بسم الله الرحمن الرحيم
abdelmoniem2@hotmail.com
تحكم حياتنا مجموعة من القوانين بعضها ثابت وبعضها مُتغيِّر. ونحن كمؤمنين نوقن أنَّ القوانين الإلهيَّة ثابتة ولكن السؤال هو: هل هناك فرق بين القوانين الإلهيَّة وبين القوانين الطَّبيعيَّة والاجتماعيَّة؟ فالقوانين الطَّبيعيَّة والاجتماعيَّة ثابتة أيضاً ويُمكن توَقُّع خطواتها إذا توفَّرت لها نفس الشُّروط المكانيَّة والزمانيَّة في سياقها القديم.
ولا يحدث ذلك من غير وجود نظام أو كما يدعوه البعض "نسق" مثل أن تقول: نسَّقتُ الشيء: أي نظَّمته، ورتَّبته وضبطُّته. وتعريف النِّظام أو النَّسق هو: مجموعة عناصر متفاعلة، أو أجزاء عناصر مستقلَّة تكوِّن كُلَّاً مُعقَّداً ومُتكاملاً.
ولا بًدَّ لكلِّ نظامٍ من حدود مكانيَّة وزمانيَّة مُحاطة ببيئةٍ ما، وله أيضاً وصف شكلي مُعيَّن، وغرض، ووظيفة، وقوانين تحكم شكله أو إطاره أو سلوكه. وعليه يمكن أن نقول هذا نظام اجتماعي أو سياسي أو فزيائي. والنِّظام يكون مفتوحاً أو مُغلقاً وقوانين كلِّ نوعٍ تختلف وتشمل حقول معرفةٍ مختلفة.
ولفهم النِّظام بصورة شاملةٍ متكاملةٍ لا بُدَّ من استخدام معارف متعدِّدة من حقول المعرفة المختلفة مثل الرياضيات والفيزياء، والأحياء والكيمياء، وعلم النَّفس وعلم الاجتماع والفلسفة.
ولضمان حيويَّة النِّظام واستمراريَّته ينبغي أن تتوفَّر ثلاثة عوامل وهي: الأوَّل أن يقوم على قوانين وأجزاء سليمة تخلق توازناً. والثاني أن يكون في استطاعته التَّكيُّف مع المُستجدَّات بواسطة مرونة مبنيَّة فيه، حتى تمتصَّ التَّغيير وتهضمه فيصير جزءاً منها فتُعيد بذلك التَّوازن المطلوب. والثالث أن تنعدم أو تقلَّ الفرصة لإفساده.
من رأينا أنَّه لا فرق بين القوانين الإلهيَّة وبين القوانين الطَّّّبيعيَّة والاجتماعيَّة لأنَّ المولي عزَّ وجلَّ خلق كلَّ شيء في شكل نظام بعضه مفتوح وبعضه مغلق، وبذلك فقد قدَّر حركة كلَّ شيء وخلق توازنها: "وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ".
ولذا ما نراه كقوانين طبيعيَّة أو اجتماعيَّة ما هي إلا ترجمة للإرادة الإلهيَّة، ولكن درجة التَّحكُّم في صيرورة هذه القوانين تختلف من سياقٍ لآخر.
ففي القانون الفزيائي مثلاً نجد أنَّ الذَرَّة هي أصغر وحدة في تكوين المادَّة، ويمكن أن تكون ثابتة أو غير مستقرِّة، فالثابتة وصلت مرحلة توازن البروتونات والنيوترونات في النَّواة بدون طاقة زائدة. والنَّواة تمثِّل قلب الذَرَّة التي فيها روحها وبموت النواة تموت الذَرَّة مثلما تموت الخليَّة، والتي هي أصغر جزء حي في الإنسان، عندما تموت نواتها، ولذلك فطبيعتها ثابتة لا تتغيَّر ولا يُصيبها التَّحلُّل، أمَّا التي غير مُستقرَّة ففيها طاقة زائدة وعليه فهي تفقد التَّوازن فيصيبها ضعف فتتحلَّل وتموت.
وعندما نقرأ الآية الكريمة:
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ".
فنحن نعرف أنَّ نظام النَّفس، والتي مقرُّها القلب الذي هو نواة الإنسان، مُكوَّنٌ من أجزاء متفاعلة وبعضها يطغي على البعض الآخر وفيها طاقة زائدة من الشَّر على طاقة الخير:" وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا"، فقدَّم الفجور على التَّقوى لأنَّ فطبائع الشَّر تفوق الأربعين طبيعة وطبائع الخير لا تتعدَّي العشرة، ولذلك لا بُدَّ من عملٍ نشط ومُبادر ومستمرٍّ من الإنسان لإعادة التَّوازن لهذه النَّفس بتزكيتها من الطَّاقة السَّالبة الزَّائدة، وإلا صارت مريضة أو غير مُستقرَّة وطبيعتها الذَّبذبة: "مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هؤُلَاءِ". ممَّا يعني انعدام التَّوازن وغلبة الفوضى.
وإذا ظلَّت على مرضها وازدادت مرضاً: " فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا"، فستموت وتتحلَّل مثل الذَرَّة غير المًستقرَّة إلا إذا استخدم الإنسان الدَّواء الإلهي لخلق التَّوازن في النَّفس بتغليب الطَّاقة الموجبة الخيِّرة. ونحن عندما نري شخصاً وهو متوازن نقول إنَّه "متصالح مع نفسه"، والصَّالح في اللغة هو المستقيم المؤدِّي لواجباته، وصلح أمرُه يعني صار حسناً وزال عنه الفساد، والصلاح قرين النَّفع.
ونحن نقرأ: " الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ". فالإيمان هو الذي ينظِّم عمل القلب بطرد الظلام وتمكين النُّور، أمَّا الذِّكر فهو الذي يثبِّت القلب وفي اللُّغة اطمأنَّ تعني سكن وثبت واستقرَّ ونحن نعلم أنَّ الذَرَّة تكون ثابتة أو مستقرِّة أو غير مستقرَّة باستقرار نواتها وهي قلب الذَرَّة كما أنَّ القلب في الإنسان هو نواته ونسمع دعاء الرسول صلَّي الله عليه وسلَّم:
"اللهم يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على الإيمان".
ونعرف حديثه الشريف:
"أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ".
ونري الكثير من النَّاس يحملون مسبحة يذكرون الله وقلوبهم لاهية في أمور الدُّنيا وهم يظنُّون أنَّ هذا هو الذِّكر المقصود وإنَّما المقصود حالة المشاهدة والاستسلام ووسيلتها الصلاة: " فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي"، وكلُّ عمل مقصود به وجه الله سبحانه وتعالي يورث القلب طمأنينة فهو صلاة وهو ذكر وما كانت وصيَّة المصطفي صلَّي الله عليه وسلَّم للرَّجل الذي لم يخشع في صلاته إلا تبياناً لكيفيَّة الوصول للطمأنينة والتي هي التَّوازن القلبي المُفضي لثبات القلب كما تثبت الذَرَّة: " إذا قمت إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئنَّ راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئنَّ ساجداً، ثم اجلس حتى تطمئنَّ جالساً، ثم اسجد حتى تطمئنَّ ساجداً، وافعل ذلك في صلاتك كلها". والتَّفسير العلمي التَّطبيقي يُعلِّمنا عن خاصيَّة الذَرَّة المتوازنة التي نعرفها، ولكن لا يتجاوز علم الشهادة ويردَّها لاستطاعتها للتَّخلُّص من الطَّاقة الزائدة، بينما في مفهوم الإسلام فهي رضيت في عالم الغيب عندما خُلقت، أن تكون تحت التَّحكُّم الكامل لإرادة المولي حين خيَّرها بين أن يُعطيها حرِّية القرار ومسئوليَّته فتتغيَّر وتفقد توازن الطَّاقة فتتحلَّل وتموت، أو أن تظلَّ خاضعة لله سبحانه وتعالي ويحفظ لها حياتها.
بينما رفض الإنسان هذا العرض؛ وهو التَّسليم الكامل وهو جوهر الإسلام، وذلك بقبوله تحدِّي حمل المسئوليَّة؛ وهي لا تعني أكثر من التَّحكُّم الجزئي في حركته، وفي قراره، وما عدا ذلك فهو محكوم بين قوسيّ الوجود والعدم، وبينهما الرِّزق، حيث لا خيار له:
" َيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".
وما الإنسان إلا نتاج مجموع قراراته، ولذلك ضاع ثبات تكوينه بعد أن أُعطي مسئوليَّة المحافظة على التَّوازن وفشل باتِّخاذ قراراتٍ خاطئة، وقد حدَّد المولي عزَّ وجلَّ مكان اتِّخاذ القرارات في النَّاصية للجزء الأمامي من المخ فقال عنها: "ناصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ" وعلَّل خطأ الإنسان باعتماده على معلومات رديئة بكذبه على نفسه وإقناعها أنَّها جيِّدة، ولذلك ما سيؤدِّي لنهايته الخاسرة، بينما تبقي ذرَّاته متوازنة على تكوينها إلى ما شاء الله لاستسلامها لإرادة المولي واعتمادها على الحقائق بمعرفتها لقدر نفسها، بينما جهله الإنسان، إلى أن يدعوها المولي عزَّ وجلَّ مرَّة أخري لتتجمَّع وتُعيد تكوين الإنسان.
وبينما يخبرنا المولي أنَّ لهذه الذَرَّات ذاكرة وضمير ووعي ولسان فالقانون الفزيائي لا يخبرنا بذلك.
ولذلك لا يُمكن أن يُفلت إنسانٌ من سنن الحياة الطَّبيعيَّة مهما أوتي من علمٍ أو ذكاءٍ أو قدرةٍ. ولجهل الإنسان وحكمة المولي عزَّ وجلَّ ورحمته وفضله فقد زوَّده بكلِّ ما يحتاجه الإنسان لحفظ التَّوازن والاتِّساق مع حركة بقيَّة المخلوقات وسمَّاه الدِّين. والأمر الفَكِهْ هو استسلام ذرَّات الإنسان لإرادة الله سبحانه وتعالي وعصيانه لله باستخدام نفس الذَرَّات المُطيعة، ولذلك ستشهد عليه يوم القيامة لأنَّه عذَّبها بالعصيان، ولو أنَّها تملك صوتاً لصرخت ولربما لها صوت ولكن الإنسان به صممٌ.
ولذا فامتحان الإنسان هو الاستسلام الطَّوعي لله ربِّ العالمين واعترافه بجهله. فالذَرَّات تُكوِّن المخلوقات كلَّها وهي ليست مقهورة على الطَّاعة، ولكنَّها مجبولة عليها لأنَّها اتَّخذتها طبعاً حينما أعطاها المولي الخيار بين أن تأتي له كرهاً أو طوعاً فقالت أتينا طائعين: " ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ". فحالة الدُّخان هي الحالة التَّكوينيَّة الجنينيَّة من مجموعة الذَرَّات قبل تحوَّلها إلى مادَّة وبذلك فالمُخاطَب هو "روح" السَّماء والأرض قبل أن تتشكَّلا.
ولأنَّ طبيعة الانسان لا تتغيَّر أيضاً فهي العامل الذي يتفاعل مع القوانين الأخرى ليُنتج وضعاً جديداً قد يبدو مُختلفاً على السَّطح ولكنَّنا إذا تعمَّقنا في فهمه فإنَّنا سنجد نفس النَّمط القديم في قاعه.
وبرغم طبيعة الانسان الطَّّبيعيَّة الثَّابتة مادِّيَّاً أو معنويَّاً؛ مثل الخوف والطمع والشح والهلع والجزع وغيرهم من الطبائع، فإنَّه يُغيِّر من الأفكار التي تحكم حياته وبذلك يُغيِّر سلوكه، والتي قد تكون ضدّ مصلحته ولكن ذلك، برغم المفارقة، هو جزء من طبيعته؛ إذ أنَّه مخلوقٌ ذو حُرِّية مُقيَّدة، وإرادة حُرَّة، وهو لاعقلاني في نفس الوقت.
نري هذا التَّغيير إذا نظرنا إلى دائرة الإنسان الخاصَّة ولكن إذا نظرنا لدائرة العالم فنجد أنَّ سلوك الإنسان محكومٌ بمحدوديِّة قدراته ويُمكن توقُّعه، فهو أمام أي شيء لا يستطيع أكثر من أن يُقرِّر في أن يفعل أو لا يفعل ولذلك جاء القانون الإلهي مطابقاً لهذه الطَّبيعة وجاء بأمر نهيٍ أو بأمر فعل.
فالإنسان محكوم بسياقه وإن أراد تغيير سلوكه في سياق لا يتَّفق معه فسيدخل في نزاع. فمثلاً الانسان يلبس ثياباً ليُغطِّي عورته أو لأسباب أخري، أو قد يمشي شبه عارٍ أو عارياً، وذلك حسب سياق تنشئته مثل الغابات مثلاً، أو في سياقٍ مُعيَّنٍ مثل السباحة أو شواطئ العراة، ولكنَّه ما إن يبعد عن السِّياق المُعيَّن حتى يُغيِّر سلوكه مرَّة أخري ليلائم السياق الجديد. فإذا مشي أحدٌ بثياب السباحة في السوق فسيعتقله البوليس لخرقه القانون الذي يسمح له بالمشي بنفس هذه الملابس على شاطئ البحر.
وعندما يبتعد إنسانٌ عن سياق ثقافته تماماً يضطّر لتغيير أفكاره جزئيَّاً، إذا كان لا بُدَّ من ذلك من أجل التَّناسق والتَّعايش مع المحيط الجديد، أو يُغيّره كاملاً إذا أعجبه نوع التَّفكير الجديد فينضمّ لأفكار السياق الجديد، ولربما لا يرجع لسلوكه القديم حتى وإن رجع لسياقه الأوَّل.
فنحن رأينا بعض أبناء الوطن يذهبون لبلاد أخري ويفتتنون بما وجدوا فيها من أفكارٍ كانت غريبة عليهم ولاقت هوىً في نفوسهم ورأوا فيها خلاصاً لشعوبهم، فتبنُّوها وصاروا من دعاتها لـمَّا رجعوا لوطنهم، وبناءً على النَّمط الفكري الجديد غيَّروا سلوكهم.
وقد رأينا أيضاً أبناء القبائل الذين نشأوا في بيئة تعتبر العُري شيء طبيعي ومصدر فخر وتميُّز، ولكنَّهم عندما تلقُّوا تعليماً في سياقٍ مختلف، لبسوا الثياب واقتنوا أغلاها وتفاخروا بذلك، ولمَّا رجعوا لسياقهم وقد تغيَّرت أفكارهم عن معني العري؛ شجَّعوا قبائلهم على تبنِّي النَّمط الجديد.
فمن طبيعة الإنسان أن يظنُّ أنَّه على حقٍّ دائماً، ومتميِّز عن الآخرين ولذلك يُصِرُّ على التَّمسُّك بالأشياء التي تميّزه عن الآخرين ويُطلق عليها أسماء مثل "هويَّة" أو "ثقافة" ويُقاتل من أجلها إذا واجهته قوَّة خشنة، وسبب ذلك أنَّها ارتبطت بغريزة البقاء الحيويَّة أو الوجوديَّة أو الرُّوحيَّة أو الاجتماعيَّة.
أمَّا إذا ما واجهته قوَّة ناعمة لأمدٍ طويل فلا تستطيع كل دفاعاته الثقافيَّة أن تقف في طريق تغييره مهما أُوتي من وعيٍ فبعض الأشياء تتسرَّب للنَّفس بالتَّعوُّد.
أمَّا إذا ما اكتفي الإنسان بما عنده من علم، وأصرَّ على الانغلاق الفكري، وأغلق كلَّ مساماته التّبادُليّة مع من حوله، خوفاً على مصلحةٍ، أو خوفاً من أن يتأثَّر ويُغيِّر فكره، أو اعتزازاً بعلمه، فإنّه سيقع تحت طائلة قانون فزيائيٍّ طبيعيٍّ يُسمَّي القانون الثاني للديناميكا الحراريّة الذي يتحدَّث عن النِّظام المغلق والذي ينطبق على كلِّ المخلوقات والذي يقول:
"إنَّ كلَّ نظامٍ مٌغلقٍ معزولٍ كُلِّيَّاً عن أي نظامٍ آخر يميل أن يُصبح في حالته الأكثر احتمالاً؛ وهي الفوضى الكاملة".
بمعني أنَّ كلَّ الأنظمة المغلقة ستصبح غير منتظمة تدريجيّاً حتى تتحلَّل وتموت في النِّهاية طال الزَّمن أو قصُر، ومنها نظام السَّماوات في عالم الملك، وما وصْفُ يوم القيامة بانفطار السماء وتناثر الكواكب: " إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ"، إلا تنبيهنا إلى أنَّ هذا النِّظام المغلق سوف ينفجر في يومٍ ما ويصير فوضى لا تُوصف، وذلك لأنَّ الشَّرط الأخير لاستمراريَّته سينعدم، وهو عدم الإفساد، ولذلك حين يتكلَّم المولي عزَّ وجلَّ عن الفوضى في عالمنا يردَّها لمسئوليَّة الإنسان وإفساده:" ظهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ".
وإذا تأمَّلنا النِّظام الاجتماعي والسِّياسي فنجد أنَّهما يقعان تحت نوع النِّظام المفتوح، وحين تستفرد جماعة صغيرة أو نُخبة بهذا النِّظام فهي تُحاول أن تُغيِّر من طبيعته بتحويله إلى نظامٍ مُغلق، وهي بذلك تُغيِّر قوانينه وأجزاءه فتُخالف الشَّرط الأوَّل للاستمراريَّة.
ويقود المجموعة القرارات التي تتَّخذها بواسطة التّفكير، ولذلك فتفكير المجموعة أو النُّخبة في النِّظام المُغلق يؤدِّي للعزلة بين القيادة والجماهير؛ إن كان ذلك في نادي لكرة القدم أو بين حاكمٍ ومحكوم فالعوامل التي تتحكَّم فيه، والدِّيناميَّة، والنَّتيجة واحدة.
وتبدأ العزلة بظهور حاجزٍ خفي تُحسُّه ولا تراه، وترتطم به إذا حاولت المشي للأمام، ولكن لو شكوت منه فإنَّ مجموعة النُّخبة تُنكر وجوده تماماً وتُطالبك بإثبات وجوده أو لو اعترفت بجزء منه تلومك عليه وتُقلِّل من شأنه. وخطر العزلة هو الانقطاع عن الواقع وعن تقييمه تقييماً صحيحاً فتصبح القرارات المُنتجة من هذا الانقطاع بين الإنسان والواقع غير ملائمة ومبنيَّة على الافتراض وليس على الحقائق.
وهذه المجموعات، عندما تزيد الشكوى من عزلتها، تُزيح الحاجز من فترة لأخري لتُثبت أنَّها جزء لا يتجزَّأ من الكُل، وتستغلّ السانحة لترفع صوتها بالشعارات التي من أجلها "تُضحِّي المجموعة" في سبيل الجميع، ومن أجل الأهداف العليا لرفع اسم النَّادي أو الوطن عالياً، ثُمَّ تطلب من البقيَّة الباقية الصَّبر والثِّقة في القيادة المُخلصة الرَّشيدة التي لها خطط لحلِّ المشاكل ولتلافي الضَّرر، ومن ثَمَّ تستمرُّ في سلوكها كأنَّ شيئاً لم يكن.
وكلّ الأنظمة الأيديلوجيَّة تتبع هذا النَّهج، وتخضع لهذا القانون، ولذلك فهي تخنق نفسها بنفسها وتتحلَّل وتتلاشي مهما طال الزَّمن لأنَّها عوراء تري بعين واحدة تُبصر بها عيوب الآخرين، وتتَّهم الآخرين بالسعي لهدم مجهودها وتفشل أن تري عيوب نفسها ودورها الهدَّام.
ونستنتج من ذلك أنَّ تشابك العلاقات وتلاقحها مع وبين أعضاء المجموعة الكبيرة أو الأنظمة الأخرى تُعطي حياة وتجدُّداً إذ تُقلِّل من فرصة الاختلال، ولذلك وجّه المولي عزَّ وجلَّ الشعوب والقبائل للتشابك المعرفي والتلاقح الفكري والإنساني اجتناباً للعزلة الهدَّامة: " يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ".
وفي حالة بدء حدوث فوضى في النِّظام المُغلق فهو يتمُّ لا شعوريَّاً أوَّلاً ثُمَّ بوعيٍ ولكن بطريقة انفعاليَّة، ويكون كتنظيمٌ موضعيّ لجزءٍ مُحدَّد على حساب النّظام المُتبقِّي من أجل البقاء، وذلك كعمليَّةٍ توازنيةٍ تُضمن توازن المركب مثلما يُميل قبطان المركب الشراع ليتجنَّب موجة عالية في يومٍ عاصف.
ولكن هذا لا يُوقف العاصفة وإنَّما يُعطي القبطان بعض الوقت لا غير، ومع اشتداد العاصفة تصير الفوضى زائدة ثمَّ سائدة، وهذا يؤدِّي لميلان القارب أكثر كتنظيمٍ موضعيٍّ مُعاكس من القبطان وكردِّ فعل لسيادة العاصفة المُدمِّرة، ومع كلِّ ازدياد في التَّحكُّم في المركز الموضعي يقلّ التَّحكُّم في الأطراف، فيصير النّظام الكُلِّي قاب قوسين أو أدني من الانقلاب أو الانهيار حتى تأخذه الأمواج العاتية في طريقها في النِّهاية.
فالتّنظيم الموضعي قد يؤدِّي لإطالة عمر أيِّ نظامٍ مغلقٍ في المدي القصير، ولكنّه بنفس المستوي يؤدِّي إلى انهياره الشامل في المدي البعيد مهما طال الزَّمن، لأنَّ التَّشقُّقات التي تصيب جدران النِّظام تزداد عمقاً بازدياد الارتطام والزلزلة للنِّظام حتى ينفجر البناء أو يَنْهدّْ على عروشه.
وعندما يضيق الخناق عليه فإنَّه يترك الأطراف تحت رحمة الغير الذين يتصرَّفون بلا تنسيقٍ مع مركز القرار أو قد يتَّخذون قراراتٍ تتَّسق مع ظروفهم الخاصَّة وتضُرُّ بالسياسة العامَّة للنِّظام، وتدريجيَّاً تزداد القرارات العشوائيَّة التي تنفعل مع الأزمات حتى ينفرط عقد الأشياء تماماً وتعُمُّ الفوضى.
وفي مثل هذا الوضع فإنَّ الأولويَّات تختلف وتسبق التي لها رابطة مباشرة مع غريزة البقاء ولذلك يتمُّ التَّركيز والإنفاق على الأجزاء التي تحفظ النِّظام مثل الجيوش والموالين.
فهذا الوضع مثل الملك الذي يُحيط نفسه بحاشيته في قلعته ويُدير منها مملكته من مركزها لأطرافها، وإذا ثارت عليه أطراف المملكة فقد يفقد جزءاً منها ويظلُّ مستمسكاً بقلعته، وعندما يتمُّ التَّضييق عليه يؤمِّن قلعته والطُّرق المؤدِّية إليها أكثر حتى تصل الحشود إلى سور قلعته، وكلَّما ازداد الحصار عليه كلَّما زاد من التَّنظيم الدَّاخلي والموضعي للقلعة تحسُّباً للهجوم.
وينسي مثل هذا الملك أن ثورة الأطراف تعني انقطاع معينات الحياة من مأكلٍ ومشربٍ، وتناقص الثروات؛ فلا تنمية في عهد الفوضى، ومع ازدياد حالة الفقر تنتفض الأمصار التي كانت آمنة من قبل حتى تصل إلى قلب المملكة. فهي مثل الجسد، والذي هو نظامٌ مفتوح، الذي يشكو من التهاب في طرفٍ منه ولأنَّه بعيد من قلبه فقد يُهمله الإنسان ويُغلق نظامه برفض نصيحة الغير أو قبول العلاج الملائم فيستخدم المُسكِّنات بدلاً من العلاج النَّاجع، فيصل ضرر الطَّرف للقلب ويتوقَّف عن الخفقان، ولذلك مثلاً تُبتر الأطراف في حالة مرضي السُكَّري حتى يتم إنقاذ الجسد وإلا انتشر التَّسمُّم.
هذا التَّنظيم الموضعي الذي قد يشتري زمناً للملك يفشل في نهاية الأمر في التَّمسُّك بسلطته والتي يأتي ضياعها بغتة، لأنَّ سُلطان الفاقة
والجوع أقوي من سلطانه، وعندها يُفكِّر في الهرب مع أسرته الصغيرة مُضحيَّاً بالحاشية.
هذه سياسة كلَّ النُّخب التي حكمت العالم منذ بداية المدنيَّة، فقبل ذلك كانت النَّاس قبائل وعشائر تشاركت في كلِّ شيء، وقد كانت القيادة رمزيَّة لا فجوة بينها وبين الجمهور، فهي مفتوحة للشوري والمشاركة الفكرية والعمليَّة، بحيث يُحسُّ المشارك بمساواته في الواجب وفي الحقوق مع الجميع حتى مع رئيس القبيلة الذي يحترمه ولا يُقدِّسه، وبذلك يُحسُّ أنَّ ملكيِّة الأمر لا تخُصُّ أحداً بعينه وإنَّما هو مُلكٌ مُشاع. مثل هذا النِّظام يضمن العدالة الاجتماعيَّة والتَّماسك الدَّاخلي وتقليم أظفار الطَّاغوتيَّة في أعضائها ورفع قيمة الإيثار والتَّضحية.
ولكن مع بناء المدن انقسم النَّاس إلى أسياد وأتباع، لأنَّ المدن تحتاج إلى من يبنيها ويقوم بالخدمة فيها، ولذلك كان لا بُدَّ من سيِّدٍ ومَسُود، وهذا ما لا يسمح به النِّظام القبلي، فقامت بناءً على الحاجة الجيوش المُنظَّمة المدفوعة الأجر، وابتدأت حروب التَّوسُّع وابتدأ عهد الرِّق.
وسنواصل إن أذن الله سبحانه وتعالي
ودمتم لأبي سلمي