أما آن للمديوكرز “متوسطي المواهب والقدرات” والانتهازيين أن يتواروا عن المشهد السياسي السوداني (2)؟ 

 


 

 

من "إنجازات" الحكومة الانتقالية: العودة لأحضان المجتمع الدولي – أما آن للمديوكرز "متوسطي المواهب والقدرات" والانتهازيين أن يتواروا عن المشهد السياسي السوداني؟

الجزء الثاني من ثلاثة أجزاء

حسام عثمان محجوب – 5 أبريل 2022


بين ضعف القدرات ونقص الأخلاق والانتهازية

هناك العديد من الأمثلة للتدليل على ضعف قدرات مسؤولي الحكومة الانتقالية وقادة قحت في مجال العلاقات الخارجية، وفساد زعم تحقيق إنجاز في العودة لأحضان المجتمع الدولي. في حالات كثير يبدو الأمر خفة أخلاقية منهم ومواصلة في المضي في الطريق الذي اختطه نظام المؤتمر الوطني، وعدم قدرة أو رغبة على مخالفة مناهج عمله. تكفي الإشارة لبعضها في الفترة التي أعقبت انقلاب 25 أكتوبر.

الوقوع في فخ الفشقة

يشبه تدهور العلاقة مع الشقيقة أثيوبيا إلى حد كبير ما حدث في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، من حيث سواقة المكون العسكري لهاتين العلاقتين وسط احتفاء وتهليل للمكون المدني دون أن يملك ممثلوه على رأس الحكومة أو في مجلس الوزراء أو حتى المجلس السيادي غير التصفيق أو التبرير أو الخداع. ليس المقصود هنا أن الحكومة الأثيوبية طيبة وقلبها على السودان وكان يجب أن نسمع كلامها ونتفق معها، ولكن النزاع العسكري في الفشقة لم يكن مبرراً وكان تصعيده من صنع العسكر، ورغم تعقيد الأوضاع هناك والاحتمال الوارد بأن تكون الحكومة الأثيوبية نفسها قد استفادت من النزاع أو دفعت له، فإن الأمر الذي كان واضحاً للجميع أن العسكر قرروا الميل للجانب المصري في النزاع حول سد النهضة، ورضخ المدنيون لهذا الموقف الاستراتيجي بالغ الأهمية والخطر بسذاجة كبيرة، شهدت عليها مهزلة تولية مسؤولين مدنيين إدارة بعض ملفات النزاع العسكري في الفشقة، والاضطراب الواضح في المواقف حول سد النهضة بين وزارتي الري والخارجية، وظهور وزارة خارجيتنا تابعة قليلة الحيلة أمام الدبلوماسية المصرية المحترفة، وعاجزة في نفس الوقت عن مواجهة الدبلوماسية الأثيوبية الواثقة المتمكنة.

زيارة حميدتي لأثيوبيا بعد الانقلاب أكدت وراثة العسكر لقدرات البشير الحربائية على تغيير المواقف والولاءات. الاستراتيجية والتخطيط اللذان ينظران لمصالح السودان وطناً وشعباً كغاية أولى وأسمى، والمتفق عليهما سياسياً وشعبياً كانا سيضعان الحكومة الانتقالية وسلفها في قحت في وضع أفضل في التعامل مع قضية معقدة كهذه مع الجارتين الشقيقتين أثيوبيا ومصر، وهما اللتان ستظلان تلعبان أدواراً مهمة وخطيرة في الواقع السوداني شئنا أم أبينا، بدلاً من ترك الأمر للمصالح الشخصية لحفنة من المجرمين على سدة قيادة الجيش ومليشيا الدعم السريع، ونحن نعرف تماماً محركاتهم ودوافعهم وأطماعهم ومخاوفهم، ونعلم مغرياتهم للانحياز للموقف الرسمي المصري، التي يشهد عليها حال صلاح قوش ومن قبله نميري وغيرهما ممن أجرموا في حق الشعب السوداني ثم عاشوا تحت كنف الدولة المصرية، وتحت رعايتها ونظرها وأمرها.

بين معسكري الخير والشر

البيان الصادر من المكتب التنفيذي لقحت يوم 2 مارس بإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا وتدخل روسيا في الشؤون الداخلية السودانية عبر نهب الموارد ودعم أجندة انقلاب 25 أكتوبر واستخدام الأراضي السودانية في النزاعات الجيوسياسية في الإقليم والعالم والوقوف المستمر مع الانقلاب يمثل قمة سذاجة وضعف قدرات قحت إن لم نقل لا أخلاقيتها وانتهازيتها.

أول اتصال عالي المستوى بين الحكومة الانتقالية والحكومة الروسية كان زيارة وزيرة الخارجية لروسيا في يوليو 2021 لشرح موقف السودان حول سد النهضة بعد جلسة مجلس الأمن الدولي المخصصة للأمر والتي شارك فيها السودان بصورة بالغة الضعف من الناحية المهنية الاحترافية، ومتماهية تماماً مع الموقف المصري سياسياً. خلال سنتين من عمر الحكومة الانتقالية، ورغم علاقات روسيا مع نظام المؤتمر الوطني واستمرار علاقاتها بالعسكر، ودور روسيا في الحملات السايبرية المساندة للعسكر، وفي استخراج وتهريب الذهب، واتفاق القاعدة البحرية، ورغم ثقل روسيا في موازين القوى العالمية، وأدوارها المهمة في المنطقة، ورغم تنبيه العديد من السياسيين السودانيين لضرورة الاتصال والحوار معها ومع الصين منذ أول أيام الحكومة الانتقالية، لكن مسؤولي الحكومة وقيادات قحت ومفكريها أصموا آذانهم عن الاستماع لهذه النصيحة البديهية.

هل كان ذلك بسبب يقين جازم لديهم أن الارتماء في أحضان أمريكا (وبدرجات أقل بعض دول أوروبا الغربية) يكفي للإبحار الآمن في هذا العالم المعقد؟ ربما، وهذا أكثر التفسيرات احتراماً، وهو بالطبع يكشف عن جهالة سياسية وmediocracy هائلة.

الموقف الروسي المعادي للشعب السوداني

أم كان بسبب موقف روسيا المعادي للمدنيين والمناصر للعسكر؟ هنا تتبدى لا أخلاقية وانتهازية القائمين على أمر الحكومة وراسمي سياساتها. فهم يعلمون أن حلفاءهم في دول الجوار، السعودية والإمارات ومصر وقطر جميعها لا تثق في المدنيين ولا تحبذ العمل معهم، ودعمت بشكل مباشر أو غير مباشر هذا الطرف العسكري أو ذاك منذ وقت مبكر في عمر الثورة، وأنها جميعاً دعمت بشكل صريح عمر البشير ونظامه لفترات متعددة متطاولة رغم جرائمه العديدة في حقها.

كما أنهم يعلمون أن التقارير التي تتحدث عن قيام جهات استخباراتية أو أمنية روسية بعمليات تزييف محتوى وسائط التواصل الاجتماعي (بالذات فيسبوك وتويتر وإنستغرام) وإنشاء حسابات وصفحات وهمية ونشر أخبار ومعلومات كاذبة وإشاعات للتأثير على الرأي العام السوداني، تحدثت هي نفسها عن قيام جهات أمنية أو استخباراتية إماراتية ومصرية بنفس الأعمال ولنفس الأغراض.

ويعلم مسؤولوالحكومة الانتقالية وقادة قحت أن قيام جهات روسية بنهب وتهريب الذهب كان  وما زال يتم بمساعدة، ولصالح، شركائهم السابقين في أجهزة الحكم الانتقالي وعلى رأسهم مليشيا الدعم السريع وقائداها دقلو أخوان، وأن الوجهة الأولى والأهم لهذا الذهب المهرب هي دولة الإمارات العربية المتحدة، وليست روسيا.

الموقف الأخلاقي ضد روسيا

هل كان رفض التعامل مع روسيا والصين نتيجة لموقف أخلاقي ضدهما؟ وهل كان موقف قحت الواضح الرافض للغزو الروسي لأوكرانيا والمؤيد بصورة شبه مطلقة للموقف الأمريكي مبنياً على أسس أخلاقية ترفض دكتاتورية النظام الروسي وجرائمه؟

من المحزن ألا نجد في فترة سنتين من حكومة جاءت بعد ثورة شعبية رفعت شعارات الحرية والسلام والعدالة ما يشير لتمسكها هي أو حاضنتها بقيم أخلاقية في العلاقات الخارجية، ولذلك ليس منطقياً أن يكون ذلك دافع قحت الآن. لا يجب أن ننسى أن الحكومة ومعظم أطراف حاضنتها لم ينبسوا ببنت شفة عن حرب الإبادة في اليمن التي واصلت حكومتنا المشاركة الفاعلة فيها بجنود سودانيين مرتزقة أشبه ما يكونون بالعبيد المسترقين يقتلون أشقاء أبرياء في نزاع لا مبرر لدخول بلادنا فيه غير العمالة والارتزاق، وأنهم برروا التطبيع مع إسرائيل دون أن يتحلوا بحصافة قراءة التاريخ الذي كان سينبئهم أن إسرائيل سترمي بهم في أقرب مكب قمامة وتتعاون مع العسكر أعداء الشعب وجلاديه ضدهم، وأن حكومة الثورة صوتت ضد التمديد لمقرر الأمم المتحدة الخاص لحقوق الإنسان في أريتريا الذي – للمفارقة المفجعة – كان الخبير القانوني السوداني د. محمد عبدالسلام الإزيرق. ونحن هنا نتحدث عن مبادئ مقبولة في ظل النظام العالمي بشكله الحالي بموازين قواه وانحيازاته وعدم عدالته المعروفة، ولم تترك لنا حكومة الثورة وقحت كوة عشم في أن تبادر وتفرض على علاقاتها الخارجية مستوىً أعلى من القيم والمبادئ الأخلاقية، ينحاز للإنسانية وقضاياها بحق، ويتمثل هذه القيم في ترتيب أولوياته وشركائه، ويجرؤ على تقديم نموذج جديد لعلاقات دولية واقف على أساس متين من ثورة أثارت إعجاب شعوب العالم المتطلعة لنفس قيمها الإنسانيا العليا.

لمناقشة أخلاقية رفض الغزو الروسي وتأييد الموقف الأمريكي، يمكن أن يكون ذكر هذه الأشياء مع بعضها مفيداً. بوتين مجرم، ودكتاتور، ونظامه قمعي وفاسد ومجرم وغير ديمقراطي. غزو روسيا لأوكرانيا جريمة غير قابلة للتبرير، ويتحمل مسؤوليتها بوتين ونظامه، وقد حدثت فيها جرائم حرب يجب أن يتحملوا نتائج القيام بها، منها استهداف المدنيين، وقصف المستشفيات والملاجئ، واستهداف منشآت البنى التحتية ووسائل الإعلام، واستعمال أسلحة محرمة دولياً. ليست أمريكا بأفضل من روسيا في هذا المضمار؛ احتلت أمريكا في الثلاثة عقود الماضية العراق وأفغانستان، واستهدفت المدنيين، وقصفت المستشفيات والملاجئ، واستعملت أسلحة محرمة دولياً، واستهدفت منشآت مدنية ووسائل إعلام.

من المفارقات المفجعة في هذا الصدد أن روسيا وأوكرانيا وأمريكا يشتركون في عدم الانضمام للاتفاقات الدولية لتحريم بعض الأسلحة المستعملة في الحرب حالياً. كما تشترك روسيا مع أمريكا كدولتين عظميين في عدم الاكتراث بالتكلفة البشرية لتنفيذ سياساتهما، مهما بلغت أعداد الضحايا. حيث ظهر من تسريبات أمريكية عديدة أن بعض الجهات الأمريكية ترى في استمرار الحرب في أوكرانيا إضعافاً لبوتين، واستنزافاً لروسيا، قد ينتج عنهما تغيير النظام هناك، كما تسبب الغزو السوفيتي لأفغانستان من قبل في بداية تحلل الاتحاد السوفيتي.

العالم الغربي الذي يقف اليوم مع أوكرانيا لم يتأخر كثيراً في إظهار عنصريته، فتحدث كثير من إعلامييه ومواطنيه ومسؤوليه مراراً عن صدمتهم لرؤية مناظر الحرب القاسية في أوكرانيا الدولة الأوروبية المتقدمة ورؤية الضحايا الأوروبيين المتحضرين (بيض البشرة شقر الشعر)، وتحدثوا بصراحة وقحة عن أن الحرب من خواص الدول المتخلفة في الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا، وتشبه مواطنيها (سمر الوجوه أو صفرها أوسودها). تجاوزت العنصرية المشاعر والكلمات لتصبح قمعاً ورفضاً للاجئين غير الأوروبيين الهاربين من أوكرانيا، من المهاجرين والمغتربين الأفارقة أو الآسيويين أو مواطني الشرق الأوسط.



husamom@yahoo.com

 

آراء