أزمة الوطن والوطنيّة والمُواطنة في خطاب الإخوان (السودان نموذجاً)

 


 

 

مرة أخرى حول كتاب د. فتح الرحمن التوم الحسن
كولونياليّة الإسلام السياسي
أزمة الوطن والوطنيّة والمُواطنة في خطاب الإخوان
السودان نموذجاً
حامد فضل الله / برلين
لقد قمتُ من قبل بتقديم أي بتعريف الكتاب الصادر عن دار المصورات بالخرطوم (عام 2021)، بالعنوان أعلاه، للدكتور فتح الرحمن التوم الحسن، أستاذ الفلسفة بجامعة النيلين بالسودان. والكتاب من الحجم المتوسط و يضمّ 1016 صفحة (الرقم صحيح!)، والأن أقوم بتقديم مراجعة لهذا الكتاب.
يبدأ الدكتور فتح الرحمن كتابه الضّخم في المضمون والحجم بتعريف الكولونيالية بأنها: "نموذج في التفكير والتواصل والتصرف والحكم، يتميّز بانتهاك الكرامة الاِنسانية والتعدّي على الحريّة ومصادرة الحقوق ومجانبة الأخلاق وإساءة إنتاج واستخدام السلطة السياسية". ويقود القارئ، عبر العناوين العديدة، متتبعاً مسار تاريخ الحركة الاِسلامية السودانية الممتدة منذُ نهاية الأربعينيات و"مؤتمر العيد" الذي انعقد في نادي أم درمان الثقافي بتاريخ 21 أغسطس 1954 ويتابع مسيرتها وتقلباتها وتحالفاتها، ثم الانفراد بالسلطة عن طريق الانقلاب العسكري في عام 1989.
ويناقش بدقّة كلّ الوثائق والقوانين والمشاريع التي صدرت في هذه الفترة، ويستعرض أبحاث وآراء مفكّريها، ويتعرّض لمصطلح الاِسلام السياسي، وإلى الخطاب العموميّ والخطاب الظرفيّ في النص القرآنيّ أو النبويّ، وإشكالية الناسخ والمنسوخ، وأسطورة الدولة الدينية، والانتهاك الهيرمنيوطيقي (أي التأويلي) للحديث النبوي وللنص القرآني عبر استخدام سلطة النص.
ويشير إلى النشاط الكولونيالي في فتوحات المسلمين ويتساءل: "هل نشرُ الدين يحتاج احتياجاً ماهوياً إلى شِرعة السيوف؟ ألا يملك الدين في حدّ ذاته قدراً كافياً من القوّة النفسيّة والمعرفيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة والحضاريّة التي يستغني بها البتة عن الاستعانة بأيّ عامل آخر سواه، حتى يمكن له أن يكون مقبولاً ومقنعاً للناس"؟
ويناقش شعار: الإسلام دين ودولة، وخطورة التوقف العلمي عن تصنيف السرد الديني، ويتعرض إلى قضية طاعة أولي الأمر، وقضية الخلافة، وتقريظ خطاب الأخلاق في الاِسلام. ثم يشرح بإسهاب القواعد العمومية لخطاب الناس، مثل قاعدة التجريد، وقاعدة تحرير المقتضي، وقاعدة بناء المُحاجّة ...، وفهم الديمقراطية، ومنطق الأغلبيّة، وتزييف ماهيّة الديمقراطية، وقاعدة تجنب الخطأ في تعريف الشريعة الاِسلامية ونقد التعريف الكلّي لها، والتطابق بينها والشؤون الجنائيّة والأحوال الشخصية للمسلمين، والدستور والاستفتاء العام ومعضلة التمثيل الِملِّي، ويعالج مفهوم المواطنة ودولة المواطنة. وفي الختام يقول: "لقد انعكست الكولونيالية الفائقة في خطاب الاِخوان وفي سلوكهم السياسي، فأنتجت نفوساً مليئة بالمسلمات والمصادرات التي تنتهك الكرامة والحرية والحقوق والأخلاق والعمومية، وتؤسس للسلب والانتهاك والحرمان والتزوير والغش والتسلط ... " ويواصل: "لقد توزعت الطاقة الكولونيالية لمؤسسة الاِخوان داخل السودان في خمسة محاور: كولونيالية المجال السياسي، وكولونيالية المجال الاقتصادي،ـ وكولونيالية المجال الاجتماعي، وكولونيالية الفعل الحضاري، وكولونيالية المجال الحقاني".
و هنا أودّ أن أبدي الملاحظات التالية:
ــ يدعم الكاتب آراءه ونقده بآيات من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة وما جاء في كتب التراث، مؤيداً أو مخالفاً ومشيراً إلى مبادرة المسلمين الأوائل إلى إنشاء مباحث علمية شتّى، تتعلق بالقرآن والسنّة، وهي مُبادرة مُبدعة أنتجت مثلاً علوم القرآن وعلوم الحديث وعلم أصول الفقه وعلم اللغة. ولكن تلك العلوم التي كانت استجابة مُبكرة لأهمية تأسيس مباحث القراءة، هي نفسها لم تستغرق مباحثها ولم تستنفذ قضاياها وأسئلتها، فهي إذن: "علوم غير مكتملة لا من حيث المنهج ولا من حيث الشغل". كما يدعو إلى استئناف فعل النسخ وتأسيس منهجية نقدية، وهي بالطبع ليست فقط منهجية لاجتهاد في ما ليس فيه نص، فهذا اجتهاد معلوم، وإنما "تأسيس الاجتهاد في ما فيه نص".
ــــ وهنا يثار السؤال: من هي الجهة التي تقوم بعملية النسخ؟ وعن المقياس والمعايير للفهم الصحيح للقرآن الكريم، وبالتالي تفسيره أي تأويله من جديد، وماذا سوف نكسب من التأويل الجديد، مقارنة بما تم تفسيره سابقاً، ألا يثير هذا الجديد من الأسئلة أكثر من الإجابات؟ وما هي أحقيّة هؤلاء؟ وهل هم أولئك الذين يدافعون عن الأفكار التقليدية ويتبنون سلطة النبي التي تقوم بشرح كلمة الله التي وصلت إليه من خلال الوحي، أم هم المُفكرون التقدميون الجُدد الذين يضعون ذلك موضع التساؤل الأساسي؟ أليس كلاهما في النهاية يختلفان حول أحقيتهما ويدّعيان تبنّي سلطة النبي؟
ـــ ويتعرض الكتاب إلى قضيّة طاعة أولي الأمر، وقضية الخلافة، ويعارض أراء الماوردي حول ثبوت "دينية الإمامة" وتأكيد المعنى السياسي للفظ "الأمة"، وكذلك يعارض ابن خلدون حول قضية الخلافة، ويرى أن هناك تناقضا في طرحه. ثم يعقب ذلك بسرد تاريخيّ للخلافة منذ بداية خلافة أبى بكر الصدّيق.
وهو يرى أنّ الرسالة أو النبوة بحكم وصفها في القرآن هي وظيفة دينيّة تكليفيّة، وبالتالي لا خلافة فيها البتة، فالخلافة ليست امتداداً للنبوة، من حيث تلقي الوحى واستمداد السلطة من الله، بل هي نظامٌ بشريّ، وليست نظاماً دينياً. وبما أنّ الكاتب أثبت ناسوتيّة (أي بشرية) الخلافة، فما هي ضرورة جرح مشاعر غالبية المسلمين، عندما ينعت ويخاطب الخليفة أبا بكر الصديق رضى الله عنه بـ "السيد أبوبكر".
- ويكتب فتح الرحمن "وأياً يكن عدد الذين صدقوا سيّد قطب متأثرين بقوة أسلوبه الأدبي واندفاعه الوجداني، إلاّ أنّ كتاب "معالم في الطريق" هو بالأساس كتابٌ عنصريّ، بل هو في الحقيقة "مانفستو فكري" مُدَمِر لمفهوم الوطن والوطنية والمواطنة في السودان. ولئن كان كتاب: "معالم في الطريق" هو المرجع الفكريّ المؤسس للعديد من المفاهيم العدائية والتكفيرية فإن معظم مفاهيم الكتاب تفتقر هي نفسها للتعريف والضبط والتمييز قبل افتقارها للحسّ الأخلاقي والحقوقي والاعتراف بمبدأ الحرية وكرامة الاِنسان الآخر".
إنّ تهمة العنصرية، تهمة غليظة وأقرب إلى الشتم! لماذا هذه اللغة المنفلتة والنبرة الانفعالية، التي لا تتناسب مع لغة البحث العلمي والكتابة الموضوعية. وعندما يقول" فإنّ معظم مفاهيم الكتاب تفتقر هي نفسها للتعريف والضبط والتمييز". فلماذا لا يشرح ويبين للقارئ ذلك، حتى لا يُتّهم بأنّه يلقي القول على عواهنهِ.
ويواصل الكاتب في نفس الفقرة:
"ولعله يتعذر اليوم على الناس أن يجدوا في الأدب السياسي الاِخواني كتاباً عنصرياً نابذاً للقيم الحاكمة على التعايش الاِنساني المشترك مثل كتاب "معالم في الطريق" الذي يشكّل مصدراً فكرياً أساسياً للإخوان المسلمين في السودان. ونجد في أسفل الصفحة، الهامش 3 : حسن مكي، الحركة الاِسلامية في السودان، مرجع سابق، ص 170.
ــ إنني أستبعد أن يكون هذا النصّ لحسن مكي، مما أعطاني انطباعا أنها لغة المؤلف يكررها من جديد وذلك لعدم تحديد الاقتباس الذي يُحيل إليه الهامش مما يسبِّب خلطا لدى القارئ بسبب سقوط علامات التنصيص.

ــ أنني لا أريد التعرض إلى قضية سيّد قطب بالتفصيل، الذي كررها الكاتب أكثر من مرة، ولكن لعلنا نتذكر كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام" الذي تحدث فيه عن القيم الاِسلامية: العدالة، والمساواة، والحرية، وكتاب التصوير الفني في القرآن، وكتاب في ظلال القرآن. ومهما اختلفنا حول تحليله للآيات القرآنية الكريمة، فالكتابان الأخيران تحفة فنية وأدبية نادرة. ولعلنا نتذكر بأنّ سيّد قطب عُذّب عذاباً شديداً، ثم أُعدم، وأن حسن الهضيبي، خليفة حسن البنا، عارض وهاجم أفكار سيّد قطب علناً، كما رفضه كثير من العلماء المنضمين إلى الجماعة.

- يتعرّض الكاتب لمفهوم المواطنة ودولة المواطنة، ويقدّم ذلك بصورة جيدة، متتبعا مسار وتطور مفهوم الوطن والمواطنة في الفكر الفلسفي والسياسي والحقوقي، ويرى أنّ الاِخوان المسلمين في السودان ليس لهم ولاء للوطن، ويبحثون عن أسانيد وحجج كافية لردّ ورفض المواطنة ودولة المواطنة".

ــ ولكن هذا ليس مستغرباً في فكر الاِخوان المسلمين. فنفي مفهوم الوطن تشترك فيه كلّ الجماعات السلفية، إذ أن المواطنة عندهم تقوم على الدين. ولكنّه يقول في نفس الوقت: " لقد دمرنا نحن في السودان المواطنة؛ إذ استنزلناها بغبائنا و عنصريتنا وشهواتنا وانحطاطنا من مستواها الاِنساني الأخلاقي والحقوقي العمومي وجعلناها ألعوبة سياسية نستحي أن نذكرها مرجعاً حتي في الدستور! فالموضوع حين يصل هذا الحدّ فإنّه لن يصبح مقتصراً على جماعة الاِخوان المسلمين وحدهم بل إنه يتجاوزهم، ليشمل معهم سودانيين آخرين كثيرين".

ــ عندما يتعرض المؤلف لمناقشة أبحاث وأفكار إخوان السودان، يأتي الشيخ حسن الترابي في المقدمة، وهذا مفهوم، ولكن يكون نصيب الأسد لأمين حسن عمر، الذي يستشهد به على مدار الكتاب، ثم التيجاني عبد القادر حامد، وغازي صلاح الدين العتباني، والمحبوب عبد السلام ...، ويقول إن هناك تياراً إصلاحياً داخل الحركة الاِسلاميّة، من غير أن يذكر الطيب زين العابدين وعبد الوهاب الأفندي مثلا إلاّ عرضاً. أمّا حسن مكي فيقدمه كمؤرخ للحركة الاِسلامية، بينما أن لثلاثتهم آراء واضحة وناقدة لتطور ومسار الحركة الإسلامية، وخاصة الأفندي الذي له عدّة كتبٍ هامّة وأكاديمية لنقد تجربة إخوان السودان. والمؤلف كباحث كان يتوجّب عليه عكس هذه الآراء حتى يعطي صورة متكاملةً ومتوازنةً لبحثه.

ـــ لم يتعرض الكاتب لعلي عثمان محمد طه، ونافع علي نافع، وعلي كرتي. ربما من يقول، بأن الكاتب يخاطب المفكرين والباحثين، وليس الحركيين. ولكن في كتاب يؤرخ للحركة الاِسلامية السودانية، كان على الأقل أن يناقش، كيف تستطيع شخصيات لا تملك الفكر ولا الوازع الأخلاقي أن تصل إلى المناصب القيادية، وتتسلط على رقاب المواطنين ما يقارب الثلاثين عاماً. ربما يثار هنا السؤال: لو جاءت المفاصلة، التي أدّت إلى انشقاق الحركة الاِسلامية لصالح جناح الترابي، هل كان تطور الحركة الاسلامية، يتخذ مساراً آخر؟ "إن الذين يدمغون الترابي بصفة السياسي الملتاث بجنون السلطة لا يعولون كثيراً على كون التمكن من الدولة هي لُحمة مشروعه للتجديد الاِسلامي وسُداة. فهو يستخدم الدولة كمرادفة للحداثة حذو النعل بالنعل وإن كانتا ــ أي الدولة والحداثة ــ غافلتين عن الدين في صميم رأيه. ومن هنا تجيء دعوة الترابي للدولة أن تؤوب إلى الدين" (عبد الله علي إبراهيم، الشريعة والحداثة).

ـــ لم يتعرّض الكاتب لباحثين من خارج الحركة الاسلامية، نذكر منهم تمثيلاً لا حصراً: حيدر إبراهيم علي
وكتبه العديدة عن الاِسلام السياسي في السودان، ومحمد محمود وكتابه "السودان وفشل المشروع الاِسلامي"، وعبد الله علي إبراهيم وكتابه "الشريعة والحداثة" وبه فصل "لاهوت الحداثة: حسن الترابي والتجديد الاِسلامي في السودان"، وأحمد إبراهيم أبو شوك، "دعاة السلطة ونصحاء السلطان: غازي صلاح الدين نموذجاً" السودان السلطة والتراث الجزء الخامس. إنّ الاشارة إلى أبحاثهم في هذا الكتاب الضخم، يوجه الطالب الباحث إلى هذه المصادر، كما أنّ الاِطلاع على هذه الأبحاث وتحليلها، ربما تنكشف للباحث أطروحاته بشكل أكثر وضوحاً.

ــ عندما يتعرض الكاتب إلى أسماء الباحثين، تأتي أسماء الدكتور الترابي والدكتور أمين حسن عمر والبروفيسور التيجاني عبد القادر حامد والبروفيسور حسن مكي، عشرات المرات مكررة بألقابهم الأكاديمية. لماذا لا يلتزم الكاتب بالطريقة العلمية المتبعة، بعدم ذكر الألقاب الأكاديمية في الكتب العلمية المحكمة، وهذا التقليد ليس في الغرب فحسب، بل مُتبع في الكتب العربية العلمية أيضا؟

ـــ يتعرض الكاتب بإسهاب إلى المادة 126 في القانون الجنائي السودانيّ لسنة 1991، والمادّة تتعلّق بالخروج من الاِسلام، أيّ ما يعرف بالرٍّدّة، وهو يرى أنّ وضعها ضمن نصوص التشريع العمومي، خطأ كبير، فالردّة موقف فكريّ يتخذه شخص ما كان مسلماً، ويتعذر وصفها كجريمة جنائية، لأنّ وصفها بالجريمة يستدعي توقيع عقاب دنيوي وفي هذا مخالفة للقرآن الذي هو المرجع الأول والأخير في مسألة الردّة وتوصيفها. أمّا الاعتماد على المأثور الشهير "من بدل دينه فأقتلوه"، فهو لا ينطوي فقط على مخالفة للقرآن، بل ينطوي أيضا على مفارقة مفادها أن الاعتقاد بصحة هذا الأثر ينسخ آيات القرآن حول الردّة، وهي آيات مدارها كلها الحريّة، مما ينكر على الاِسلام أصلاً من أصوله الكبرى وهو الحريّة. والمفارقة الأخرى تتمثل في إسقاط حرية التدين بوصفها أصلاً من الأصول. لا أريد الخوض في هذا الموضوع الشائك، والذي يتطلب معرفة فقهية وقانونية، لا يمتلكها كاتب هذه السطور، وإنما الهدف من إثارة هذه المادة ومواد أخرى، سوف تواجهنا ونحن في سبيل إنجاز دستور جديد. كما أودّ أن أشير إلى محمد محمود الذي تنبه إلى خطورة هذه المادة منذ صدورها وكتب عنها عدّة مقالات ناقدة، معتمدا في تحليلاته واستنتاجاته أيضاً على الآيات القرآنية التي تشرّع للردة، ومشيرا إلى أن الكثير من البلدان الاِسلامية تطبق حدّ الردّة، وأن الجامعة العربية شرّعت للردة أيضاَ ويخلص إلى "أن هذا الوضع التشريعي يلخص في واقع الأمر وضعاً فكرياً وأخلاقياً عاماً، وهو أن الاِسلام هو أكثر الأديان في عالمنا اليوم عداءً وقهراً لحرية الدين والفكر والضمير ولحرية التعبير".
ـــــ لقد قمت من قبل بكتابة مراجعة، أو بالأحرى تقديم للكتاب. ولقد اعتذرت صحيفة "السوداني" الورقية الخرطومية، التي أكتب فيها منذ 10 سنوات، عن نشر المادة. وحصار هذا الكتاب امتد لجامعة النيلين التي رفضت إدارتها إقامة ندوة داخل الحرم الجامعي لتدشينه، والكاتب هو أستاذ الفلسفة ورئيس القسم في نفس الجامعة. لا شك أن هذا يمثّل فضيحة كبرى لمؤسسة أكاديمية. ولعل الكاتب كان يتنبأ بذلك عندما كتب في ص 5 : "حين تقوم الأكاديمية بسلب بذرة النقد وتصادر الحرية، فما عساها أن تكون هي الأكاديمية سوى مؤسسة كولونيالية، تم تصميمها لانتهاك الاِنسان وقهره."

ويأتي ضمن خاتمة الكتاب سؤالٍ مصيريّ: "هل آن الأوان لكي يغادر الاِخوان في السودان في جميع واجهاتهم التنظيمية المنطق السياسي الفئويّ والتحول بدلاً عنه إلى المنطق السياسي العمومي المساواتيّ والتخلي عن وهم دولة الأمّة الدينية ودولة الولاية وإعادة بناء رؤيتهم وفقاً لخطاب الأخلاق وخطاب الناس؛ من أجل تعزيز دولة "المواطنة" أو الدولة "الوطنية" أو" الوطن الذي يتسع الجميع" الذي يشملهم كلّهم ومعهم جميع السودانيين والسودانيات على سويةٍ واحدةٍ بينهم في الواجبات والحقوق العامة، فيفتتحون بذلك سبيلاً جديداً وواقعياً وراسخاً لا يضار منه دين ولا أحد من السودانيين أو أحد من الناس الآخرين". يطرح المؤلف هذا السؤال المفتوح وهو القائل من قبل: "" لم ينجز الاِخوان بعد الرؤية الوطنية المنشودة ولم يجعلوا بعد من المواطنة ثقافة يومية في ممارستهم المعرفية والسياسية والحقوقية، ومن المتعذر عليهم اليوم إنجاز رؤية وطنية مناسبة وفعالة وعموميّة ومساواتيه حال غياب أو ضعف التفكير العقلاني النقدي في خطابهم وفي مؤسستهم، وضرورة تحمل كلفة وعبء التحرر من تراث فكريّ وأسطوريّ مديد وثقيل، لم يعد الآن مناسباً لقيادة هذه الحقبة من التاريخ الاِنساني الفلسفي السياسي والحقوقي. ويبدو واضحاً إذن أنّ سنوات الحكم والسلطة والتمكين لم تشكل لدى الاِخوان حسّاً معرفياً وسياسياً بأهميّة مراجعة خطابهم الفكري والسياسي، مراجعة جذريّة".
ــ هذه الملاحظات أيّاً تكن مدى صحتها، جاءت بعد قراءة صبورة لهذا السِفر ومن ثم عرض مكثفٍ جداً، لهذا الكتاب الهام، الذي صدر تواً، وجاء في الوقت الذي يخوض ويواصل فيه الشعب السوداني ثورة ديسمبر 2018 المجيدة، من أجل الحرية والعدالة والكرامة والمساواة. والكتاب وثيقة لتاريخنا السياسي
المعاصر ومرجع هام لطلاب العلوم السياسية والدراسات الاِسلامية وطلاب التاريخ وعلم الاجتماع وللقارئ المهتم. واتمنى أن نشترك جميعاً في مراجعته، وهذا يتطلب العودة إلى الكثير من المصادر والمراجع والوثائق التي يحفل بها الكتاب، ومراجعة استنتاجات واستشهادات الكاتب، لنخلق حواراً فكرياً بناءً، ونحن على أبواب صياغة دستور جديد يشرّع لقضايا مثل الهُوية، والعلمنة، وحقوق المرأة ويقفل الطريق أمام الطبالين والزمارين الذين مارسوا ولا يزالون يمارسون المزايدة والنفاق من أجل مصالح حزبية أو ذاتية. لا مخرج لنا ونحن نخوض الآن معركة مصيرية إلاّ بناء وترسيخ دولة ديمقراطية علمانية. والعلمانية لا تعني الكفر والالحاد، إذ أن الدين في ظلّها شأن شخصي حريته مكفولة ومُصانة.
(*) استضاف منتدى الكتاب ببرمنجهام (المملكة المتحدة)، الذي يدخل عامه التاسع عشر، يوم السبت 27 أغسطس 2022 ، الدكتور فتح الرحمن التوم الحسن لتقديم كتابه "كولونيالية الاِسلام السياسي، أزمة الوطن والوطنية والمواطنة في خطاب الإخوان: السودان نموذجا". وشارك كاتب هذه السطور بتقديم الخطوط العريضة لهذه المراجعة.

hamidfadlalla1936@gmail.com

 

آراء