أهو كدا يا جيشنا الباسل

 


 

 

سررت كثيراً بما تقدمت به الجبهة الثورية لتوحيد القوى العسكرية في السودان، في طريق العسكرية الوطنية، من أجل قيادة الفترة الانتقالية إلى حين شفاء الدولة من الأمراض المستأصلة من حكم الإخوان المسلمين والحكم المصري بواسطة الاتحاديين وميوعة حزب الأمة وبقية أحزاب قوى الحرية والتغيير الخائنة، والتي جلبت إلينا قرف الانقلابات العسكرية بتسليم الثورة لمجلس امن البشير الإنقلابي، ومن خراب مؤسساتها الأمنية والإدارية والاقتصادية، وممارساتها الفساد والتدهور الأمني وتمزق البناء الإداري، من قضاء وشرطة ومؤسسات مالية ومستشفيات وتعليم .
كانت الكارثة فعلاً ماحقة، حتى أن الحركات العسكرية التي حاربت حكم الطغاة، حكم الكيزان، انتقل إليها الداء المكين وكادت أن تروح منا أيضاً.
أعجبني أن الحرية والتغيير لم ترفض مبادرة الجبهة الثورية أو تعيبها، وهي التي أدخلت الثورة في نفقها المظلم هذا، لكنها تتردد في قبولها، والتفكير قبل القرار صائبٌ حتماً، إلا أن التلكؤ في الاستجابة تُحوْصِل الوباء وتطوره سريعاً، خاصةً في مرحلة تعاطي الفكرة الأولي.
ما هو المكسب الذي قدمته مبادرة الجبهة الثورية؟
أولاً: تجنبت أكثر المزالق خطورةً وهي الأحزاب، فأحزابنا عاجزة في تركيباتها الديمقراطية، تعميها المحسوبية والمحاصصة وإثراء الحزب من المال العام كحقٍّ مستباح، وهذه أخطر نقطة ضعف ترمي الثورة نفسها فيها فهي "لايوقة وممجوجة" بصفتها ممارسة محسوبة على الديمقراطية، ولكنها في الواقع ليست في مرحلة ديمقراطية إنما في مرحلة انتقالية للديمقراطية يتوجّب فيها العمل العلمي البناء بالقانون والحوار البناء في فترة الانتقال، ببناء الأساس السليم والمؤسسات الصحية لممارسة الديمقراطية، إعداداً لمرحلة الديمقراطية بعد الانتقال حين يجوز لها الانشغال بمصالحها السياسية ومصالح برامجها، وليست مرحلة الصراع والمؤامرات جرياً وراء كراسي السلطة.
ثانياً: أدخلت القوات المسلحة التي لا نشك في طهارتها ووطنيتها وحقها الشرعي في إنقاذ الوطن من التدهور الذي يشاهده كل العالم، لتجد فرصةً لتكون جنباً إلى جنب مع الحركات المسلحة التي أنشأها المهمشون والضحايا لجرائم التهجير والتقتيل والأرض المحروقة ،والتي في عوزها، ايضاً مارست الارتزاق في القارة الإفريقية كممارسة الدعارة لمن فقد القدرة على العيش الكريم، فليست الدعارة ذنب وليس الارتزاق ذنب إذا تم بالاضطرار القسري، ولكنها ليست ميؤوسا منها. بال اصطفافها داخل دورها الشرعي الذي قامت من أجله هو أحد القفزات الهائلة نحو تحقيق هدفها الذي تأسست له. إن انضمامها للقوات المسلحة وانضمام الدعم السريع لها أيضاً، يعبّدان الطريق لتضفي القوات المسلحة، المجرّدة من التسييس الكيزاني، على تلك القوى العسكرية الباسلة دروساً وأصول العسكرية الوطنية في جيش لا سياسي، لا عرقي، ولا ديني.
ثالثاً: لأن التدخل الأجنبي والمؤامرات التي تحاك حول السودان، واللعاب السائل للانقضاض عليه، لا تقدر عليه إلا قوةٌ وعزمُ فداءٍ، حيث يأتي دور الجيش، وليس غيره، لأنه فوق أنه يدٌ باطشة ضد المؤامرات، هو مأمونٌ لحماية الوطن وترابه وشعبه، وليس هناك بديلٌ له غير الثورة المسلحة، كما قامت بها الأمم التي تقودنا الآن، في وقتٍ كانت تسام فيه وترتهن، والثورة المسلحة تنتشل الوطن من الهوة، ولكن ثمنها غالٍ ومؤلم .
رابعاً: هذا التجمع الثوري، كما هو في حتميته يصقل الحركات المسلحة للتأهل لتمثل كل الشعب السوداني بمبادئ وتراث القوات المسلحة. هو أيضاً أفضل عينٍ باصرة ومصححة لإعادة تمشيط القوات المسلحة من داء الإخوان المسلمين والمؤدلجين، ولتحجيم وتقويم الدعم السريع. إن للجبهة الثورية دوراً أصيلاً في وقف المغامرات الطائشة، أو كما يقول المثل السوداني "ألمي حار ولا لعب قعونج"
إنّ في مبادرة الجبهة الثورية نورُ الأمل الذي كاد ينطفئ نهائياً، ولعلنا نفترض أن الخلاف بين تلك الحركات المسلحة كان مصدره التنافس والتسابق، فإذا كان ذاك فهو أمرٌ مقدورٌ عليه. فهو ينحصر في القيادات التي بتمسكها تعتبر أنها تسعى لمصلحة من تمثل، ولكننا جميعاً نرى أن ثمن ذلك تدفعه القبائل التي تمثل، وثمناً ليس بالرخيص، ففيه الدماء المهدرة والحقوق المسلوبة والفتنة المشتعلة بين تلك القبائل، لا يُسرُّ لها إلا العدو والطامع، فلم نرَ أي تطوّر في افق تلك القبائل وحركاتها المسلحة، إلا ازدهار وجوه الطامعين من دول الجوار وإسرائيل وروسيا والدول العظمى وكل الذئاب وبني آوى.
العالم كما هو واضح الآن في مرحلةٍ خطيرة لمراجعة النظام العالمي والذي تدور في رحاه حروب الجبابرة ومخاطر فناء العالم أو التقهقر به إلى ما يعيد الأوجاع المرة مرة ثانية. ما ذكرت في مقالي السابق "السودان تحت عجلات حرب القياصرة"، وما ذكرت فيه من مظاهر وقراراتٍ تؤكد اتجاه العالم نحو حربٍ طويلة المدى بعيدة الأذى، تجد أكثر الشعوب تأذّياً بآثارها هي الشعوب التي تتأرجح بين الشرعية والإتباعية، وأكثر الشعوب ترشيحاً بالإتباعية لوصاية دولية هي الشريط السواحيلي وعلى رأسه السودان. ليس ذلك فحسب، بل أن الانتخابات الأوروبية والأمريكية ودول باكستان وعديدٍ من الدول الآسيوية، على الأبواب، والتقدم اليميني للفصل العنصري والاحتكارية والتخلّي عن دعم الشعوب وعن حقوق الإنسان، ورجوع حكم الغاب بالتدرج، تبدو ساحاته تنتعش وتهدد مواقع القوى لممثلي النظام العالمي الحالي، وطبعاً لم تتمكن الأمم المتحدة بعد في أوحال قيامها وفطامها، لم تتمكن من إنصاف الشعوب التي استغلت ونهبت ثرواتها، ولم تتمكن بعد من الاتفاق على التكاتف معها لبنائها تحسّباً لضرورة سلامة الكوكب الذي بات مهدداً بالتدهور البيئي.
إنني في فترة صباي درست بمدرسة خور طقت الثانوية حيث تعرّفت بالطبع على مختلف الزملاء من مختلف مناطق كردفان ودارفور وجنوب السودان، بل وزرت في رحلات جمعية الجغرافيا كل تلك المناطق وجبال الأنقسنا، وتعرفت على تراثها وإبداعاتها، وشهدت منها نبل زملاءٍ من ديارها ومعاناتهم التي تطبّعوا عليها صبراً ورضىً، والتي تعلّمت منها الكثير من النقاء الطبيعي، وأجد الآن كيف أن معاناتهم تلك وكأنها مصيرٌ محتومً لا يرتبط بزمانٍ معين، فقط محصورٌ عليهم في مكانهم.
إن الفُرقة والشتات والاحقاد ليست بلسماً، ولكن الاعتدال والعقلانية هي سيما البشرية الواعدة، وبوصلة الأمانة التي حذرنا رب الكون بوعيها وعدم التساهل فيها. ولمن كسب تجارب مثل تجاربي تلك، تبين الحقيقة الماثلة والواعدة، بأن بلادنا ليست فقط غنية بالمعادن والنفط والثمار، ولا بوفرة المياه والأرض الشاسعة، إنما أيضاً بأمةٍ مشهود لها بقوتها وجمالها وثقافتها ونقائها وتراثها الذي لا يضاهيه تراث.
فلنبدأ، ورؤيا سوداننا العظيم نصب أعيننا

 

آراء