أوكرانيا: حرب أمريكية بالوكالة

 


 

 

قد يبدو من التبسيط نعت النزاع، الذي تدور أرحاؤه في أوكرانيا كحرب بين هذه الأخيرة وروسيا؛ أو أن الدعم الغربي، الذي انهال مِدرارا على أوكرانيا، من أجل إنقاذ حمل وديع من دُب مفترس، بدوافع إيثارية نبيلة. إنما هو صراع جيوسياسي بين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي، حشدت له الأولي الموارد والحلفاء، ومدّت أخطبوط أذرعها السياسية والمالية والعسكرية والإعلامية، وسعت لعولمته على طراز الحرب الباردة، بالضغط على الدول التي جنحت للحياد، وبث إشارات تستبطن الوعيد لها. وعسى هذا المشهد يحمل في طياته وجه شبه، بقدرٍ ما، إعلان جورج بوش الابن، غداة تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر لدول العالم "إما أن تكون في صفنا أو في صف الإرهابيين" في حملته الصليبية، التي أعلنها إذ ذاك. في هذه الكرّة، تبتغي أمريكا نزيف واستنزاف روسيا، في محاولة لإزاحتها كلاعب من المسرح العالمي.

الجُملة المكرّرة في عواصم الغرب لوصف الغزو الروسي "حرب غير مُبررة" تبدو مُضللة. قبل الحديث عن عود الثِقاب الذي أضرم الحرب، وكخلفية، ظهر تدخل الولايات المتحدة في أوكرانيا، لغاية استضعاف روسيا في 2014، عندما قامت بتوجيه الانقلاب علي فيكتور ينوكوفيتش الرئيس المُنتخب ديمقراطياً، وحليف موسكو، واستبداله برئيس غير مُنتخب، بترو بوروشنك، ذو الميول المُعادية لروسيا، والذي ألغي سياسة الحياد عن حلف الأطلسي التي انتهجها سلفه. ومنذئذٍ قامت واشنطن بتسليح أوكرانيا واستيعابها سياسياً واقتصادياً في المنظومة الغربية، توطئة لانخراطها في الناتو، ففي قمته في بروكسيل العام الفائت أعلن الحلف سياسة "الباب المفتوح" بشأن شملها. وكان عود الثِقاب عدم تلبية مطلب فلاديمير بوتن التزام أوكرانيا بالنأي عن عضوية الأطلسي. ولأوكرانيا، خلافاً للدول السُلافية أو ثلاثي البلطيق التي ضُمت للحلف، خصوصية وحساسية لدي الكرملين؛ فهي تتاخم روسيا بحدود يبلغ طولها أكثر من ألف ميل، وتاريخياً هي بوابة عبور الجيوش التي سعت لغزوها: بولندا، فرنسا نابليون، وألمانيا في الحربين العالميتين.

وبما أن الحرب فرصة ثأر للولايات المتحدة في صراعها الجيوسياسي مع روسيا، أجهضت جنين اتفاق تسوية لحل النزاع، تم بين روسيا وأوكرانيا في تركيا. والحرب في مُستهلّها، كانت القيادة الأوكرانية براغماتية، إذ اقترحت مُسودة اتفاق تضمنت صرف النظر عن السف للناتو، مع ضمانات لأمنها يتعهد بها الغرب، مقابل وقف العدائيات وانسحاب روسيا. بعدها مباشرة، سافر بورس جونسون رئيس وزراء بريطانيا المُنصرف لكييف، وضغط علي فولوديمير زيلينسكي رئيس أوكرانيا لئلا يخوض فيها، وتعهّد بالدعم المالي والسياسي والعسكري لدحر روسيا، ذاكراً أنه يتحدث بلسان "الأسرة الغربية". كان ذلك في نهاية مارس/ آذار، أي قبل أن يتحول 13 مليون أوكراني إلى لاجئين، وملايين أخري لنازحين، ويعاني مئات الملايين في أرجاء العالم من نقص حاد في الغذاء في الجنوب العالمي، وبالأخص في القرن الإفريقي، حيث تزامن نقص الحبوب والأسمدة مع موجة جفاف ليست مسبوقة. بعد الالتزام بعون غربي لا محدود ولا معدود، طغي الجناح القوموي في الطبقة السياسية الأوكرانية علي المُعتدل، وتبددت آمال السلام، حتي أن الحكومة أضحت تطالب بالمُحال: استعادة شبه جزيرة القرم.

يوجد قلق لدي النخبة الأمريكية من عالم متعدد الأقطاب، إذ لم تعد هيئة بلادها كما هو غداة تفكّك المنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفيتي: أحادية القطبية، الاستفراد بالبسيطة في "النظام العالمي الجديد"، واعتبار حرب الخليج الأولي كترياق لمتلازمة فيتنام، أي انطلاقة لمزيد من الحروب والاحتلالات: يوغسلافيا، أفغانستان، العراق، ليبيا. وعلي مستوي التنظيرالفنتازي، "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، توقف عجلة التاريخ عند اقتصاد السوق والديمقراطية الليبرالية. شهدت الجغرافيا السياسية للعالم بعدئذٍ تبدّلين حدّا نفوذ الولايات المتحدة العالمي، هما صعود الصين وانتعاش روسيا بعد حقبة بورس يلستين. الحرب الدائرة في شرقي أوربا الآن هي محاولة للجم روسيا، وكبح نفوذها العالمي لخلق فراغ تملؤه أمريكا -إزاحة قسط من ذاك القلق. وفي هذا السياق قال الرئيس الأمريكي جو بادين، ما يتضمن هذا المعني: "هذه لحظة تغيير، سيكون هنالك نظام عالمي جديد بقيادتنا، وعلينا توحيد العالم الحر لتشكيله"، فالجملة تخطّت ذكر أوكرانيا لتقفز لإعادة هيكلة الكوكب علي مزاج الغرب، بعد هزيمة روسيا المرجوة.

إلا أن هذه الحرب تبدو أخطر من الباردة، فالفرق أن الاتحاد السوفيتي كان - جغرافياً - مُحصّناً بحلف وارسو، محمياً بسِّياجه، وكان هنالك توازن قوي في أوربا بين حلفين، لذا انتهجت الولايات المتحدة سياسة الاحتواء حيال روسيا السوفيتية. أما اليوم، فقد باتت روسيا مُحاطة بالناتو كما السِوار، بالكاد بدون حلفاء، بما أغري واشنطن لممارسة أقصي واقسي ضغط عليها. بعد أيام معدودات من الغزو الروسي، حشدت أمريكا وزراء دفاع أكثر من خمسين دولة، وأنشأت "مجموعة اتصال أوكرانيا" لتوفير التسليح والتدريب لأوكرانيا - أكثر من الدول التي اصطفت لجانب الحلفاء في الحرب العالمية الأخيرة! وتشير تقارير إلى أن عسكريين من حلف الأطلسي يديرون الحرب في أوكرانيا. هذا، إضافة للذراع الثاني للصراع، العقوبات (الحرب) الاقتصادية، فاقتصاد الاتحاد السوفيتي لم يكن مندمجاً في الاقتصاد الرأسمالي، كما الروسي. وهذي وهاتيك تموضعان فلاديمير بوتن في موقع لا يُحسد عليه، وقد يأتي يوم يجد فيه ظهره إلى الحائط، كأن تزيح القوات الأوكرانية الجيش الروسي للحدود، أو حدوث هجوم من الأولي علي مواقع في روسيا. في هكذا سيناريو لن يأتل بوتن في استخدام السلاح النووي، فأكثر الأنعام شراسة هو الجريح الذي سقط في الفخ، وهذا السلاح يُحفظ لليوم الأسود.

أما خوض الحرب تحت لواء الدفاع عن الديمقراطية من الأوتوقراطية، كما يُردّد في واشنطن، فهي بضاعة مِزجاة لن تجد مشترٍ، ولا تحتاج لرجعٍ بعيد في تاريخ الإمبراطورية. ففي غمرة الحرب في مايو/ أيار، تشرّف جو بادين في البيت الأبيض باستضافة زعماء اتحاد دول جنوب شرق آسيا "آسيان" وضمنهم قادة كمبوديا، فيتنام، لاوس، وبروناي. إلا أن السُّوأي الكبرى كانت زيارته للمملكة العربية السعودية، التي فجّرت سخطاً لدي طائفة مُعتبرة في الحزب الديمقراطي ومنظمات حقوقية، إذ سبق أن تعهّد بأن يجعلها "دولة منبوذة" (جمال خاشوقجي والمِنشار). طريف، حين قال قبل الرحلة ما لا يفوت حتي على الغافل، أنه ليس ذاهباً من أجل لقاء محمد بن سلمان أو النفط، كأنه ذهب ليطّوف بالبيت العتيق. رُبما كان بلع اللسان مباحاً، بمنظور الواقعية السياسية، إن نال مرامه، دفق مزيد من النفط في السوق العالمي، لتعويض إمدادات الطاقة الروسية وكبح جماح الأسعار تالياً. الذي حدث هو النقيض تماماً، قامت الرياض خلال "أوبك +" بخفض الإنتاج، فارتفعت الأسعار، أي زيادة إيرادات النفط الروسية! كذلك، تتفاوض الإدارة الأمريكية الآن مع فنزويلا لاستيراد نفطها، رغم العقوبات المفروضة عليها. ونظام فنزويلا، بالمناسبة، لا يُصنف في واشنطن كشمولي فقط، بل لا تعترف بنيكلوس ميدورو رئيساً له، وتعتمد أوان غويدو رئيس الجمعية الوطنية كرئيس شرعي.

ومع أن التداعيات السالبة لهذا النزاع الجيوسياسي قد عمّت أربع رياح الأرض، إلا أن هذه السطور ستحصر نفسها على عقابيلها في الغرب، الذي جنح لمطّ مداها. ثمت آثار ثقيلة لها هناك تتراكم طبقاً عن طبق، تصاعد أسعار الطاقة، تضخم الأعلى منذ أربعة عقود، وتآكل القوة الشرائية للنقد تالياً، وارتفاع أسعار السلع والخدمات الضرورية، إضافة للرجرجة التي ضربت سلاسل الإمداد العالمية. وما زاد الطين وحلاً رفع الاحتياطي الفيدرالي (المصرف المركزي الأمريكي) لسعر الفائدة عدة مرات، بما أدي لانهيار قيمة اليورو لأدني مستوي له، وبما يرجِّح حدوث كساد، فالاقتصاد لم يقف بعد علي ساقيه من آثار "كوفيد 19". وفي داخل المنظومة الغربية، تقع العِلاوة الأكبر علي كاهل أوربا - المُنقادة لأمريكا - من ناحية إيواء ملايين اللاجئين، وكونها فقيرة في مصادر الطاقة، حتي أن عبارة ذاعت تقول أن علي المواطن الخِيرَة بين التدفئة والطعام Heat or eat. أي أن شتاءً زمهريرا ينتظر المواطن. ولا ريب أن لذلك آثار اجتماعية وسياسية جسيمة، عدا عن الاقتصادية. وكل ذلك وسواه كثير، سيؤدي لتمدد الحركات الشعوبية، واليمين المتطرف، الذي يستمدّ دفعة من فوزه في إيطاليا والسويد وتقدمه في فرنسا.

babiker200@yahoo.ca
/////////////////////////

 

 

آراء