحسن الحظ - سيارات موكبي في تلك اللحظات، فأمرت بأن تسرع إحداها بالعودة بالرجل المصاب إلى مستشفى النهود بعد أن سقيته جرعات كبيرة من الويسكي الذي كنت أحمله، فقد كان ذلك هو "الدواء" المنبه الوحيد الذي كان معي، وأستطاع الرجل – وبصعوبة- أن يتمتم بكلمات قليلة عن حقيقة ما جرى له، فقل إنه تاجر "تمباك"، وقد أتى للأبيض قادما من الفاشر (والمسافة بينهما 400 ميل) مشيا على الأقدام في صحبة خادميه وهما يحملان "تمباك" لبيعه في الأبيض. باع الرجل (والذي ولد كفيفا) بضاعته في الأبيض وكسب من بيعته تلك ستين جنيها. في طريق عودة الرجل وخادميه للفاشر مروا بالنهود وقضوا في منزل أحد سكانها عددا من الليالي. بعثت إشارة إلى شرطة النهود بإلقاء القبض على كل من كان يسكن في الشارع الذي قضى فيه الرجل الضرير وخادميه أيامهم في النهود بتهمة الاشتراك في جريمة قتل وتسبيب أذى جسيم. ظللت أداوم التفكير في تلك القضية، وأنهيت جولتي التفتيشية في عشر ليال (بدلا من أسبوعين). عدت للنهود، فوجدت أن الرجل الضرير لا يزال طريح الفراش، وأن هنالك نحو 170 رجلا من رجال النهود محبوسين في الحراسة لمجرد الشك في إنه قد يكون لهم علاقة ما بتلك الجريمة. لم توجه لهم أي تهمة محددة، وبذا لم نستطع تقديمهم لمحاكمة قانونية. من حسن حظنا أن المبدأ القانوني القاضي بضرورة "مثول المتهم أمام القضاء habeas corpus" لم يكن معمولا به في النهود!! أحضرت المتهمين في طابور وجعلت الرجل الضرير يمر عليهم ويسمع كل واحد منهم يتكلم عدة كلمات. تمكن الرجل الضرير – وبسهولة ودون تردد- من تحديد من قاموا بارتكاب تلك الجريمة وكانوا أربعة، بيد أنهم لم يعترفوا بذلك الفعل. أرسلت من يقوم بحفر الأرض في بيوت هؤلاء المتهمين، وبعد أيام طويلة من الحفر وجدت الشرطة كامل المبلغ المسروق ومعه مسروقات قديمة أخرى. قدمت المتهمين للمحاكمة وحكمت عليهم بالإعدام. قبيل تنفيذ الحكم اعترف الرجال بجرمهم، وتم تنفيذه بالفعل.
من قصص حياتي الزوجية: تزوجت في عام 1929م. غمرني أصدقائي من السودانيين بدعواتهم، والتي جعلتني بعضها أحمر خجلا. بعث لي ناظر الحمر "منعم" بتهنئة قال فيها: "تهاني الحارة. أدعو الله أن يرزقك أطفالا كثيرين". من القصص التي لن تنساها زوجتي أنها كانت في أحد المستشفيات في إنجلترا لتضع مولودنا الأول في عام 1931م. وصلت الأخبار إلى النهود أننا قد رزقنا بنتا، فقام أحد تجار النهود بإرسال برقية لها تقول: "مبروك. أدعو الله أن يرزقك ذكرا في القريب العاجل".
من قصص زوجتي الأخرى أننا كنا نتناول عشائنا معا في أول ليلة لها في النهود، وكان مكونا من طبق واحد هو حساء الفول السوداني. لاحظت أن زوجتي كانت تشعر بضيق شديد وهي تحاول ابتلاع ذلك الحساء. قلت لها إنه يجب عليها أن تتعود على ذلك الطبق إذ أنه يكون عليها تناوله كل مساء لأربعة عشر عاما قادمة. بعد أسابيع من تلك الليلة كنت أحتسي شرابي الليلي المعتاد (الويسكي بالصودا) حين وقعت حشرة كريهة نسميها "الحشرة النتنة stink bug" داخل كأسي، فقذفت بالشراب على الأرض ممتعضا. رأتني زوجتي فسألت عما أفعل فأريتها الكأس وحدثتها عن أن تلك الحشرة تفسد أفضل شراب في العالم وتجعله غير قابل للشرب. تناولت زوجتي الكأس وتذوقت القطرات التي بقيت في الكأس، فصاحت قائلة:"آه...هذا هو ذات الطعم الذي وجدته في ذلك الحساء في أول ليلة لنا هنا." فهمت أخيرا لماذا لم تحب أبدا حساء الفول السوداني!!
نائب مدير مديرية كردفان (1931 – 1933م)
كان من المفترض والمتوقع أن تكون ترقيتي ونقلي للأبيض من أسباب سعادتي، بيد أن ذلك لم يحدث، إذ كنت حزينا بالفعل لمفارقة النهود وحمرها، وأيامي التي قضيتها على ظهور الإبل وفي السيارات وأنا أجوب قراها ودساكرها زائرا للأهالي. في المقابل كانت وظيفتي الجديدة في الأبيض وظيفة مكتبية دوامها من التاسعة صباحا حتى الثانية ظهرا، مع دوام مسائي.
من قصصي في الأبيض أن البريطانيين في تلك المدينة قرروا إقامة كنيسة لهم بعد أن كانوا يؤدون صلواتهم في فرندة النادي، أو في غرفة كبيرة في دار مدير المديرية. جمعنا ما يكفي من الأموال لبناء كنيسة صغيرة، ولكننا اختلفنا في تسميتها. أقترح الاسكتلنديون منا أن نسميها على اسم القديس "سانت اندروز"، بينما اقترح الإنجليز أن نسميها "سانت بيتر". حسم الأمر بتصويت سري أعلن بعد نهايته أسقفنا أن "سانت بيتر" قد تغلب على "سانت اندروز" بصوت واحد.
نائب السكرتير الإداري، 1934 – 1936م
إن كنت قد شعرت بالغربة والوحدة والبعد عن السودانيين بنقلي من النهود للأبيض، فقد ساء الوضع أكثر بنقلي في بداية عام 1934م للخرطوم كنائب السكرتير الإداري في الحكومة المركزية، والخرطوم هي "محور الكون".
كانت أسعد أيامي خلال العامين ونصف اللتان قضيتهما كنائب للسكرتير الإداري هي عندما زارنا وفد كبير من مشايخ القبائل في الخرطوم. أذكر اليوم الذي لبوا فيه دعوتي لشرب شاي المساء، وكان ذلك قرب نهاية زيارتهم للخرطوم. كان معظمهم بين السبعين والثمانين من العمر، وكانوا في مناطقهم يتحكمون في رجال ونساء قبائل كبيرة. أرتهم بنتي الصغيرة لعبها ودماها ودببها، وكان شغفهم واهتمامهم الحقيقي بتلك اللعب والدمى والدببة واضحا جدا.
مدير مديرية النيل الأزرق، 1936 – 1940م
أستطيع التأكيد (وأنا مدير لمديرية النيل الأزرق) على أن وجود البريطانيين في السودان لم يكن من أجل مصلحتهم، بل من أجل السودانيين، ومن أجل تحضيرهم لذلك اليوم الذي يمكنهم فيه حكم أنفسهم بأنفسهم (هكذا! المترجم). نجحت السياسة البريطانية في السودان في ذلك المسعى، بتطويرها لكل ما هو خَيرُ ومفيد من التراث السوداني التقليدي، والحياة السودانية وثقافتها، وبإعطاء السودانيين أفضل ما أنتجته الحضارة الغربية. لذا كنا نأمل أن تقوم "دولة سودانية" مستندة على مبادئ مستمدة من خير ما في الشرق والغرب... إلى أي حد نجحنا في الوصول لذلك الهدف وتلك الغاية؟ الإجابة ليست عندي ، بل عند القارئ.آمل أن يكون سودان اليوم، وسودان الغد كذلك، وفي المستقبل البعيد أيضا كذلك...ليس غربيا بالكلية، وليس شرقيا خالصا. لهذا السبب كان السودان من أكثر الدول جذبا للإداريين البريطانيين للعمل في خدمته.
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]
////////////