أما من مغيث؟ … عفواً أزمتنا ليست اقتصادية
خالد التيجاني النور
25 December, 2011
25 December, 2011
tigani60@hotmail.com
لو كنت صاحب الأمر, أو من بين الدائرة الضيقة من صناع القرار في المؤتمر الوطني, لتحسست مقعدي ولفكرت ملياً ولما تلكأت للحظة في قراءة مدلولات في عواقب سابقة بوادر تمرد نواب الحزب مما ظهر من ملابسات حالة "البهدلة وشيل الحال" التي تعرضت لها الموازنة العامة للعام القادم إبان مناقشتها في البرلمان, ولما ترددت في المبادرة إلى أخذ الأمور بجدية وسارعت إلى إصلاح الحال قبل أن تهب رياح التغيير من داخل الحزب على غير توقع وهم ينتظرون أن تأتيهم من الخارج.
صحيح أن الموازنة تم تمريرها في نهاية الأمر وهي معطوبة وبعجزها مما يفقدها معنى أن تكون موازنة فعلاً, أي معلومة الموارد المقابلة لمصارف محددة, بكثير من "التلتلة" وبغير قليل من استخدام "سطوة السلطة" بغير رضى ولا اقتناع حقيقي من النواب مما يعني أن الباب سيظل مفتوحاً لسيناريوهات متعددة حين يتسع الفتق على الراتق وتعجز التقديرات النظرية عن مخاطبة التحديات الحقيقية والواقعية.
وحتى لا يظنن ظآن أننا نهرف بما لا نعرف, أو نتخيل شجراً يسير, ننعش الذاكراة بمشهد ما جرى في المجلس الوطني قبل نحو عام حين حشر النواب ضحى على عجل لإجازة تعديلات على موازنة العام الماضي بعد أقل من شهر على إجازة الموازنة الأصلية وهي تتضمن زيادات في أسعار بعض السلع والخدمات من بينها الوقود والسكر, لم يستغرق الأمر من النواب حينها إلا جلسة وحيدة قصيرة ليجيز تلك الزيادات وسط فرح وحبور, واستعيد هنا ما كتبته في هذا المكان في مطلع العام الجاري تعليقاً على ذلك "إن البرلمان المناط به محاسبة ومراقبة الجهاز التنفيذي يؤكد كل يوم أنه لا ضرورة البتة لوجوده ما دام مستعداً دائماً ليبصم بالعشرة على كل ما تفعله الحكومة.
وكانت ثالثة الأثافي ليس تمريره لإجراءات الحكومة الأخيرة في وقت أقل مما استغرقه مجلس الوزراء في إجازتها فحسب، بل في الترحيب بها والتصفيق لها في سابقة غير معهودة أثارت الحيرة، وهو ما لم يحدث حتى في برلمان ألبانيا على عهد أنور خوجة مما يثير تساؤلاً مشروعاً عن من يمثل هؤلاء النواب حقاً، وقد قيل إنهم فازوا بتسعين بالمائة من تأييد الشعب، وإذا كان البرلمان لا يستطيع الدفاع عن حقوق المواطنين الذين يفترض أنه يمثل مصالحهم الحقيقية، فما هي الحاجة لوجوده أصلاً، وإذا كانت الحكومة تتحدث عن إجراءات تقشف في الإنفاق الحكومي أليس يجدر بها حل هذا البرلمان وتحويل مخصصاته المهولة لصالح مشروعات أجدى لنفع المواطنين، كيف نتحدث عن تحول ديمقراطي، والفصل بين السلطات هو أدنى شروط تحقق الديمقراطية. لا وجود له في ظل هذا التماهي بين مؤسسات الحكم".
تلك إذن كانت صورة ما حدث قبل أشهر قليلة, إذن ما الذي تغير لتنقلب الصورة ويتحول النواب من تلك الحالة "النائمة في العسل مع الحكومة" التي كانوا يقفون فيها مع الحزب فيما قال وفيما سيقول بلا إحساس من واجب المسؤولية تجاه المواطنين الذين يفترض أنهم يمثلونهم, وبلا التزام بواجب النيابة, وما الذي جعلهم يستيقظون فجأة ويحاولون الدفاع هذه المرة عن مواطنيهم الذين تريد الحكومة أن تجعلهم يدفعون ثمن عدم استعدادها للتخلي عن أي من مكاسب السلطة وامتيازاتها, أي باختصار تريد أن تقلب الأمور بان تجعل المواطن في خدمة الحكومة, متخلية عن دور أي حكومة مسؤولة أن تكون في خدمة المواطن, وليس العكس.
صحيح أن النواب لم يستطيعوا في نهاية الأمر الخروج من بيت "الطاعة الحزبي" وخضع أغلبهم على مضض وبلا اقتناع لإجازة الموازنة بكل عللها وعلاتها كما أصرت الحكومة على ذلك وجاراها رئيس البرلمان بحمل النواب على تمريرها, غير أن الجديد أيضاً أن العديد من النواب لم يسكتوا على ما حدث وخرجوا متحدثين للصحافة منتقدين عن عيوب أسلوب إجازة الموازنة ومضمون ما أجيز ومحذرين من عواقب الأمر دون اعتبار للالتزام الحزبي في سابقة لافتة وقد طفح بهم الكيل.
وصحيح أيضاً أنه لا يمكن التعويل في قراءة ما حدث على الزعم بأن تحولاً جذرياً بالفعل قد حدث في تعاطي المجلس الوطني مع شؤون الحكم وقضايا المواطنين, ولكن "العيار اللي ما يصيبش يدوش" كما يقول أخوتنا المصريون, كما لا يمكن التقليل من شأن ما حدث خاصة وأن من انبروا للإعلان عن مواقف منتقدة لأداء الحكومة الاقتصادي شخصيات مرموقة في قيادة الهيئة البرلمانية للحزب.
لقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر خلال أشهر السنة المنصرمة كشفت عيوباً كبيراً وثقوباً واسعة في جسد الحكم الإنقاذي اتسعت على الراتق, فمن تقسيم البلاد وانفصال الجنوب الذي خلف للخرطوم إرثاً ثقيلاً لم تقوى على تحمله, تدهوراً اقتصادياً مريعاً وسريعاً, وتخبطاً في إدارة شؤون الحكم, وعودة للحرب, وتبديداً لوحدة البلاد, وإصرار الطاقم الحاكم على أن يصبح "رجالاً لكل الفصول" تمسكاً بالسلطة واحتكارها على الرغم من تبعات وعواقب كل ما حدث, دون أدنى اعتبار لتحمل مسؤوؤلية الرهانات الخاطئة, وزاد "طين" الحكم بلة ورياح ثورات الربيع العربي تنتقل من دولة إلى آخرى في المنطقة العربية مطيحة بعروش كان يظن أنها راسخة الأقدام آمنة من كل تهديد بزوالها, فإذا هي تتساقط كأوراق الخريف العجفاء.
تحدث كل هذه التطورات الخطيرة المنذرة, والطاقم الحاكم عاجز عن القيام بأية مبادرة ذات معنى أو ذات جدوى لمخاطبة هذه التحولات التي لن ينجو منها نظام مهما أدعى لنفسه الصمود والخلود ما لم يتدراك نفسه بتغيير جذري وإصلاح حقيقي وقبول شعبي, والمفارقة أن الخطوة التي كان منتظراً لها أن تشعل شمعة أمل, جاءت مخيبة إلى درجة تثير الرثاء باكثر مما تثير السخط بتشكيل حكومي حمل في إحشائه كل مظاهر الأزمة والعجز حتى عن إبداء أية نية جدية في تدارك السقوط نحو الهاوية.
لقد بادر الحادبون حتى بحت الأصوات, وأرهقت الأقلام, وسودت الصحف, وهي تحاول عبثاً على مدى الاشهر الماضية لفت إنتباه الطاقم الحاكم إلى ضرورة المسارعة إلى إتخاذ نهج جديد في التعاطي مع الأزمة الوطنية وهي تكاد تبلغ قمة نضجها, خشية أن تنفلت الأمور إلى فوضى لا يحمد عقباها, ولكن لا حياة لمن تنادي, وقد صمت آذان أصحاب الأمر عن سماع كل تحذير, والانتباه إلى كل نذير, وإن جاء من ناصح أمين, وكأنه قد سبق عليهم الكتاب وتسوقهم الأقدار إلى ما يحذرون.
وإن كان الطاقم الحاكم مصراً ألا يسمع أحداً, فليت الحكمة تدركه هذه المرة فيسمع نواب حزبه وليس غيرهم, والمفترض أنهم غير متهمين في نياتهم أيضاً, فما جرى في كواليس البرلمان وخارجه من مواقف قوية معلومة تبعث برسالة مهمة, ولعلها رسالة الفرصة الأخيرة, أن الطاقم الحاكم يجب أن يدرك قبل فوات الآوان أن إدارته للأمور لم تعد تقنع أحداً حتى أن نواب الحزب لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً, فما جرى يكشف بوضوح أن الهوة تزداد عمقاً ليس بين الحكم والمواطنين فحسب, بل تزداد اتساعاً بين الطبقة الحاكمة وبقية مكونات الحزب بمن فيهم نوابه, وما من صورة تجسد ذلك واقعاً أكثر مما حصل في شأن تمرير الموازنة, وسيكون من التنطع أن يخرج علينا أحداً ليزعم أن ذلك من قبيل التمرين الديمقراطي الساخن, فالممارسة الديمقراطية الحقيقية لا تمارس هكذا اعتباطاً بغير معايير موضوعية, وقد رأينا فيما أوردنا آنفاً كيف أن هذا البرلمان نفسه مرر تعديلات على الموازنة السابقة بين غمضة عين وانتباهتها دون أن يرف له جفن مع ما طفحت به من زيادات في الأسعار, وزيادة الأعباء على المواطنين. ويأتي هذه المرة ليعارضها بعد أن طفح الكيل. وما من شك أن في ذلك دلالة واضحة على حالة التململ والسخط الآخذ في الإزدياد في أوساط نخب وعامة أنصار المؤتمر الوطني وهم يرون يرون الطاقم الحاكم في أبلغ حالات التمترس والجمود والعجز عن مخاطبة التحديات الراهنة.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن جوهر ما أفصح عنه الجدل في البرلمان بشان الموازنة أن حقيقة الأمر لا تتعلق بسوء إدارة الاقتصاد فحسب, ولكنها في الواقع انعكاس لأزمة أعمق, أزمة سياسية بإمتياز حيث تدار الدولة من خارج مؤسساتها بلا حسيب ولا رقيب وبلا اعتبار لتقاليد إدارة الحكم المرعية, وعلة الاقتصاد السوداني اليوم أنه يدار وفق اعتبارات ومصالح ضيقة لطبقة متحكمة، وليس وفق رؤية وطنية مبصرة وحسابات اقتصادية سليمة لا تحتاج إلى عبقرية لإدراكها، ولذلك تتعثر محاولات النهوض الاقتصادي، ولذلك بلغ العجز مبلغه بوزارة المالية والاقتصاد الوطني على مر السنوات الماضية فلا هي قادرة على القيام بواجبها في ولايتها على المال العام، ولا هي تملك المبادرة في إدارة الاقتصاد الوطني، فكلاهما أصبح خارج سيطرتها وقد تكاثرت الوزارات والمؤسسات الحكومية التي تدار بأموال الدولة وكأنها ضياع خاصة بلا خشية من مساءلة في تمرد صريح لا يجد من يواجهه, ولذلك تحديداً انتشرت الفوضى والفساد المؤسسي اللذان ينبه إليهما تقرير المراجع العام كل عام، ولا يجد إلا رجع صدى صوته, وتعهدات حكومية جوفاء بمكافحته بلا إرادة حقيقية على طريقة دون كيشوت في محاربة طواحين الهواء.
لذلك سيكون الحديث عن الموازنة وعن تدهور الأوضاع الاقتصادية والبحث لها عن حلول ضرباً من اللغو, فأزمتنا ليست اقتصادية, بل سياسية بامتياز, فالاختيارات السياسية لقيادة الطاقم الحاكم وأسلوب إدارته لشؤون البلاد على هذا النحو المتخصص في إنتاج الأزمات المتلاحقة هو الذي يصنع هذا الوضع الاقتصادي المتردي, وما لم تعالج جذور هذه الأزمة السياسية فليس لنا ان نتوقع حلولاً اقتصادية سحرية, أو مخاطبة ناجعة لأزمتنا الوطنية.