(كلام عابر)
أصبح صدره مقبرة..هكذا يقول أمير المبدعين هاشم صديق.. أصبح صدره مقبرة تعج بقبور الأحبة الذين أخذوا يرحلون تباعا وهم يسبقوننا لتلبية النداء الذي لا يملك كائن من كان أن يخلفه ولا يتركون وراءهم إلا وجع الذكرى التي لا نملك أن نغالبها إلا بيقين إيماني راسخ بأن كل نفس ذائقة الموت، فالنفس مصابة والعين دامعة والعهد قريب. صباح الجمعة 28 أكتوبر 2011م غيب الموت أستاذ الأجيال البروفيسور فتحي حسن المصري وانطوت صفحة طويلة لعظيم من عظماء أهل السودان ، ورحلت معه قيم كثيرة جميلة للحياة، والحياة نفسها لن تكون في غيابه بذلك البهاء وبتلك الوسامة. تراكمت عليه الأحزان برحيل رفاق دربه وأصدقائه تباعا، غيب الموت معظمهم فازداد زهدا في دنيا خلت منهم.ما الذي بقى، كما يقول منصور خالد في رحيل صفيّه عزيز بطران، "بعد رحيل تلك الكوكبة من الفاضلين.. ما الذي بقي بعد انكساف البؤرة التي تتلاقي عندها الأشعة، فالبؤرة في علم الطبيعة هي ملتقى الإشعاع كما هي مفترقه".
إن أفق من حزن هاج حزن ففؤادي اليوم ما له سكن
وكما تبلى وجوه في الثرى فكذا يبلي عليهن الحزن
بدأت مسيرة الصعود العظيمة في أرض النوبة النجيبة التي أشرقت شموس حضارتها قبل غيرها من أهل الأرض، في عبري ومرت بالخرطوم وحنتوب وخورطقت وانجلترا والمغرب ونيجيريا وكينيا ثم الخرطوم من جديد. عمل أستاذا للغة العربية في الجامعات للناطقين بغيرها وللناطقين بها، أنشأ جمعية الصداقة العربية الكينية في نيروبي ، زاوج بين الثقافة العربية والموروث النوبي مثلما فعلت كوكبة عظيمة من المبدعين المستعربين الذين انتهى بهم الأمر لأن يكونوا ملوكا للكلمة العربية.. خليل فرح، جمال محمد أحمد، محمد توفيق، الجيلي عبدالرحمن، محمد ابراهيم أبوسليم، فتحي المصري. عليهم جميعا رحمة الله ورضوانه.كلهم "موشحون بالسوميت"، استوعبوا العربية ولم يرفضوها وفي نفس الوقت لم تستلبهم ، فأضافوا للثقافة العربية وأثروها بموروثهم الثقافي الكبير ، وبقوا أوفياء لجذورهم وثقافتهم النوبية.
مسيرة طويلة شاقة ونحت على الصخر بالأظافر كانت حياته بين الجامعات في بلاد الله الواسعة متعلما ومعلما، حتى كانت جامعة أم درمان الأهلية خاتمة مطاف السيرة العطرة. كان يحمل الوطن معه في كل المهاجر وكان عنوانا لذلك الوطن ووساما علي صدره وسفيرا له كأحسن ما تكون السفارة. كان فيضا دافقا من حيوية لازمته منذ أن انخرط في العمل العام في مطلع الصبا، ولازمه طوال حياته حضوره الأنيق الفاعل في المحافل الأكاديمية بمعارفه الموسوعية،زينة لكل مجلس، منفتحا على هموم مجتمعه،بسيطا كأنبل ما تكون بساطة العلماء، متصالحا مع ذاته ومع من حوله، مسكونا بعشق الوطن، سخيا بالحق، بخيلا بالباطل، يرضى حين الرضا ويسخط حين السخط. ما كان عيابا ولا مداحا، كالجبل لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف، حر الشتاء وبرد الصيف ، وكان فوق كل ذلك زاهدا في الاضواء مثلما يفعل العظماء ، فللأضواء طلابها الذين يمضون العمر كله لهثا وراءها لاثبات ذواتهم العاطلة من الحكمة والفضيلة. سنوات المرض سلبته كثيرا من حيويته القديمة لكنها لم تنل من خفة روحه وأناقة كلماته وطبعه الساخر المرح الذي كان يتجاوز به كل حزن واحباط .أثقلت كاهله السنون وأقعدته لكنها لم تفل له حجة ولم تضعف له بصيرة.
صدري أنا الآخر أصبح مقبرة.. البروفيسور فتحي أصبح ساكنا جديدا في مقبرة صدري. اللهم اغفر لنا وله وتجاوز بعفوك عنا وعنه ولا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده، وطوبي لمن ذكر المعاد وقنع من دنياه بستر ربه ورضي عن الله عز وجل.
(عبدالله علقم)
Khamma46@yahoo.com