أنجيلا ميركل … وداعًا يا أيقونة السياسة: أيتعلم سياسيو العالم من نهجها وسيرتها النيّرة …؟!

 


 

 

لا أعرف يا سادتي من أين أبدأ مقالي لأتحدث عن هذه الأيقونة التي تركت مكانها في قلب البوندستاق قبيل أيام وتم تكريمها على أكمل وجه. أمرأه يدعي بعضنا أنها فولاذية القلب والجسد، لكنها يا سادتي سيدة وإنسانة من لحم ودم. وفوق هذا وذاك عالمة، وعارفة وهالة من رحمة بكل ما تحمل هذه الكلمات من معان. شاهدت قبيل أيام حفل وداعها من قبل القوات المسلحة الألمانية: يا للبهاء ويا للألق. والمدهش أن بين كل هذه الأنوار والبهرجة وقفت هذه السيدة في تواضع الحكماء والعارفين العلماء، آمنة بين الآمنين. ترحل أنجيلا وقد ابيضت سريرتها وهي مطمئنة لأنها استطاعت يا سادتي أن تجتاز كل المحن والصعوبات والكوارث اقتصادية، سياسية أو اجتماعية بنجاح منقطع النظير.
من كان يحسب يا سادتي أن فتاة بسيطة متواضعة "مقتولة الظل كما نقول" من ألمانيا الشرقية أن تمطي صهوة جواد السياسة لأعظم بلدان العالم على الإطلاق. والتاريخ يقول إنها عملت كنادلة في حانة من الحانات لتنفق على دراستها في كلية الفيزياء، بذلكم البلد الذي تبنى مذهب الشيوعية ووطدها إلى أبعد الحدود محترفًا متفننا في اخضاع ضمائر البشر وكسر العزائم والهمم. نعم نشأت في هذه البيئة الظالمة والحالكة بظلم حكامها وأنظمتها البغيضة كمؤسسة الإشتازي الماكرة. لكن كل ذلك لم يبطرها أن تمتلك زمام حياتها البسيطة فانتقلت لغرض العلم إلى شقة بائسة في برلين، فلم يكن يتوقع أحد وصولها إلى قمة الأولمب ولأعالي هذا الهرم وإلى عطارد السياسة العالمية. إن حنكتها وتدبيرها وفطنتها في مجال السياسة ستكون دون أدنى شك منهجا يلقن للكل في الجامعات والمعاهد العليا في مجال العلوم السياسية وسوف يتحدث العالم عنها حتى بعد الرحيل، فهي في الحقيقة باقية بأعمالها الثرة وقد كتبت اسمها على صحف التاريخ بمداد من نور. ويبقى طعم مرّ المذاق في هذا الشأن، لا سيما أن كل حكمائنا وعلمائنا وأدباءنا من ذوي العيار الثقيل لا يُعترف بهم ولا يبجلون إلا بعد أن يرحلوا. وإن قولة أهلنا بالسودان "إن شاء الله ما يجي يوم شكرك"، تقال إما عند الرحيل الأبديّ أو عند الوداع. ونحن أمّة لا تبجل عظماءها إلا بعد أن يرحلوا عنها. وهاهوذا قد رحل عنّا قبيل بضع أيّام موسيقار السودان العظيم عبد الكريم الكابلي، وأرى الناس بعد رحيله قد تهافتوا شكره والثناء عليه وعلى أعماله ولكنه للأسف رحل وهو باق في قلوبنا، رحل غريب الوجه واليد واللسان، ودفن في بلاد الغربة دون الأهل والأحباب ودون أن يعطر قبره بماء النيل الطاهر، غادر دنيانا في بلاد تموت من البرد حيتانها – على حد قول الأديب الطيب صالح، بلاد احترمته واحتوته وأمّنت لها العيشة الكريمة، من حرية وسلام وعدالة، لكن بلاده للأسف لا. لكن تلك قصة أخرى.
لقد كتبت الصحفية الألمانية باتريشيا ليسنير كراوس في كتاب صدر مؤخرا لها يتحدث عن السيرة الذاتية لأول مستشارة ألمانية وحمل عنوان: "ميركل.. السلطة.. السياسة" كتبت أن أول مستشارة في تاريخ ألمانيا عملت أثناء دراستها الفيزياء كنادلة في إحدى الحانات. وكانت ميركل خلال مرحلة المراهقة الطالبة الأولى على مدرستها وكانت ترغب في أن تصبح معلمة، لكن هذا الحلم تبدد بعدما اعتبرت الحكومة الشيوعية أسرتها مشتبها بها. لذلك فقد اضطرت لدراسة الفيزياء ومارست عملا لبعض الوقت في حانة". نشأت في بيئة دينية فكان أبوها قسا، وتعلمت منه أي الرحمة والرفق ببني آدم. لذلك فليس من الغريب أنها قالت قولتها الشهيرة عندما أتت مئات الآلاف بل الملايين من أولئك الذين رمت بها ألسنة الحرب والعوذ، ليطرقوا بابها حيئذ قالت: سوف نقدر على مجابهة كل الصعاب وكم من مرّة اجزتنا كل العقبات في سبيل الإنسانية. مستطردة: أتودون أن أقول لها "لا مكان عندنا لكم؟".
عندما سُئلت عن عملها كنادلة أثناء فترة دراستها فأجابت بكل تواضع وبساطة بالآتي: "نعم، عملت نادلة في حانة... كنت أحصل على أجر يتراوج بين 20 و30 فينينج عن كل مشروب أبيعه وهذا منحني دخلا اضافيا تراوح بين 20 و30 ماركا في الأسبوع. هذا ساهم الى حد كبير في دفع الإيجار." وأضافت ميركل التي درست في لايبزيج من عام 1973 وحتى عام 1978 "مع الأخذ بعين الاعتبار أن أجري كان 250 ماركا /قرابة 15 دولارا/ في الشهر.. فقد كان هذا الدخل الاضافي هام للغاية." وحصلت ميركل على درجة الدكتوراة في برلين الشرقية عام 1986 تحت اشراف البرفسور يواكيم زاور الذي أصبح فيما بعد زوجها الثاني. وتحتفظ ميركل البالغة من العمر واحد وخمسين ربيعا بكثير من التفاصيل الغامضة حول حياتها الخاصة حتى بعد صعودها المفاجئ من متحدثة باسم اخر حكومة في المانيا الشرقية في عام 1990 الى زعيمة الحزب المحافظ في عام 2000 وصولا الى المستشارية في نوفمبر الماضي. وتم بشكل جيد توثيق التفاصيل الأساسية لسيرة ميركل الذاتية منذ تركها الحياة الأكاديمية في برلين الشرقية وانخراطها في العمل السياسي خلال الايام المثيرة التي شهدت توحيد ألمانيا في عام 1990. لكن لم يتكشف سوى القليل عن حياتها قبل ذلك. ويصرح موقع الدويشه فيله في شأن هذا المرجع التاريخي ببعض المحطات التي هامة جدًا في تاريخ الخاصة وفي نهج السياسة العالمية وبتاريخ ألمانيا المتحدة على حد سواء.
"ويشمل الكتاب الذي كتبته الصحفية التي تعرف ميركل منذ عام 1990 لمحات عن زعماء اخرين مثل الزعيمة الأيرلندية ماري ماكاليس لكنه يحتوي أيضا على حكايات مثيرة حول ماضي ميركل. وتصف الصحفية كيف ان ميركل التي كانت تدعى أنغيلا كاشنر لدى ولادتها في هامبورج انتقلت الى الشرق الشيوعي بعد ولادتها بستة أسابيع. وكان والدها الذي عمل قسا قدم الى الغرب من الشرق ولكن عمله أعاده الى الشرق مرة اخرى خلال عهد ما قبل بناء سور برلين حيث كانت مثل تلك الانتقالات عادية. وخلال طفولتها تعلمت انجيلا بسرعة كيف تتحدث ولكنها استغرقت وقتا أطول لتعلم المشي. وكانت تنزع الى التسلط على أخيها الاصغر. وكتبت ليسنيركراوس تقول: "حولت أخيها الى ساع... كانت تصدر الأوامر. وكان يأتي لها بكل ما تطلبه." وظلت ميركل لفترة طويلة تخشى هبوط الدرج أو المنحدرات. وعلقت ميركل على ذلك بالقول: "كنت اتحول الى حمقاء للغاية عندما يتعلق الامر بالتحرك... اضطر والداي أن يشرحا لي كيف اهبط منحدرا.. وكان على أن أفكر في داخلي في الأشياء التي يمكن للشخص العادي أن يفعلها بشكل تلقائي وأتمرن عليها."

اقتباس (وداعًا ماما ميركل ... د. محمد بدوي مصطفى)
وداعا ماما ميركل (١-٢)
16 عاما في صدارة السياسة العالمية

إنسانة بكل ما تحمل الكلمة من معان:
بينما يطلق الغالبية عليها لقب المرأة الحديدية أجد فيها شخص الإنسانة الدؤوبة والصديقة الصادقة الصدوقة في عملها، الأم الوفية وهكذا وصفها من عمل معها أو سكن بقربها أو جمعته سبيل الحياة الكثيرة بها. حقيقة يا سادتي ومنذ أن وطأت قدماها بساط البندستاك كل ما يهمها هو السير قدمًا بوطنها وأهلها إلى آفاق النجاح والتقدم بين الأمم. نعم، استطاعت أن تسلك طريقها بثبات وقوة جأش في مجتمع سياسي كان لغاية تلك الفترة حكرًا للرجال الأقوياء مثال فيلي برانت، هيلموت شميت، هلموت كول، وجيرهارت شرودر التي استطاعت في انتخابات عام ٢٠٠٥ من التغلب عليه بجدارة وكانت هي الانطلاقة لعهدها الذي سيشهد له التاريخ بالنجاح والتقدم، ذلك رغم بعض العفوات والاخفاقات التي صاحبته. ومقارنة برؤساء آخرين في العالم تتحصل أنجيلا على ماهية لا تزيد عن ٣٥ ألف يورو في الشهر. هذا يذكرني برئيس السودان المخلوع الذي كان يطلب ٢٠ مليون دولار في الشهر، لكن السؤال الذي يطرح نفسه مقابل ماذا؟ دمار واحتكار واحتقار لكل ممتلكات الشعب، فأين هذا كرئيس من السيدة أنجلا، والأمثلة في هذا الصدد تمتد على صحراء الوطن العربي السياسية وحدث ولا حرج.
لن تنسى ألمانيا في العام الماضي ذاك المشهد: حيث ضجت قاعة مؤتمر الحزب المسيحي الديمقراطي المنعقد في هامبورغ حوالي عشر دقائق متواصلة في عاصفة من التصفيق لم تشهد لها مثيل. وقد سكب الكثيرون دموع الفراق واللوعة لمستشارة سطرت اسمها بأحرف من نور على صفحات تاريخ بلدها العريق، ولم تستطع هي تمالك نفسها حيث زرفت هي أيضا دموع تعكس شكرها لمن وقف بجانبها كل هذه السنين الطوال ولم كانوا شاكرين لعملها ودأبها طيلة فترة حكمها. تأثرت ميركل بالمشهد، بعد أن ألقت آخر كلمة لها كرئيسة للحزب. ميركل ستبقى في منصب المستشارة إلى أن يشاء الله وتتكون الحكومة الجديدة.
ولابد لنا بالرجوع إلى الوراء قليلًا لنذكر بالبديات، ففي 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2005 انتخب البوندستاغ أنجيلا ميركل لتكون أول سيدة تشغل منصب المستشار الاتحادي في تاريخ ألمانيا. في انتخابات 26 أيلول/سبتمبر 2021 سوف تخرج من التنافس في الانتخابات، بعد 16 عاما على رأس الحكومة الألمانية الاتحادية. في ألمانيا عادة ما يحدد الحزب الأقوى ضمن الائتلاف مرشحه أو مرشحته لرئاسة الحكومة، حيث يقوم البرلمان بالتصويت عليه أو عليها بأغلبية بسيطة. الأحزاب الأكبر في البلاد أعلنت الآن عن مرشحيها للانتخابات ومن المتوقع أن يكون أحد المرشحين لمنصب المستشار هو خليفة أنجيلا ميركل على رأس الحكومة الاتحادية. نستعرض المرشحين الذين اختارتهم أحزابهم على رأس ورقتها الانتخابية بالتسلسل.
نرى الآن أن الحقبة الرابعة على التوالي لعمل المستشارة أنجيلا ميركل توشك أن تكون قاب قوسين أو أدنى وسوف تنتهي بتكوين ائتلاف ثلاثي بين الأحزاب التي أحرزت من النتائج ما يؤهلها لقيادة هذه الدولة الرائعة والموتور الاقتصادي في قلب أوروبا النابض. كلنا رأى كيف تصدرت هذه السيدة عناوين الصحف العالمية التي لا تزال تمدح في عملها الدؤوب وفي سني تأسيسها لصرح اقتصادي جبار حيث تُشبّه بأيقونة العمل الإنساني المتمثل في الأم الكاثوليكية المشهورة تيريزا وقلّ ما نجد خارج ألمانيا أصوات ناقدة تسوق بعض الأمثلة المتمثلة في هيمنتها وتسلطها طيلة هذه الفترة وتذهب بعض هذه الأصوات اللاذعة بمقارنتها مع بهتلر.

من هم المرشحون الذين يريدون خلافة ماما ميركل:
لم تكتمل المشاورات بين الأحزاب الألمانية التي ترنو إلى الائتلاف بينها. وكانت هذه المرة الأولى في تاريخ السياسة الألمانية أن تكون الكلمة العليا في اختيار المستشار لحزبي الخضر والأحرار الديمقراطي. ودعونا نلقي نظرة لمن سيكون لهم الأمر والنهي في الفترة المقبلة كرؤساء للأحزاب الفاعلة بألمانيا:

أرمين لاشيت (CDU/SCU)
هو الرئيس الحالي لأكبر ولاية اتحادية بألمانيا انطلاقًا من عدد السكان، نوردراين-فيستفالن، وهو المرشح عن الحزبين الشقيقين CDU و SCU. بينما يتواجد حزب CDU في جميع الأراضي الألمانية باستثناء بافاريا، ينحصر تواجد CSU في هذه الولاية فقط: حيث يشارك هذا الحزب بالانتخابات في هذه الولاية بالتحديد. لاشيت البالغ من العمر 59 عاما يعتبر من رجال السياسية الذين عرفوا بالحس التصالحي والتوازن. عمل والده طيلة حياته في المناجم، وكانت والدته ربّة بيت وهذه البيئة تعكس انتماءه للطبقة الوسطى من العمال. متزوج من سوزان لاشيت التي تعمل كبائعة كتب في المكتبات. يمكن القول بأنه سياسيا يتبع ذات الأسلوب الذي تتبعه أنجيلا ميركل، مع تركيز كبير على الاتحاد الأوروبي. وقد كان عضوا في البرلمان الأوروبي من 1999 حتى 2005.

أولاف شولتس (SPD)
هو وزير المالية ونائب المستشارة في حكومة ميركل ويبلغ من العمر 62 عاما وقد تم اختياره في آب/أغسطس 2020 من قبل حزبه، ليكون أول المرشحين الذين اختارهم أحد الأحزاب الكبيرة لتمثيله وقيادة الانتخابات والتي نجح فيه حزبه في احراز نتيجة ولأول مرّة تفوق تلك التي أحرزها الحزب المسيحي الديمقراطي. وهو متزوج من السياسية البارزة في حزب SPD، بريتا إرنست، وهي وزير التعليم والشباب والرياضة في ولاية براندنبورغ منذ 2017. عمل قبل أن يتولى منصب وزير المالية كعمدة مدينة هامبورغ ولقد أثبت خلال أزمة كورونا قدرته وتميزه في إدارة الأزمات. سياسيا ينمتي منذ 1975 للجناح المحافظ في حزب SPD

أنالينا بيربوك (الخضر)
البرلمانية ابنة الواحدة والأربعين، العضو في البوندستاغ (منذ 2013) تترأس حزب الخضر منذ 2018 برئاسة ثنائية إلى جانب وزير البيئة السابق في ولاية شليسفيغ-هولشتاين، روبرت هابيك. وهي أم لبنتين، ومتزوجة من الاستشاري السياسي دانييل هوليفلايش. إنها المرة الأولى على الإطلاق التي يسمي فيها حزب الخضر مرشحا لمنصب المستشار، كما أن بيربوك هي ثاني سيدة تترشح لمنصب المستشار في تاريخ الجمهورية الاتحادية، بعد أنجيلا ميركل. على الصعيد السياسي تعتبر من المعتدلين وتمثل الجناح البورجوازي في حزب الخضر.

ميركل وكارثة الحرب في سوريا والسرديات:
لقد اهتم الإعلام العربي بالمستشارة الألمانية ميركل وبالأخص لقولتها الشهيرة ("سنجتاز هذه العقبة كما اجتزنا كل العقبات من قبل") عندما وقف مئات الآلاف من النازحين على أبواب بلدها ناشدين الدخول إلى جنة الخلد الألماني. وكما نعلم لقد اجتاحت في عام ٢٠١٦ أوروبا وبالأخص ألمانيا تلك الموجة العارمة والتي حملت معها ملايين من لاجئ الحرب لا سيما في سوريا والعراق ولحسن الحظ استطاعت ألمانيا من احتوائهم وجعلوا منها موطنهم الثاني وهانحنذا يا سادتي نقف على الكثير من السير الذاتية التي لم تأمل فيها الأحزاب المتطرفة النجاح لهؤلاء وأولئك ولكن رغم عن ذلك نجح الكثيرين وبلغوا برّ الأمان بأسرهم وأهليهم والفضل يرجع للمستشارة التي فتحت لهم الأبواب على مصراعيها وعاملتهم معالمة المثل في كل الحقوق والواجبات كما الألمان وفي بعض المرّات حقيقة أحسن من ذلك.
من جهة أخرى كان فضولي كبيرًا عندما قرأت رواية ماما ميركل حيث تبادر لزهني كيف جاءت الفكرة للكاتب عماد البليك ليشير لهذه المرأة الحديدية. فسألته وهاكم اقتباس حديثنا في حور بعنوان ("معمار الرواية وبناؤها – الجزء ٦). سألته قائلاً:
اقتباس:
إنّ كارثة الحرب في سوريا وتشرد ابناء الأمّة العربية والإسلامية في بقاع الأرض المختلفة جعلك تتفاعل معها بعدّة أعمال أدبية، من بينها رواية “ماما ميركل” والتي تحمل اسم المستشارة الألمانية انجيلا ميركل، ما هي دوافع كتابة هذه الرواية بالأساس وكيف نشأت الفكرة وتبلورت؟
>الرواية تشكلت عندي من فلسفة الهجرة عبر التاريخ البشري، وفي الفصل الأول يتكلم الراوي العليم أو الكاتب أو الراوي الافتراضي – سمه بأي شكل كان – عن هذه الفكرة، كيف للهجرة أن تعيد بناء العالم الإنساني وتصوغ قوالب المجتمعات، سواء تمت بشكل جماعي أو أفراد متناثرين أو تمت بغزوات وحروب أو نتاج مجاعات أو جدب أو الخ.. حيث تختلف الأسباب والظروف من سياسية لاقتصادية وغيرهما. فالتاريخ البشري سيبدو إذن محمولا على هذا الإطار الذي تحركت منه لتطبيقه على لحظة معاصرة هي عالم ما بعد ما عرف بالربيع العربي في البلدان العربية، حيث حصلت حالة من الهيجان والتثوير التي ظن العرب انها لحظة عظيمة للتحول وبناء فجر جديد من التحرر، ثم اكتشفوا أن ذلك كان أضغاث أحلام وكوابيس مفزعة لا غير، لكن حقيقة المشكلة أبعد من ذلك بدأت منذ أحداث سبتمبر في الوسط الآسيوي في أفغانستان وهذه المنطقة التي اشتغلت فيها الحرب، كذلك في بلدان أفريقية، كل ذلك النسيج عملت على ربطه عبر فكرة هذا النص، حيث أن البطل الحقيقي فيه هو الفكرة نفسها، لم أكن مهتما ببناء أبطال مستمرين في الرواية كلها أو قصة لها الشكل الكلاسيكي، وهذا شكّل إرباكا لبعض من قرأوا الرواية باعتبار أنها مجموعة قصص أو متواليات قصصية أو ثمة من قال بالمعنى الواضح أنها “مشتتة”، وهذا إشكال يتعلق بما شرحته سابقا حول أزمة القراءة وما يحيط بها من إشكاليات التخييل الجديد وفهم السرديات والتاريخ الخ، من هذه القضايا التي استفضت فيها.
< هل هي فقط لفتة بطولية لما قامت به هذه المستشارة التي جاءت حينها بمقولتها الجبّارة “سوف نقدر على استيعاب كل هذه الحشود” وبقيت هذه المقولة تاريخا في ذاكرتنا الجمعية، أم أنّه شيء من مؤازرة لأولئك الذين تركوا وراءهم الأوطان ورحلوا دون وجهة يعلموها، منهم من بلغ ضالته المنشودة ووصل إلى برّ الأمان ومنهم من قضى نحبه.
> أنا لست مهتما بميركل بالدرجة الكبيرة، فهي أداة في محيط تاريخ ثقافي ومعرفي وسياسي ومعين، كان لابد لهذا الفعل أن يتم إنتاجه بشكل ما، جراء المتغير على أرض الواقع الجيوسياسي في البلدان العربية، الذي جاء بتأثيره المباشر على الواقع المتوسطي والأوروبي. ميركل لم تكن إلا ثمة استعارة، ليس في الأمر أي احتفاء ببطولة أو استثناء إذن، وهي داخل العمل الروائي تصبح امرأة أخرى ليست بالضرورة هي، تلك التي نعرفها في الواقع البراني. أي انها تدخل في مفهوم “السردية” الذي يعني إعادة إنتاج الأشخاص بتصورات متعددة تجعلهم يبدون بألوان جديدة وأفكار مختلفة، بالتالي فالرواية بقدر ما تتقاطع مع الواقع والتاريخ فهي لا تحكي عنه أو توثقه، فهي ليست عملا وثائقيا أو فيلما وثائقيا كما تفعل القنوات الفضائية عندما تنتج لك فيلما عن الهجرة عبر المتوسط، حيث يتم تسطيح الأمور بشكل كبير، فالناس نعم تحتاج إلى القصة أو الحكاية لكنها لا ترغب في أن تخبرها بما تعرفه، هي تريد تصورك أنت، مقالك ومفادك الجديد، الذي لن ينتج إلا عبر وعيك الذاتي، أيضا فلسفتك الخاصة باتجاه الواقع المعين.
فيما يتعلق بموضوع المؤازرة، ممكن للأديب أو الفنان أن يمارس دور السياسي وأن يصدرا بيانا يمهره بتوقيعه بأنه يتضامن مع الفعل الفلاني أو الشخص المعين، لكن هذا لن يجعله فنانا، ما يصنعه منه فنانا أو أديبا أن يعرف كيف يصنع فنه، هنا التحدي الأساسي، واليوم لدينا مشكلة “عويصة” في الخلط بين الاثنين، إذ أن بعض الكتّاب والأدباء والفنانين يأخذون دورهم ليس من خلال منتجهم الإبداعي أو تصوراتهم الجمالية الافتراضية للعالم، يعني كتبهم، بل من خلال البيانات المدبجة التي يصدرونها للتماس مع الواقع السياسي والاقتصادي البراني، هم هنا يسقطون عن الدور، ويصبحون ذيلا للتسلط ليس إلا، ويهينون مهمة الأدب في كونه فضاء أو حقل لذاته، إذا أردت أن تكون سياسيا فلتذهب إلى البرلمان وتقول رأيك – هذا إذا كان لك برلمان من الأساس! إذن فالمؤازرة هي شيء صميمي، ينبغي أن يكون مزروعا في الأساس بجوهر الفنان وقلبه، إذا لم يكن لديه هذا الحس أو هذه الخاصية، فهو يسقط من البداية، كما لا يحتاج – كما أوضحت – أن يصرخ خارج النص، بما يجب أن يقوله داخله، من يقرأ العمل سوف يفهم إلى أي حد كنت إنسانيا أنت وموضوعيا أم لا، دون أن يكون لك أي دور “احتيالي” آخر يحوّل خطابك إلى أداء تهريجي.
(يتبع)

وداعاً ماما ميركل (٢-٢)
الحصّة الأخيرة في السياسة العالمية

امرأة كهالة من أنوار الحكمة:
بعد أن أسدلت أشعة شمس الغروب أستارها على مدينة كونستانس الحالمة، وتحت رذاذ المطر الهادئ السائل بسلسبيله على أخضر المراعي السندسية حول وعلى الجبال التي تشرئب أمامنا وكأنها تنادينا قائلة ... لا تخافوا فأنا هنا، والدنيا حتمًا بخير. حينها جلست مع أسرتي أشاهد إحدى إطلاالتها الأخيرة في حفل بالعيد الوطني لائتلاف الألمانيتين. وقفت كعادتها في تواضع العلماء والحكماء والكرماء. تحدثت دون عادتها في هذه المرّة وبعد ستة عشر عاماً عن تجربتها الشخصية. حقيقة لم يحدث أن تحدثت في أي من خطاباتها السابقة وفي غضون فترة حكمها عن نفسها، أو عن آمالها الشخصية، خصوصياتها، أو حتى عما يضايقها كإنسانة أو مواطنة. لكن كما ذكرت سلفًا وعلى غير عادتها طفقت في خطابها الأخير تسرد العبر وتسوق الحكم وتحكي مآثر التاريخ التي علّمها وعلمته كيف تعبّد الشعوب مسيرتها وكيف تبنى آمالها وأحلامها وحتى إن كانت وقتئذ صعبة المنال وبعيدة بعد الثريا. إنّه خطاب يا سادتي يمثل أمامي كحصة في السياسة العالمية ودرس في أسلوبية الديمقراطية الحقة يجب أن يعيه كل الرؤساء وكل من يقوم على أمور السياسة في العالم قاطبة. أقول لمن يتناحر على الكراسي في بلادنا وحول العالم ولمن يصارع ويحارب ويعافر من أجل أن يجني الثمار التي اتاحها دأب الطبقة العاملة وعرق الشعوب، ولكي يقف في أول الصفوف المشرئبة نحو الجاة والسلطان، بطبيعة الحال من أجل نفسه وأسرته وعشيرته، قف يا هذا برهة مع نفسك وتأمل بإمعان ما فعلته هذه المرأة، قف وادرس وانهل من معينها وما هي، كما تعتقد جزافًا، إلا نصفك، وهاك يا هذا ويا من يجري ويركض وراء "الديمو-كراسي" سيرة سيدة كتبتها هي بمداد من نور، عزفت بعد أربع فترات عن الحكم الديموقراطي بنفسها لتقول كفاني كفى، وسوف أسعد فيما بعد بساعة نوم أكثر وبقراءة كتاب في ركن من أركان شقتي المتواضعة، دون زخم السياسة ودون لخمتها وكبرياء أهلها الذين يجرون وراءها ويحسبون أنهم في سباق سرمدي معها، لكنها، أي السياسة، لعبة ماكرة، وأمّ الدهاء، لن ينجح في أمرها إلى من سلك سبيلها بصدق وأمانة، ناكرًا للذات، كما ماما ميركل، وليس في قلبه وأنفاسه إلا وطن يكنّ له كل الحب ويحمل له في نفسه كل الاحترام، وربّ كريم يرقبه من علٍ. هاكم يا سادتي بعض من قليل الدروس التي سيحكيها التاريخ وسوف تلوكها الألسن دون لأي يذكر، ذلك يلخص مسيرة امرأة دخلت عالم السياسة من أوسع أبوابه بيد أنها أتت من أسرة متوسطة، كان الأب قس، والأم ربة منزل، وعاشت حوالي ٣٥ سنة من عمرها تحت تسلط الحكم الأنارشي لدولة ألمانيا الشرقية وحزبها الحاكم آنذاك. وكل ذلك لم يزدها إلا قوة حيث أشعل قيم الحرية والعدالة والسلام في فؤادها فاضطرم بها، حتى صارت أولى من وهب نفسه لهذه القيم السامية التي صارت بفضلها حقيقة ماثلة في دولة ألمانيا العظمى التي احتوت ملايين اللاجئين من الدول الإسلامية والعربية بمقولة واحدة لماما ميركل، مقولة انفتحت من إثرها أبواب بلادها كما مقولة افتح يا سمسم السحرية، بينما أوصدت الكثير من البلدان أبوابها أمامهم فسلك هؤلاء سبيلهم عبر أمواج المتوسط وبنادق عساكر الحدود وسيرًا على الأقدام حتى أعتاب بلاد ماما ميركل حينها قالت لهم: إننا انجزنا فيما قبل الكثير الوفير وسوف نحتوي كل هذه الصعاب فأهلاً بكم وسهلاً.

درس ميركليّ فهلا استمعنا القول من هذه السيدة؟
وقفت على المنبر لتعيد ذكرى التحام الألمانيتين، تلك الذكرى الأليمة التي أرقت الشعبين وعاست بينمها فسادًا وقسمة وافتراقَا. لقد تذكرت في جلستي الحالمة تلك في صحن بيتي وقفة رئيس الوزراء السابق ڤيلي برانت أمام حائط برلين وكنت حينها حديث العهد بألمانيا أدرس في جامعتها حيث ارتجل القول مصرحًا بمقولته الشهيرة التي انطبعت في ذاكرة الشعبين الجمعية: (اليوم ينمو معًا ما ينتمي لبعضه البعض - بمعنى: اليوم يلتئم جرح الجسم الذي قسمه التاريخ ليعود جسدًا واحدًا بعد افتراق). نعود لوقفة ماما ميركل في تلك الكنيسة حيث ألقت هي في آخر وقفاتها كلمتها العصماء وأحسب أنها دخلت بها سلفًا صفحات التاريخ، واعتبرها درسًا للشعوب والأمم، نعم درسًا من العيار الثقيل. فهاكم بعض نفحاته.
إن عيدنا الوطني، يوم الوحدة الألمانية هذا، لم يمض عليه وقت طويل وهو ثابت في أعماق تاريخنا. هذا اليوم يذكرنا بشيء شهده معظمنا بوعي وهو اليوم الذي غير مسار حياتنا منذ 31 عامًا. إن الثالث من شهر أكتوبر 1990 يرمز إلى إعادة توحيد بلادنا في سلام وحرية. هذه الحرية لم تقع على عاتقنا بمحض الصدفة، بل تم اكتسابها بالقوة. وقد أصبحت دولتنا التي نحتفل بها اليوم موحّدة لأن هناك أشخاصًا في ألمانيا الديمقراطية خاطروا بكل شيء من أجل حقوقهم وحريتهم ومن أجل مجتمع التعددية. نحن مدينون كثيرًا لمن تجرؤا ونزوا إلى الشوارع بشجاعة وأمل. ويجب ألا ننسى أبدًا أنه كان من الممكن أن يكون الأمر مختلفًا تمامًا. أي شخص وقف في ذلك الوقت، وتحدث وتظاهر من أجل الحقوق الديمقراطية، لم يكن متأكداً من أن الأمر يستحق العناء، وأن الثورة ستنجح، وأن يعاقب عليها بمرارة. إنها شجاعة حقيقية. ويجب أيضًا ألا ننسى أبدًا أن وحدة ألمانيا لم تكن متوقعة دون التزام جيراننا في أوروبا الوسطى والشرقية. سواء في بولندا، المجر، تشيكوسلوفاكيا - في كل مكان كان هناك أناس تغلبوا على انقسام أوروبا بالتزامهم بالحرية والمشاركة الديمقراطية. أدى هذا الجهد المشترك أيضًا إلى قيام الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت بالتغلب على الحرب الباردة. لن ننسى دعم شركائنا في الغرب - وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا العظمى. لقد وضعوا ثقتهم في ألمانيا الموحدة التي لم تكن بأي حال من الأحوال بديهية. تم بناء هذه الثقة على مدى عقود - أولاً وقبل كل شيء من قبل رجال الدولة مثل كونراد أديناور، ڤيلي براندت، هيلموت كول؛ وفي هذه المدينة أريد أيضًا تسمية هانز ديتريش جينشر. اليوم يمكننا أن نتمتع بثمار كل هذه الجهود، الفرص التي تأتي مع حريتنا الديمقراطية في بلدنا الموحد.
بالنسبة لي شخصياً، من لا يزال يعرف تجربة جدار برلين، وديكتاتورية الحوار الاستراتيجي، والخوف من جهاز التجسس الأمني للدولة، ونقص الحرية والضيق، ونهاية الانقسام والديمقراطية، لا يزال مرارًا وتكرارًا أمرًا مميزًا - لأنه أعلم أنها قد تحققت وليس أقلها إنه يجب عيش الديمقراطية وتحقيقها وحمايتها. هي بحاجة إلينا بالطريقة التي نحتاجها بها. الديمقراطية ليست موجودة فقط، علينا أن نعمل من أجلها مرارًا وتكرارًا، كل يوم. ومع ذلك، أخشى أحيانًا أن نتعامل مع الإنجازات الديمقراطية باستخفاف وعدم اكتراث، كما لو لم يكن علينا فعل أي شيء من أجلها، كما لو كان من الممكن نقلها من جيل إلى جيل كأمر طبيعي. لكن خلال هذا الوقت، نشهد المزيد والمزيد من الهجمات على القيم التي لا تقل قيمة عن حرية الصحافة. نحن نشهد جمهوراً يتم عبره تأجيج الاستياء والكراهية بشكل ديماغوجي بالأكاذيب والمعلومات المضللة، دون كبح ودون خجل. لا يتم التشهير بالأفراد أو الجماعات فحسب، ولا يتم مهاجمة الأشخاص فقط بسبب أصلهم أو مظهرهم أو معتقداتهم - وهذا هو المكان الذي يتم فيه الهجوم على الديمقراطية. لذلك فهو في الحقيقة اختبار خطير لقوة تماسكنا الاجتماعي.
(وتحدث عن الفظاظة اللفظية في التعامل المتبادل بين الأشخاص وضرورة نبذها.)
لذلك، في يوم مثل هذا اليوم، يجب علينا أن نسأل أنفسنا بصدق وأمانة كيف نتعامل مع بعضنا البعض، وكم الاحترام المتبادل الذي ننقله وكيف نحمي الديمقراطية من أولئك الذين يتجاهلونها ويحتقرونها. وكيف يمكننا مواجهة التحيز والجهل - من خلال الاستعداد للانفتاح على الآخرين وعلى وجهات نظرهم وخبراتهم. هذا هو ما يميز الديمقراطية: أنها تسمح وتحمي المعتقدات الفردية وخطط الحياة. يمكننا أن نكون مختلفين، ويمكننا تطوير أفكارنا عن ماهية السعادة الحقيقية بطريقة جيدة، طالما أنها تحدث على أساس نظامنا الدستوري. إن التنوع والاختلاف لا يشكلان تهديدا للديمقراطية. لكن على العكس من ذلك. فالتنوع والاختلاف هما تعبير صادق عن حرية العيش. وهذا ينطبق بشكل أكبر على دولتنا الموحدة.
٭ بالنسبة لنا نحن الأوروبيون، هذا يعني أن لدينا المزيد من المسؤولية - عن أمننا، ولكن أيضًا عن الاستقرار في المناطق المجاورة. الحروب والأزمات والصراعات في البلقان وأفغانستان وأفريقيا تجعل من الضروري لألمانيا الموحدة إعادة تعريف، وتحمل المسؤولية على الصعيد الدولي.
٭ إن الشعور بالعمل الجماعي هو الذي يؤدي إلى الرغبة في التغيير والتضامن. كل ذلك ساعدنا خلال مشاكل إعادة التوحيد كما وساعدنا على مواجهة التحديات الكبرى في السنوات التالية. وكان الاستعداد للتغيير والتضامن من القيم الحاسمة في التحدي الوجودي للوباء. فبدون الرعاية المتبادلة، وبدون الرغبة في تقييد النفس من أجل حماية الحياة، لم يكن كل هذا ممكنًا.
٭ سيداتي وسادتي، من خلال التعاون الوثيق مع شركائنا وأصدقائنا في أوروبا والعالم، ومن خلال قرارات حكيمة، أيضًا من خلال الالتزام وبالتأكيد لحسن الحظ، حققنا الكثير منذ إعادة التوحيد. كما خرجنا من الأزمات ونحن أقوى من ذي قبل. ولم يكن هذا ممكنًا إلا لأن الناس شعروا بالمسؤولية تجاه الصالح العام، ولأنهم شعروا بالمسؤولية تجاه أنفسهم والآخرين ذلك في المجال الاجتماعي أو البيئي، على سبيل المثال في فرقة رجال المطافئ، المتطوعين أو في حقل الثقافة، وحتى في الكنائس، في دور العلوم، في مجال الأعمال التجارية أو في صحن السياسة.

اقتباس من مقالين: (أنجيلا ميركل، أعظم سياسيّة عرفها العالم)
أنجيلا والسياسة:
لم تتهافت أنجيلا على الانخراط في الحياة السياسية المفعمة بالصراع الحزبي والسياسي إلا بعد سقوط حائط برلين عام ١٩٨٩ حيث شاركت فقط قبل شهرين من توحيد الألمانيتين. لقد تركت أنجيلا وظيفتها كباحثة لتنضم أولّه إلى جماعة سياسية تألفت من شخصيات محلية من محيطها القريب، وانطلقت بعد ذلك وبكل هدوء في مارثون السياسية الطويل، كانت مفاجأتها أن ترقت في السلم بفضل ذكائها الوقاد وبديهتها الحاضرة فضلًا عن أنها استطاعت أن تقوم ببعض التحركات التكتيكية التي أهلتها أن تتربع على كرسي المستشارة في عام ٢٠٠٥، وقد كان هذا النهج في غاية الوعورة والدراماتيكية فضلًا على أنه كان جديدا كل الجدّة عليها، خاصة بالنسبة لامرأة، تعتبر مواطنة من ألمانيا الشرقية، وقبل ذلك باحثة أكاديمية متمرّسة في مجالها فحسب ودون أي خلفيات عملية في مجالات القانون أو الخدمة المدنيّة.
ويتبادر للفرد منّا هاهنا سؤال جوهريّ: لماذا لم تُفصح ميركل علانية عن سبب تخلّيها عن مجال البحث العلميّ والعمل الأكاديمي مطلقًا؟ وهل فارقها هذا التفكير والسليقة ومنهاجية العمل الأكاديميّ يومًا ما حتى وبعد تقلدها مفاتح الحكم بألمانيا؟ عُرف عنها يا سادتي تمعنها وتفكرها المتأني في قضايا السياسية الحرجة وطلبها الدائم لمشورة أهل العلم والخبراء وكل هذه الصفات لازمتها طيلة فترة حكمها وتعتبر ميزة أصيلة في عملية صنع القرار اليومية لديها. وفي كل فترات حكمها الرشيد كانت في تمام الوعي أنها تتعامل - رغم ما عرف عنها من حديدية وصرامة – أمام الشعب والملأ بكل تواضع ونكران ذات، وهذا ما كتبه لها الشعب الألماني في ميزان أعمالها، فهي لا تزال تحصل على الدعم المعنوي والسياسي طيلة الخمسة عشر عاماً في جمهورية حقّة وبلاد شهد لها العالم بالنجاح، رغم ما حدث من ويلات الحرب، لكن هذا البلد اعترف بما اغترف من ذنب تجاه الإنسانية قاطبة، وربما إن هذا الاعتراف الصريح وتحمل المسؤولية أمام المجتمع الدولي هو الذي يجسد عظمة هذا البلد الذي رافقت إجلاله وسموّه التاريخيّ إنجازات علمية خارقة للعادة وعقول جبّارة مستنيرة، مثل أينشتاين وكانط وجوته وفريدريس روكرت وكارل بروكل مان، وآخرون ممن صُرعوا وقتلوا بسبب النازية الهتلرية وسلبت إنسانيتهم أ و حرقت كتبهم ودمرت أسرهم عن بكرة أبيها، رغم ذلك لم يقفوا مكفوفي الأيدي، إذ سارعوا بعد أن تركت الحرب العالمية الثانية بلادهم حضيضا، وشمروا سواعدهم وبنوا منذ نهاية الحرب بلدًا صار أعجوبة في النضال والتفاني والإخلاص ونكران الذات. لم ينتظروا حكومة تنقذهم من براثن الفقر ولكنهم حملوا أقدارهم على أيديهم وقالوا أما الفقر وإما نحن وهانحنذا نقف الآن ونرى ما وصلت ألمانيا من رقي وشموخ بين الأمم.

أنجيلا ... الحكمة ... العلمية ... واحتواء الكوارث:
لم يكن أبدًا بالأمر الصعب أو المستحيل أن يأمنها شعبها على قيادة سفينة الخلاص وسط أمواج المحيطات دونما خوف أو فزع أن تقذف بهم في غياهب طوفان جائحة لم يشهد لها العالم من مثيل. ساندوها ودعموها معنويًا وفكريًا، فكانت ألمانيا وعلماؤها هم رواد الابتكار في اختراع مصل يخلص العالم من جائحة كورونا وأثبت للكل أنها منصفة في معاملة أبناء البلد والأجانب على حد سواء، ذلك في الحقوق والواجبات ولقد رأينا أن البروفسير أغور شاهين وزوجته الدكتورة، وهما من أصل تركي، قد استطاعا مع مجموعتهم البحثية اختراق قلب الفيروس ووجود علاج ناجع له وكل ذلك لما كان حدث إن شاءت الأقدار وعاشوا في بلد من بلاد العالم الآخر.
لا تزال كورونا تفعل بالناس ما تريد، تقذفهم ذات اليمين وتسوقهم ذات الشمال، وحقيقة لا أحد يعرف بالضبط التحديات التي تنتظر هذا البلد، أو بقية العالم بسبب التطورات السريعة والغير منتظرة للعوامل التي تحرك هذه الجائحة. رأينا ما حدث الأيام الأخيرة في إنجلترا وكيف استطاع الفيروس أن يتحور إلى نوع أكثر خطورة. في خضم كل هذه الأحداث التي حركتها الجائحة بالإضافة إلى سوء العلاقات التي ولدها في السنين الأربع الماضية وجود رئيس اتسمت قرارته بالتلقائية وعدم الاكتراث وكان أحد الأسباب في تدهور العلاقات بينه وبين أنجيلا، رغم كل ذلك فهي تعي ما تفعل وتدبر قبل أن تنجز، ليسها كبعض الذين يعتبرون السياسة فيلما من أفلام هوليوود لا يمت للواقع بصلة لكنها وكما يقول الألمان في مثلهم "تقف بكلا رجليها على أرض الواقع"؛ عرفت بأنها صارمة في ترتيب المعلومات، صادقة في اعترافها عن ثغرات جهلها أو عدم إلمامها ببعضها، وقورة وحكيمة في تعاملها وأخذها وعطائها مع الناس، ومن هنا تكتمل لهذه المرأة كل المكونات التي تجعل منها شخصية تاريخية فريدة واستثنائية، لا سيما بقولتها التي أدخلتها في عام ٢٠١٦ التاريخ من أوسع أبوابه عندما كانت أفواج اللاجئين الذين نزحوا بسبب الحرب تقف على أبوابها سائلة الأمان، فلم تتوان في أن تقول: مرحبًا بكم وسوف نقدر على كل التحديات ومجابهة هذه الكارثة.
سوف تخلد أنجلا اسمها في الذاكرة كأعظم سياسية أوروبية عرفتها ألمانيا، لأنها حافظت طوال فترة حكمها بأسس العلمية التي أدخلتها في حقل السياسة كعالمة من الطراز الأول، كما وأنها التزمت بكل ما تعلمته في سلك حياتها كباحثة في علم الفيزياء وطبعت بصمتها الشخصية في طريقة التفكير المنطقي المستند إلى الدلائل الحقّة في وقت يفتقد فيه العالم بأسره إلى صفات مثلها. لله درّها هذه الأنجيلا ... سبحان مالك الملك في ملاك خلقه!

Mohamed@Badawi.de
/////////////////////

 

 

آراء