لماذا هذا التخبط الذي نحن فيه؟

 


 

 

في متابعتي للفضائيات، كدت أن أصاب بصدماتٍ حادة من عجز كثيرٍ من المستضافين في بدائيات تجميع الحُجة وأبجديات التفكير المستقيم، وعجزهم لدرجة الكساح في حساب المعادلات السهلة البسيطة غير الاندفاع وعجز الحوار وسبهللية الاستنتاج.
أتمنى لو ركّز الإخوة المحللين لهذا الوضع الذائب بالارتكاز على التريث وبذل جهدٍ في تنوير أنفسهم بدلاً من الانطلاق للحوار قبل ترتيب الأفكار.
أولاً يجب علينا تثبيت أن ثمة ثورة مكتملة الملامح والأركان والثمن قد قامت فعلاً ضد الإنقاذ، سلاحها اتفاق الجمهور السوداني وعزمه على قلب النظام الظالم، ورأس ماله دماء أفراده الطاهرة التي أقسم أن يبذلها حتى النصر.
وواقعياً ليس غاية ذلك الزحف الهادر هو تعارك الثوار مع العسكر حتى ينتصر أحدهما، فهي ليست مباراة بطولة، وذلك لن يقبله الضمير العالمي، دعك عن الوعي والضمير السوداني، والهدف الوحيد ٍلتلك المواجهة في غياب تراجع المخطئين، هو فرض تراجعٍ جماعيٍّ يقود لاتفاقٍ :
مثل أن يجد فلول حكومة الإنقاذ، بما فيها مجلس أمنها العسكري، حشداً مؤيداً لها من المواطنين يضاهي حشد الثورة ويماثله عزماً ومصادمة، فتستعد البلاد للدخول في حربٍ أهلية لحسم خلافاتها – بدلاً من الدخول في فوضى تسمح للصوص والمجرمين والإرهابيين من خارج السودان لتسخير تلك الصراعات لسرقة البلاد من أهلها.
بمعنى آخر، مصير تلك الثورة بشكلها الذي تمت به إما يكون منه نجاحها أو تحولها إلى حربٍ أهلية بين أهلها، وقد سجل التأريخ مثل تلك الحالات، اشهرها الحرب المدنية في أمريكا. لا شك أنها كارثة، ولكن قدراً لا شك أرحم من قدر، إذ ذاك هو الدرب الوحيد لتقنين ما هو غير مقنن. وهناك ثورات تختلف نوعاً ما كالثورة الفرنسية والثورة البلشفية الروسية. ولكنها تختلف بأنها أسلوبٌ انسيابي لشعبٍ متحد من من أجل حريته من الدكتاتورية والاضطهاد.
ثورتنا هذه قد بدأت نقيّةً وأثبتت شرعيتها الثورية بالتأييد الشعبي العام والحاسم، مما أقنع قوى النظام السابق من أن تسلم السلطة من البشير للقوات المسلحة، حتما انصياعاً لقناعتها بشرعية الثورة من صدق تمثيلها ومقداره، وإيداع الشير في الاعتقال في بيت الضيافة، وتسليم السلطة للفريق إبن عوف مع المجلس العسكري لأمن الانقاذ: وهذا انقلاب عسكري متفقٌ في ظاهره وقانوننيته.
لما رفض الثوار ذلك البديل، تم تعديله إلى وضعٍ أفضل برئاسة البرهان وإنابة محمد حمدان دقلو إضافةً للمجلس العسكري تقريباً، وهذا ليس إلا إنقلاباً في انقلاب، أو تعديلاً للانقلاب، لكنه، قانوناً، هو انقلاب بنزعه السلطة من البشير إلى من ترتضيه أو يُرضخ إليه الجيش بعد ذلك.
دعنا نتابع ذلك الحدث خطوةً بخطوة، في تفريز ذلك التطور. فالثورة ظلت في إطارها ذاك ثابتة ومتحدة في نفس قوّتها، حتى قادت إلى إسقاط حكومة البشير وإيداع أفرادها في السجون، وتجنبت القوات المسلحة وقوات الدعم السريع مواجهتها بمصادمة فورية.
في تلك اللحظة لعب العسكر من مجلس أمن الانقلاب، بلعبة الدخان والمرايا، في عملياتٍ دقيقة، ليست تكيكاً عسكرياً، ولا تخطيطاً إدارياً (قانونياً)، إنما دهاءاً إجراميا بهجمةٍ أُهدرت فيها دماء الثوار واغتصابهم وحرقهم، وقذفهم في النيل، واختطافهم إلى حيث لا يعلم أحدٌ، أي كل ما من شأنه أن يثير الغضب والحقد، وخلطوه بصدامات عسكرية في الجيش، ربما منها الحقيقي، ولا شك فيها المصطنع، حتى أوهموا بعض المراقبين أن الجيش فيه صراعٌ انتهى إلى فوز المساندين للثورة.
هنا نفذ مجلس أمن الإنقاذ خطته الذكية بالمثول أمام الثوار عارضاً نفسه حامياً للثورة.
هكذا كانت غفلة قوى الحرية والتغيير التي اختطفت القيادة من تجمع المهنيين، وسمحت لنفسها حقاً غير مفوّض لها، لتوسيع قاعدة الثورة من خارج جمهورها، فالثورة، بالقانون العام، عالمياً، معروفة كيف احتسابها، وكيف تسمى ثورة، وليس ذلك بقرارٍ إداري من المكلفين بقيادتها.
قام المختطفون لقيادة الثورة باعتماد المكون العسكري الذي تولّد من ثقل الثورة ونجاحها، كحصان طروادة من مجلس أمن البشير، كغنيمة مَن انكسر ويئس من الانتصار بالمعركة، فدخل العسكر هكذا في جسم الثورة.
ثم قامت قيادة الثورة أيضاً بإدخال حصين طروادة أُخر، أحزابها العقائدية سبب الفتنة المدنية الحالية، قبل توقيعها تعهداً بنبذ عقائدها فيما يتعارض مع أهداف تلك الثورة من حقوق الإنسان من حريةٍ ومواساة، وعدم الوصاية. فخلقت عدم ثقة في عزل أحزاب عقائدية أخرى في تسييس الدين، وسمحت لأخرى عقائدية في تسييس العرق وتسييس الطبقة، فأدخلت في طريق الثورة عداوة المحاور التي تعترك حولنا الان من الأدلجة الشرسة لتلك العقائد، كما شجّعت جماعات التسييس الإسلامي للانتفاض، فقط من أجل مقاومة تلك الحركات العرقية الجهوية والراديكالية.
ثم ضمت مليشيا العدل والمساواة التي كانت شريكة في انقلاب الإنقاذ واضطرت للوقوف ضده بعد أن خدعها الانقلابيون مما أدى إلى تعرضها للمعارضة، مما أدى إلى قتل رئيسها بولاد بعد تعذيبه أشر عذاب، وتجمع معها متمردو الكتاب الأسود. كان أقل ما يجب عمله هو تقصي أسباب دخولهم في الانقلاب والتحري عن برنامجهم الحزبي، ولكان اتضح معه أنه تنظيم غواصة للنظام السابق.
مثل هذه الأخطاء لا يجب أن تحدث في ثورة... الثورة هي انفعالٌ صادق صافي من التخطيط والتصنيع، وإلا فهي ليست ثورة. لذا اعتماد تلك الحركة بأنها ثورة كان أن تمّ تدنيسها منذ البداية بتلك الأخطاء. وكان أخطرها ضمها لمكوّنٍ عسكري، بما فيه تضارب التفويض.
فثورةٌ تحمل في رحمها مكوّناً عسكريّاً سياسيّاً، ليست بثورة. ولا حتى برنامجاً للمدنية. كما وليست وعاءاً للديمقراطية: فمكوّنها العسكري قانوناً لا يفوّضها بمدنية ولا بديمقراطية – هذه هي العسكرية وواقعها، تعريفياً ومرجعياً.
وخطورة اللعب في تلك القفزة في الظلام، أن المكون العسكري تخصصه الأكاديمي وتمرّسه هو في الإدارة والقانون، أي هو مشرّبٌ بضبط محاوره قانوناً، والثورة المدنية متعددة المشارب وقد لا يكون فيها وعي قانوني أو إداري بقدرٍ يتبارى به مع العسكر.
هذا هو الحال القانوني الذي وجد السودان نفسه فيه.
لم يكترث المكون المدني للتنبيهات التي وردت في الصحف عن تلك المغامرة الخاطئة، ولا تحذّر من احتمال انقلاب ذلك عليهم، فتساهل في تقديم التنازلات والتعثر في تشديد الوثاق في أيادي جلاديه من مجرمين، فانشغلوا بمحاكم هالكة من نظامٍ قضائي وبدستور التوالي اللذان ورثوهما من النظام السابق لمحاسبة النظام السابق في هزلياتٍ مخجلة.
وصحيح أنهم فجأة أدركوا خطأهم فعزموا التحرك الصارم في لجنة فك التمكين، كأنهم لا يدرون مدى خطورة مهمة لجنة تفكيك التمكين في بتر أعضاء الأسد الذي لا تمسك زمامه. وزمامه في القانون والقانون في الدستور والدستور عاري ببطلان توقيعاته.
كل ذلك كتبنا فيه وحذرنا فيه، ولما طلبنا التحقق من برامج الجماعات التي ضُمَت للثورة وإلزامها بالتعهد بعدم الدعوة لنزع الحرية أوحقوق الإنسان من أي فئة، قاموا مرةً أخرى بابتداع الوثيقة الدستورية كأنها ستكون "عهد الدم" لسلامة الثورة.
وكونوا لتقنينها "مجلس شركاء" من نفس الجماعات التي طلبنا توثيق تعهدهم بقوانين حقوق الإنسان والحريات، والذين يعتبرون "مؤلفةٌ قلوبهم" وليسوا أهل حلٍ وربط بعد.
هكذا تسلّم الانقلابيون فريستهم مقيّدة جاهزة للانفراد بها.
حتى هنا يمكن أن نتفق أنه "لما الصقر يقع، كتر البتابت عيب"
وأنه لا يجوز البكاء على اللبن المدفوق
لكن عندما يكتشف المخطئ خطأه، يجب عليه أن يعد نفسه لتنقية عقله ليعرف كيف لا يضع رجله في موضعٍ خاطئ مرةً أخرى.
يطالب الثوار بالرجوع إلى ما قبل قرارات البرهان في 25 أكتوبر الانقلابية.
هم لا يدركون بعد أن قرارات 25 أكتوبر، نعم هي انقلابية بالنسبة للعالم، لأن العالم رأى أمامه ثورةً [تمثّلت أمامه، وهو لا يدرك كيف تم ذلك]، لم يُملّك الحقيقة بأنه قد حدث اتفاق للثورة الشعبية مع مكوّن عسكري من الجيش، وليس من الشعب السوداني، بوثيقة دستورية وقعها الطرفان، وكل ما يطالبون هو إرغام البرهان على الالتزام بذلك التوقيع.
والبرهان يعلم، كما هم يعلمون، أن توقيعه كان "شخبطة" على ورق، ليس إلا، فهي لا تعني شيئاً للآتي:
1- أولاً، هو لا يستطيع التوقيع على اتفاقيات مدنية لأنه عسكري، يمثل القوات المسلحة، ولا يمكنه إلزام القوات المسلحة بتسليم سلطتها للمدنيين إلا في نتيجة حربٍ أُخضِع قائدُها بها وتخضع بخضوعه كل القوات، فالقوات لا تخضع لخضوعه اختيارياً إلا بقرار الشعب في سلطته السيادية
2- ثانياً الوثيقة الدستورية باطلة إلا بتأييد موقعيها ورضاهم، ولا حق لأحد الموقعين بالزام الموقع الآخر لأنها الوثيقة الوحيدة للسيادة الجديدة والتي لم تكتسب بعد سيادة القوات المسلحة بحكم شرعها الإداري، أي بقرار سيادي ممن يمثل الشعب، كذلك لا أيٍّ من المليشيات. فأمامك مثلاً قوات محمد نور كانت رافضة التوقيع على السلام ولم تتمكن الوثيقة الدستورية من إجبارها حتى قبلت بذل طواعيةً، فكيف تقيد الجيش؟
3- الردة تمت من الجهتين، بدأتها قوى الحرية والتغيير بضم العسكر والأحزاب في ثورةٍ لم يشاركوا فيها، وتبعها المجلس العسكري بانتزاع الثورة التي فقدت صفتها الثورية ببيع دماء أبنائها.
والتوبة في ذلك مفتوحة للطرفين، فيها الرجوع للوثيقة الدستورية فقط لتكون فتح مزاد، باعترافٍ من الطرفين في أين كان الاتفاق: ثم تأتي بعده الخطوات التالية:
أ – إما إعادة توقيعات الوثيقة الدستورية بقبول الطرفين في محكمة العدل الدولية، ويصبح الإلزام بها قانوناً صحيحاً تحت إشراف المجتمع الدولي وقانون محكمته الملزمة لكل الدول.
ب – أو فك الشراكة مع العسكر، مع القبول بالجلوس مع المكون المدني لمن يمثلهم العسكر باعتماد حسن الظن أن العسكر فعلاً يريدون منح الجماهير التي عُزلت في الثورة فرصةً، وقطعاً سيكون في ذلك كل الأحزاب التي شاركت الإنقاذ في حكمه أو انقلابه، وبدون تمثيل للعسكر كمكونٍ عسكري. وفي تلك الحالة يتوجّب التمسّك بشروط تسجيل الجماعات والأحزاب لممارسة العمل السياسي بقبول مواثيق الآمم المتحدة ونبذ الوصاية.
ج – أو مواصلة المساعي الثورية لكلٍ من الجماعتين تحت رقابة المجتمع العالمي، والسماح لكل إقليم بحراسة إقليمه بقواتٍ من سكانه، إلى أن تتبلور الثورات الشعبية في استقلالية كل ولاية، لحمايتها حتى لا تكون البلاد نهباً للمليشيات والطامعين من الخارج وتقسيمها، ويمكن لتلك الولايات الاستعانة بالأمم المتحدة لحمايتها من التعديات ما دامت البلاد في فراغٍ دستوري.
وطبعاً سيكون لتلك الولايات الخيار في الاتحاد الفدرالي مع بعضها مع حفظ السلاح، أو الانفصال أو الانضمام لدولةٍ أخرى، ولكن الأعم هو ألا يقوم بعضُ من المغامرين والسياسيين ببيع حقوق السكان الأصليين من السودان لأي جهة أخرى، وكل قومٍ في ولاية لهم أمرهم في تحديد مصيرهم.
izcorpizcorp@yahoo.co.uk
///////////////////////

 

آراء