أردوغان: لقد فهمتكم لا دستور بلا إجماع وطني
خالد التيجاني النور
20 June, 2011
20 June, 2011
Tigani60@hotmail.com
"لقد وصلتنا رسالة الشعب, أن الدستور الجديد ينبغي أن يتم التوصل إليه عبر التسوية والتشاور والتفاوض, لن نغلق أبوابنا بل سنتوجه للمعارضة" تلك كانت هي أبلغ كلمات رجب طيب اردوغان وهو يوجه خطاب النصر بعد إعلان فوز حزبه "العدالة والتنمية" في الانتخابات التي أجريت الأحد الماضي, ليسجل سابقة في تاريخ الديمقراطية التركية بحصول حزب على تفويض شعبي حاسم لثلاث دورات برلمانية متتالية يمكنه من الحكم منفرداً.
أردوغان "الأسطى, المعلم, المحترف" وهي بعض ألقاب خلعتها الصحافة التركية, بما فيها بعض تلك المعارضة لتوجهاته,على الزعيم المنتصر, لخص بكلماته البليغة في خطاب نصره أعظم دروس تقدمها التجربة السياسية التركية, أن الديمقراطية الحقة والممارسة الفعلية والنزيهة لمقتضياتها هي سبيل الوحيد للاستقرار والسلام والتنمية والتقدم ولا سبيل لنهوض الأمم بغيرها.
لم يأت اعتباطاً إعلان أردوغان فهمه لرسالة الشعب الذي عبر عنها من خلال صناديق الإقتراع والنتائج التي أسفرت عنها, لقد كان زعيم حزب العدالة والتنمية يريد الحصول على أكثر من ثلثي مقاعد البرلمان ليتمكن من تحقيق مطلبه الاساسي وهو إصدار دستور جديد لتركيا يتجاوز به الدستور المعمول به حالياً الذي صنعه آخر انقلابات المؤسسة العسكرية في عهد الجنرال كنعان إفرين العام 1982, ولكن رسالة الشعب التركي التي أدركها أردوغان كانت واضحة, منحته شرعية قياسية وحققت له التفويض الشعبي الحاسم ليواصل حزبه الحكم منفرداً, ولكنها في الوقت نفسه لم تمنحه التفويض الكامل ليمضي قدماً في إصدار الدستور الجديد منفرداً وألزمته بالحاجة للتشاور والتفاوض مع القوى السياسية الآخرى, لأن الدستور ليس شاناً حزبياً مهما بلغت شعبية الحزب الحاكم, بل هو قضية قومية تحتاج لتوافق قوى المجتمع بتكويناته المختلفة مهما صغر شأنها.
لقد جاءت نتائج الانتخابات التركية بخريطة سياسية بالغة الدلالات, فقضية إصدار دستور جديد كانت في صلب البرنامج الانتخابي لحزب العدالة والتنمية, لقد أبلغ الأتراك أردوغان أنهم يحبونه ولكن ليس إلى درجة أن يمنحوه تفويضاً بلا سقف أو أن يصنعوا منه ديكتاتوراً جديداً تحت ظلال الديمقراطية ليقرر مصيرهم ومستقبلهم وحدها, بل ألزموه بالتشاور مع معارضيه والتوافق معهم ليعبر الدستور الجديد عن الأمة لا عن شريحة واحدة منها.
فحسب الدستور المعمول به حالياً فإن إصدار دستور جديد من البرلمان مباشرة دون الحاجة إلى استفتاء شعبي يحتاج إلى ثلاثمائة سبعة وستين صوتاً من مقاعد البرلمان البالغة خمسمائة وخمسين مقعداً, أي الثلثين, أو بضرورة إجراء استفتاء شعبي في حالة الحصول على ثلاثمائة وثلاثين صوتاً, ولكن حزب العدالة والتنمية على الرغم من أن الأصوات الشعبية التي حصل عليها أزدادت إلى نسبة خمسين بالمائة, كانت نسبته خمسة وأربعين بالمائة في الانتخابات السابقة, من جملة المقترعين الذين سجلوا نسبة تصويت قياسية بلغت سبعة وثمانية بالمائة, أي أن واحداً من كل اثنين من الأتراك صوتوا لصالح حزب العدالة, إلا أن عدد المقاعد التي حصل عليها هذه المرة انخفضت من ثلاثمائة واحد وأربعين مقعداً في البرلمان السابق إلى ثلاثمائة ستة وعشرين مقعداً في البرلمان الجديد, والمفارقة هنا أنه على الرغم من الانتصار الانتخابي الثلاثي, والفوز بتأييد شعبي قياسي لأردوغان إلا أنه لم يحقق حلمه بالحصول على ثلثي مقاعد البرلمان فحسب, بل تراجع عدد نوابه لما دون الثلاثمائة والثلاثين مقعداً التي كان يتمتع بأكثر منها في البرلمان السابق ومكنته من إجراء تعديلات دستورية بعد حصولها على التأييد في استفتاء شعبي.
ولذلك على الرغم من ارتفاع شعبية أردوغان في هذه الانتخابات إلا أن الخريطة السياسية والتركيبة البرلمانية الجديدة التي جعلته على بعد أربعة مقاعد فقط من خوض مغامرة تمرير الدستور الجديد من داخل البرلمان وفق الخيار الثاني الذي يستلزم أيضاً الحصول على تأييد استفتاء شعبي, ستفرض عليه التشاور مع المعارضة الشرسة الممثلة في البرلمان لتجاوز هذا الحاجز, فحزب الشعب الجمهوري معقل العلمانية التركية الذي أسسه مصطفى كمال مؤسس الجمهورية التركية حصل على نسبة خمسة وعشرين بالمائة من اصوات الناخبين, أي نصف ما حصل عليه حزب العدالة والتنمية, وفاز بمائة خمسة وثلاثين مقعداً, بينما حصلت الحركة القومية التي تشكل حصن العرقية التركية على نسبة ثلاثة عشر بالمائة من اصوات الناخبين وحصدت ثلاثة وخمسين مقعداً, مسجلاً مفاجاة حيث كانت فضائح جنسية عصفت ببعض قادة الحزب وأجبرتهم على الاستقالة قبل أسابيع قليلة تثير تكهنات بأن الحزب لن يتجاوز حاجز الحصول على نسبة العشرة بالمائة من أصوات الناخبين اللازمة لتأمين الدخول للبرلمان, وكان مراقبون يعتقدون أن فشل الحركة القومية في دخول البرلمان كان سيصب لصالح العدالة والتنمية ويبدو أن صمود الحركة أدى لحرمان أردوغان من الحصول على عدد المقاعد الي كان يتطلع إليها, أما حزب السلام والديمقراطية الذي يعد الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني فقد حصل على نحو سبعة بالمائة من اصوات الناخبين وعلى ست وثلاثين مقعداً, ولتفادي حاجز العشرة بالمائة فقد ترشح منسوبوه كمرشحين مستقلين, حيث يجيز الدستور لأي عشرين عضوا من تشكيل كتلة برلمانية.
وتشير قراءة الصورة العامة للانتخابات التركية إلى المشهد التالي تزايدت شعبية حزب العدالة والتنمية إلا أن عدد مقاعده البرلمانية تقلصت, في حين زادت عدد مقاعد حزب الشعب الجمهوري المعارض إلا أن شعبيته تقلصت خاصة فقدانه لبعض مناطق نفوذه التقليدية على ساحل البحر الأبيض المتوسط لصالح غريمه الأيديولوجي حزب العدالة والتنمية, وصمدت الحركة القومية في وجه الفضائح الجنسية لقادتها وتحاوزت تكهنات خروجها من البرلمان, فيما نجح حزب السلام والديمقراطية الكردي من مضاعفة تمثيله من تسعة عشر عضواً في البرلمان السابق إلى ستة وثلاثين عضواً في البرلمان الجديد.
وما من شك القول في هذا المقام من أن تركيا, الدولة ذات التاريخ العريق, هي الرابح الاكبر من هذه الممارسة الديمقراطية التي تزداد رسوخاً, صحيح أن حزب العدالة والتنمية هو الذي حقق فوزاً تاريخياً للمرة الثالثة على التوالي, ولكنه ما كان ليحقق هذا النجاح لو لم تكن هناك ممارسة ديمقراطية حقيقية في تركيا, والديمقراطية لا تصفق بيد واحدة ولا يصنعها حزب واحد بل تحققها مجموع الإرادة السياسية المؤمنة بها والتي تمارسها حقاً في المجتمع وفي النظام السياسي, ولولا القناعة المتزايدة بالنظام الديمقراطي في تركيا من قبل شرائح وفعاليات المجتمع والدولة والتي تزداد ترسخاً لما تمكنت التجربة الديمقراطية من الصمود.
والواقع أن الديمقراطية على إطلاقها ليست جديدة على تركيا ولكنها ظلت تمارس منذ ميلاد الجمهورية في العام 1923 بزعامة أتاتورك وفق قواعد لعبة معينة جعلت المؤسسة العسكرية, التي صنعت الجمهورية هي أيضاً حارسة النظام السياسي, وثمة جدل كبير حول دورها طوال العقود الثمانية الماضية, فخصوم الكمالية يظلوا يصفونها بأنها حارسة النظام العلماني التركي الذي أرساه أتاتورك, ويجدر القول هنا أن ذلك الوصف ينطوي على قدر من الإجحاف والتطفيف في حق المؤسسة العسكرية التركية, ولعل الإنصاف يقتضي وصفاً أكثر دقة وأقرب للممارسة الواقعية وهي أن المؤسسة العسكرية التركية هي فعلاً حارسة للمصالح القومية التركية, وليست حارسة للعلمانية المصطلح الذي يطلق عادة على الكمالية ووريثها حزب الشعب الجمهوري, بمعنى أن الجيش التركي معني بالحفاظ على المصالح القومية التركية بأكثر مما هو معني بفرض النظام العلماني, ولا نعني هنا بالطبع هنا أنه لا يوجد عسكريون مقتنعون بالعلمانية وعملوا على ترسيخها, ولكن جوهر دور المؤسسة العسكرية التركية كما يثبت تاريخها في العقود الماضية يؤكد دورها القومي أكثر من بعدها الأيدلوجي.
والدليل الأبرز على ذلك أن المؤسسة العسكرية لم تتدخل بانقلابات عسكرية مباشرة على مسار العملية السياسية المدنية في تركيا إلا ثلاث مرات طوال تسعين عاماً من عمر الجمهورية, وكانت كلها تدخلات قصيرة العمر إذ لم يبق العسكريون في الحكم إلا سنوات قليلة, وحتى الجنرال كنعان إفرين الذي حكم خلال الثمانينات قدم نفسه كمدني وليس عسكري في انتخابات عقب إصدار دستور 1982, صحيح أن المؤسسة العسكرية مارست ضغوطاً على نجم الدين أربكان أجبرته على تقديم استقالته من رئاسة الوزراء عام 1997 بعد عام واحد من تولي منصبه, وتجري الآن محاكمة لعسكريين بمحاولة انقلاب على أردوغان, إلا أن ذلك ليس كافياً لدمغ المؤسسة العسكرية التركية بأنها حامية العلمانية, فأربكان نفسه كان نائباً لرئيس الوزراء عام 1974, وشارك في اتئلافات حكومية متعددة على مدى عقود, ويحكم حزب العدالة والتنمية تركيا على مدى عقد دوت تدخل من المؤسسة العسكرية على الرغم من حالة المد والجزر بين الطرفين, لكن في كل الأحوال يجب الاعتراف بأن دور المؤسسة العسكرية التركية كان حاسماً في الحفاظ على النظام الديمقراطي, وأن تدخلاتها المحدودة في مسار النظام السياسي الذي يسيطر عليه المدنيون كان محدوداً للغاية وأقرب لتعديل المسار السياسي للحفاظ على المصالح القومية للبلاد بأكثر مما هو رغبة في الحفاظ على الأيدولوجية العلمانية أو فرضها, كما أن وعيها العميق بالمصالح القومية لتركيا وإدراكها لدورها في الحفاظ عليه هو الذي جعلها تكتسب مرونة كبيرة في التعاطي مع اللعبة السياسية والقبول بقواعد النظام الديمقراطي واحترام إرادة الشعب التركي ولم تعط نفسها حق التحايل عليه وسلبه حقه في اختيار من يحكمه.
ويحسب للقوى السياسية المعارضة لحزب العدالة والتنمية أنه لولا صبرها على الديمقراطية واستعدادها للقبول بمقتضياتها, وتحملها تجرع طعم الهزائم المريرة على يد هذا الحزب في ثلاثة انتخابات متوالية, دون أن تنقلب على اللعبة بكاملها, ووعلى الرغم من حدة الخطاب السياسي وشراسته إبان الحملة الانتخابية إلا أن أحداً منها لم يخرج ليزعم بتزوير الانتخابات أو التلاعب بها, لولا مثابرة هذه القوى وإيمانها القوي بالنظام الديمقراطي لما أمكن لحزب العدالة أن يهنأ بحكم مستقر منفرداً بالسلطة لأكثر من عقد.
وبالطبع ما كان ممكناً للتجربة الديمقراطية في تركيا أن تحقق كل هذا النجاح السياسي والاقتصادي وتصبح مثار إعجاب لشعوب المنطقة العربية الساعية للتحرير من أنظمة قابضة متكلسة, ومحط اهتمام دولي لولا هذه القدرات السياسية الفذة التي اظهرها حزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أردوغان, الذي قدم نموذجاً شديد الإبهار في القيادة والقدرة على النظر الاستراتيجي والبصيرة النافذة والإنجاز التاريخي, ولعل أهم دروس حزب العدالة والتنمية أنه لم يهبط على قومه الأتراك من السماء بشعارات
وردية لا تجد طريقها إلى أرض الواقع, فهو حزب نشأ من رحم التجربة السياسية التركية ومن واقع المجتمع التركي, واستطاع ان يفكك شفرة مطالب الشعب في التقدم, وليس في بيع الشعارات المتوهمة, لم يات الحزب قفزاً على النظام الدستوري القائم, ولا بهجمة وغارة على المجتمع تريد تغييره بجرة قلم بلا وعي ولا فهم ولا تبصر.
وعلى الرغم من أن حزب العدالة والتنمية يوصف على نطاق واسع بأنه ذو خلفية إسلامية, إلا أنه في الواقع نجح في تقديم نموذج سياسي راشد تحت مظلة ما يمكن وصفه بنظام علماني, والواقع أنه قدم مقاربة تاريخية جديدة لمسألة الإسلام السياسي تتجاوز تلك الأطروحات العتيقة للحركات الإسلامية التي تزعم لنفسها تصنيفاً في خانة الحركات التجديدية, لقد فهم أردوغان أن مصلحة الإسلام تكمن حيث مصلحة المجتمع, وليست حيث تكمن مصلحة بعض نخب الحركات الإسلامية التي تتوسل لمطامحها السياسية وتتسلط على شعوبها تحت دثار الشعارات الإسلامية التي تتركها عالقة في الهواء لا تجد سبيلها إلى تحقيق مصالح البلاد والعباد.
لم يؤيد الأتراك أردوغان ويمنحونه تفويضاً لثلاث دورات لأنه رفع شعارات هلامية فضفاضة, ولكن لأنه خاطب مصالح شعبه الحقيقية ونجح في تنفيذها على أرض الواقع في زمن قياسي لذلك أمنوا بقدرته على تحقيق الاستقرار والتنمية, لقد تجلى نجاح حزب العدالة في نهوض اقتصادي غير مسبوق لتركيا في غضون ثمانية سنوات فقط, لترتقي من عتبة الإفلاس مع مطلع القرن الجديد ليصبح حجم اقتصادها سبعمائة واربعين مليار دولار لتتبوأ مكانة سادس عشر اكبر اقتصاد في العالم, وليسجل اقتصادها معدل الاقتصاد الأكثر نمواً في القارة الأوروبية. ودور تركيا السياسي المتعاظم على الساحة الإقليمية والدولية معلوم لا يحتاج إلى تفصيل.
سئل أردوغان ذات مرة عن سر نجاح حزب العدالة والتنمية فرد قائلاً, "لا مكان للأنا في حزبنا, وحاربنا الفساد وقدمنا ممارسة سياسية نظيفة, والأهم أننا نتكئ على تفويض شعبنا", والخبر الاهم أن هذه هي الدورة الأخيرة "للأسطى, المعلم, والمحترف" أردوغان لأن لوائح الحزب لا تسمح له, ولا لقيادات الحزب الأخرى بالترشح لأكثر من ثلاث دورات برلمانية, عجباً حتى هذا الزعيم التاريخي الذي سجل نجاحاً غير مسبوق لحزبه ولوطنه لا يستطيع الخلود في الزعامة, لأن ذلك منطق الديمقراطية ومظنة حكمة القيادة.
عن صحيفة (إيلاف) السودانية
الاربعاء 15 يونيو 2011