أزمة المكان في عقلية الحركات المسلحة  !! 

 


 

 

في ظل المأزق السياسي الذي يعيشه السودان، تنامي خطاب منفلت بالغ الخطورة ، ذلك الخطاب تمحور حول المفهوم المكاني وأصبح يكرس لحالة (عنصرية مكانية) تتخفي تحت ستار ضبابي عنيف يستمد قوته من ظرفية المكان دون أدني إجتهاد لاستكشاف طبيعة الصراع الذي أفضي لهذا الواقع الذي تعيشه البلاد .

لقد هوي ذلك الخطاب إلي الحضيض بقضايا عرفت تاريخيا بصراع الهامش والمركز ،الذي يتمحور حول الامتيازات التاريخية والتنمية غير المتوازنة التي أحدثت غبنا تاريخيا قاد في نهاية المطاف إلي حمل السلاح بغية تغيير ذلك الواقع وتعديل الخارطة الاقتصادية غير العادلة والتي إنبثق منها صراع الهامش والأطراف.

لقد أحدثت إتفاقية جوبا للسلام التي وقعت في العام 2020 هزة عنيفة أدت لخلخلة مفهوم الهامش والمركز وما بين الثوري الطامح إلي تغيير يتجاوز المكان إلي الدولة والفرد إلي الانسان وبين ذلك الذي يودع حشدا شعبياً في أحدي ولايات دارفور بقوله (أنا ماشي الخرطوم محل الطائرة تقوم والريس بنوم ) من أقوال القائد أركو مناوي وفضحت تلك الاتفاقية ذهنية قادتها . لقد عرت تلك الاتفاقية زيف تلك القيادات وضحالة تفسيرها المتعلق بمفهوم بناء الدولة والذي صار يتمحور حول المكاسب الشخصية أو القبلية في ردة كانت جد صادمة للعقل السياسي السوداني الذي تعاطي مع قضايا المهمشين بأفق شامل يشمل المظالم التاريخية ومناديا بضرورة إحداث هيكلة في بنية الدولة والاقتصاد لتضع الدولة السودانية علي عتبة التطور وولوج بوابة العصر .

دعونا نتوجه مباشرة إلي (مكان) إختارته منظومة سياسية تمثل حركات دارفور المسلحة وحلفاءها الجددفي ذلك التاريخ الملتبس للحظة السودانية . فقد إختارت تلك الجماعة السياسية أحد ميادين الحارة 12 بمدينة أمبدة بأمدرمان والتي تمثل الضلع التاريخي للعاصمة المثلثة لإقامة ندوة سياسية ذات دلالات هامة .

لم تختار تلك الكتلة السياسية هذا المكان بعناية وحذق سياسي ولكنها إعتمدت علي ذلك التجييش المكاني لمواطنين بسطاء دفعت بهم موازين التنمية والعوامل الاجتماعية المختلفة ليصبحوا من سكان هذا (المكان).

ثم إن عامل البراءة إنتفي تماما في تلك الندوة التي أسفر فيها المتحدثون عن ما يمكن تسميته بأزمة (المكان)إو متلازمة المكان ، إذ أن الخطاب تمحور حول (نحنا جينا هنا تاني ما بنرجع) (الخرطوم دي حقت منو)وغيرها من إشارات خاطبت مشاعر تخص قائليها بصورة خاصة وليست ذات إرتباط بحياة المواطن وقضايا المياه والكهرباء والضرائب التي شلت قدرة المواطن ، وهنا يكمن عجز تلك الحركات في مخاطبة الراهن السياسي والمستقبلي للسودان خارج تلك البكائية المتعلقة بازمة الوجود في العاصمة أو عدمه .

ربما أعتمدت تلك القيادات علي مخاوف حسن مكي أحد منظري الحركة الإسلامية والذي لم يخف مخاوفه من أحزمة الفقر التي تلتف حول خصر العاصمة السودانية ، والتي ذكر أن نسبة النمو السكاني فيها يتجاوز كل معدلات النمو في ما عداها من المناطق الحضرية بالعاصمة الخرطوم ، والتي هي كفيلة بتهديد أي ديمقراطية قادمة مما يسمح لسكان تلك الأحزمة بالتأثير البالغ علي النتائج الانتخابية.

إذن يمكننا إن نربط بين طبيعة ذلك التفكير الذي يرهن الديمقراطية وقضايا الحكم بكتلة سكانية مكانية وفيما يشبه بتفسير القطيع للنشاط السياسي الذي يعلي من عامل القبيلة الاجتماعية علي ما عداه من عوامل .

مع العلم أن الحشد لتلك الندوة تم باستجلاب عدد من سكان مايو جنوب الخرطوم بعربات نقل مدفوعة القيمة وذلك حسب ما أورده بيان لجان مقاومة امبدة. وقد صاحب تلك الندوة حالات قمع واعتقال طالت عدد من منتسبي لجان مقاومة امبدة .

إذن تم إعداد المكان لأردول وجبريل زعيم العدل والمساواة ، وهما ليسوا بعيدين عن متلازمة المكان عن الالتقاء الباكر بالإسلام السياسي، ولاحقا بفلسفة الكتاب الأسود التي جعلت من أمدرمان (المكان) هدفا للذراع الطويل .

لقد حسمت ثورة ديسمبر وفي خضم تجربتها المتميزة أزمة المكان حينما أجترحت ذلك الهتاف ومن واقع تجربتها (يا العنصري المغرور كل البلد دارفور ).

يبدو أن قادة حركات دارفور وحلفاءهم غير معنيين بذلك الشعار في لحظتهم المكانية التي إصبحت مجرد أبنية شاهقة وعمارات ونعيما زايل في أحياء الرياض والمنشية وغاردن ستي والمعمورة، أما معسكرات زمزم وعطاش وكريندق وما عداها من هامشي الصفيح والسعف والخيش فهي ليست جديرة بان تشد لها الرحال !

فإذا كان المفكر الفرنسي (ميشيل بورتو) يري أن الرواية توظف الحيز المكاني لصالحها ، وأن العالم المصري جمال حمدان قد وظف عبقرية المكان لصالح شخصية مصر .فنحن الان أمام شخوص سياسية تحاول توظيف المكان لصالح إمتيازاتهم التاريخية في ذلك الخداع الأبله للعامة (الناس ديل ما عايزننا نكون معاهم هنا في الخرطوم).

 

musahak@hotmail.com

 

آراء