أمي

 


 

 


alshiglini@gmail.com

صباح الخير يا قدّيستي الحلوة
صباح بلاده الأخضر
وأنجمها، وأنهرها، وكل شقيقها الأحمر
أنا وحدي..
ومني مقعدي يضجر
وأحزاني عصافيرٌ..
تفتش (بعد) عن بيدر
عرفت عواطف الإسمنت والخشب
عرفت حضارة التعب..
أيا أمي..
أنا الولد الذي أبحر
ولا زالت بخاطره
تعيش عروسة السكر
فكيف.. فكيف يا أمي
غدوت أباً..
ولم أكبر؟

الشاعر: نزار قباني


(1)
لم يكن يوم 8 مارس 1997، هو يوم رحيل الوالدة وحده، بل هو يوم عالمي لنصرة المرأة. لم أزل أذكر أنني عندما حضرت للبيت الكبير، وجدتها تجلس وسط أبنائها وبناتها. قلت لها أنني بصدد السفر في عطلة طويلة، ومنها سوف أبحث عن عمل مناسب. وقالت لي:
- ربنا يغطيك دنيا وآخرة ويفتح عليك أبواب رزقه.
أضمرت في نفسي مشاعر متضاربة وأنا أخفي ما أضمر، ما كان المولى مبديه في مستقبل أيامي، من أن الوطن يتخلى عن أبنائه وبناته، بفعل تنظيم لم يستطع أن يوطن مكره وبلوائه ، وسط شعب طيب الأعراف. ما عهدنا قسوة شديدة علينا كلنا كتلك، كأننا ارتكبنا مظلمة عظيمة. ولم يكن ما فعلناه إلا وفاء لوطن قدم الكثير لأبنائه وبناته، بيد مزارعيه ورعاته. بذلوا جهدهم لكي يكون أبناء وبنات الوطن شمساً في الأوطان المجاورة وكل الدنيا حولنا، وإلى كل الدروب الراحلة. كان أملنا ألا تغرب الشموس إلا ويكون الوطن قد تعافى، ونفض القشور العالقة بجسده.
خرجت من مطار الخرطوم بعد أن سلّمت سيارة الحكومة للمعقبين الذين تركتهم في العمل. غادرت في عطلة ستين يوماً. وتقلبنا في جمر الاغتراب، ولم يكن الحال إلا أقل سوء من المصائر التي خلفها حكام تنظيم الإخوان المسلمين في السودان.
قبل سفري بيوم حضرت لمكتب الصديق الراحل رجل البر والاحسان " عبد الرحمن البشير الريّح" في مكتبه الذي يشغل جزء خلفي من "مكتبة البشير الريح" بأم درمان. قادني سوداني من أصل هندي، يرتدي الجلباب السوداني قال لي: الحاج في مكتبه. كان هو أمين سر الشيخ "عبدالرحمن البشير". جلست في مكتبه المستطيل، يقابل مكتبه مجلس أضيافه الواسع وحمام ملحق.
كذّبني الشيخ في خبر سفري عندما صارحته. قال إنه ينتظر شراكتي في تصميمات كثيرة، رغب هو أن يشاركني فيها رؤاي، وكنا قد تناقشنا بمشروعه الكبير في طريق شمبات الأراضي إلى الحلفايا. والذي أسماه ( مشروع المؤلفة قلوبهم ). رغب أن يكون لأبناء وبنات جنوب السودان الذين تقطعت بهم السبل، أن يدرسوا اللغة العربية وأساسيات الدين الإسلامي وحرفة يختارونها من النجارة أو الحدادة أو رعي الأغنام والدواجن. ويضمن لهم وجبتين للتلاميذ. وكنت قد تداولت معه قبل ذلك أن يلحق دكاني عرض لأعمال النجارة والحدادة ، ليكون العمل الخيري دائري الاقتصاد ،يقوم المشروع بالصرف على العمل المتنوع من أجر البضائع المصنوعة، ويتوقف صرف الشيخ "عبدالرحمن على المنشأة. جلسنا سوياً وكان برفقتي من الأضياف الراحل الدكتور " أبوبكر عوض " يسأل عن تمويل الجامعة التي يدرس أصحابها عن بعد. كانت تلك فكرة جديدة في زمانها...
مضى الدهر بأحزانه، التقطت يد المنون خيار الناس، وبالجنوب لينهض لأبنائه موطناً وليته يلحق بالأقمار والأفلاك ..


(2)
مضت الأيام والسنوات، وكنا نحلم في كل مرة أن يكون أمر السودان هيناً لنعود. مثل الطيور التي لا تحتاج تصاريح للسفر. وفي كل يوم نمرّ نحس بأن التنظيم يشدد خناقه على الوطن وأبناءه البسطاء ويمتص رحيق الوطن ليبني وطناً للتنظيم الارهابي. جمع التنظيم أكثر أبنائه غير المؤهلين ليخرجوا لنا ببرنامج يرغب إعادة أسلمة أهل السودان من جديد. حتى الزعيم القذافي، سخر من برنامج الإسلاميين عند زيارته السودان، إذ قال إن السودانيين هم من أكثر الشعوب العربية إسلاماً، يملئون المساجد ويفيضون عليها كل صلاة جمعة، فلم أسلمة السودان من جديد ؟ّ!


(3)
بعد يوم من وفاة الوالدة، تجرأ الصديق " ابن عمر أحمد الطيب " أن يبلغني النبأ. لم تكن متوفرة تلك الأيام إلا التلفون العمومي يخاطب الخرطوم، وتنتظر أنت في صف المنتظرين. وكان أن خاطب صديقي تلفون المكتب الاستشاري الذي كنت أعمل لديه. تحادثنا طويلاً. وكنت أحس أن النبأ الذي يحمله في نفسه ثقيلاً على البوح، ينتظر هو أن يخفف وطأته. ودعاني بالبر والصلاة والرضى بكل ما ييسره المولى، وذكرني بالباقيات الصالحات. ولكنني فاجأته في المكالمة ,وقلت له ( إن والدتي قد توفت.. أليس كذلك). سمعت جهاز التلفون يسقط من يده. صمت زماناً .. ثم قال هو ما ذكرت لها الرحمة. كان المقاول ينتظرني لأشرف على صب الخرسانة المسلحة في موقع يبعد عشرون كيلومترا عن مكان المكتب.
لا مندوحة لمن يتجرع السم بيده، أن تهون عليه كل قساوة. وانطلقت إلى الموقع في سيارة تحملني وتحمل سموم الذكريات في قلبي. وقضيت في الموقع من العاشرة صباحاً وإلى السادسة مساء. شربت ثماني أكواب من القهوة التركية، بلا طعام. كان يوماً تاريخياً من البؤس والحزن وإحساس اليتم أتقلب في نيرانه.


(4)
لن يعوض فقد الوالدة شيء، فقد تجمعت الأحزان في غرف القلب، وانهمر الدمع كالدم منازل وأنهار. كانت الغيبة الكبرى فجيعة مرميٍّ والقدر رامٍ ماهر، يعرف كيف يصيب المقاتل في كبدها. كانت الدنيا كلها تسوى نظرة من الأم وابتسامة النفس مرآها، وليت الدهر يعود يوماً لأخبره بما ثقلت موازين العينان من البكاء، ووحشة أن تكون بعيداً لا تشارك الأقربين. ونشرت سحائب قلبي علي خفاف تعجل حزني وما بي شوق، لن يعود الدهر وإن صفا عودها الطري ساعة الابتسام والأفراح. كانت حصني الذي أتزود به من جور الزمان. إني رضعت الطيبة من أكف ضراعتها، لقد كانت سعد أيامي وهنائي الذي لفها الدهر في جوف بطنه ورحل.
مضى الدهر، ورحلوا جميعاً إلى الغيبة الكبرى، فأشدد عصب القلب، لتغني أوتاره لحن الحضور في ظلال الغياب السود. لم تزل ذكراها تطيب بها التذكر، كأجراس معبد الشوق. عيدٌ بها يحفل القلب يقفز من حبها، وليس النسيان دواء، بل داوني بالتي هي الداء.

عبدالله الشقليني
6 مارس 2019

 

آراء