أيام في جوبا قبل أن ترحل شرقاً … بقلم: بقلم: خالد التيجاني النور
جدل الوحدة والانفصال وحوار «الطرشان»... قصة مدينتين أم بلدين؟
tigani60@hotmail.com
كان آخر عهدي بجوبا قبل عامين حين زرتها لتغطية المحادثات التي فكت الاشتباك بين الشريكين في نزاعهما على تقرير الخبراء حول ترسيم حدود أبيي وأفضت للاتفاق على إحالة الملف إلى محكمة التحكيم الدولية بلاهاي، كانت جوبا وقتها تبدو ملتبسة لم تغادر بعد محطة الحرب وويلاتها، كما لم تدركها بعد نفحات السلام، كانت عند منتصف الفترة الانتقالية لا تزال تتلمس طريقها للخروج من أسر سنوات الحرب المتطاولة إلى سعة أيام السلام المحاصرة ببقية من بعض الظنون وكثير من الشكوك والأوهام، ومع ذلك كانت حينها لا تزال هناك فسحة من الوقت والأمل لأن تكون اتفاقية السلام الشامل سبيلاً لتعبيد الطريق إلى إعادة تأكيد وحدة البلاد على أسس دولة القانون والمواطنة والمساواة والشراكة الوطنية التي حفلت بها أدبيات تسوية نيفاشا.
هبطت جوبا هذه المرة، وقد قضيت فيها سحابة الأسبوع الماضي، وأدركت من أول وهلة أنها ليست تلك المدينة ذات السحر الغامض التي عرفتها وزرتها مرات ومرات على مدى أكثر من عقدين من الزمان وعرفتها في أطوار شتى، فقد بدت لي عاصمة الجنوب هذه المرة أكثر إشراقاً وألقاً، وقد بدأت تغادر حالة البؤس واليأس، تغيرت ملامحها بسرعة وكأنها تسابق الزمن وتتجمل لتدرك موعداً تنتظره على أحر من الجمر، موعد عروس مع ليلة زفافها، وزادها بهاءً خضرة يانعة أنعم بها موسم خريفي مطير، حركة نهوض عمراني متسارع لا تخطئها العين، توسع في الطرق المسفلتة والمعبدة، تطاول في البنيان، انتظام أكثر في الخدمات، نشاط تجاري واقتصادي متزايد، وأهم من ذلك كله إنسان أكثر ثقة وتفاؤلاً وإقبالاً على الحياة.
غير أنه طاف علي طائف أشعرني أنني هذه المرة أكاد أبدو في جوبا غريب الوجه واليد واللسان، فالمدينة المنفتحة على جوارها، والمنغلقة إلى حد كبير في وجه شطرها السوداني الشمالي، تعطيك إحساساً قوياً بأنها تقترب أكثر لتكون جزءاً من منظومة نمط حياة مدن شرق إفريقيا، وتبتعد أكثر من أي وقت مضى من ملامح المدن السودانية المعهودة، والأمر ليس فقط مجرد إحساس، بل واقع تعيشه فعلاً بحكم التنامي المتسارع لتواصلها المفتوح على الآخر اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً مع جوارها الإفريقي بأكثر مما هو حادث مع بقية أجزاء السودان التي لا تزال رسمياً جزءاً منه.
ساقتني إلى جوبا هذه المرة، دعوة من بعثة الأمم المتحدة للسودان «يونميس» للمشاركة في مائدة مستديرة للحوار شارك فيها لفيف من كبار الصحافيين يمثلون وسائط إعلامية متعددة تنشر أو تبث من الخرطوم وجوبا ومناطق آخرى من الجنوب، وجرى على مدى يومين حوار صريح وشفاف ومتبصر وغطي قضايا على رأسها مسألة التعاطي الإعلامي مع الاستحقاق المصيري، الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب، وناقش المشاركون تجربة التغطية الإعلامية للانتخابات العامة التي أجريت في أبريل الماضي، الحملات التي سبقتها، والدروس والعبر المستفادة من تلك التجربة. وجرى نقاش عميق حول «خطاب الكراهية»، تعريفه، تجاربه المريرة والمأسي الإنسانية التي جرها في دول المنطقة التي مارسته، وكيفية تداركه للقضاء عليه أو التقليل من غلوائه.
أما الجانب الأكبر من حوار المائدة المستديرة فقد انصب على مناقشة أجندة التغطية الإعلامية للاستفتاء، وكيفية إسهام الإعلام في ضمان ممارسة رشيدة وسلمية لحق تقرير المصير تضمن استدامة السلام، وحول ذلك جرى حوار مستفيض للاتفاق على مدونة سلوك، أو ميثاق شرف للتغطية الإعلامية للاستفتاء، وكيف يمكن لوسائل الإعلام أن تسهم بفعالية في الوصول للمناطق الداخلية خارج نطاق الحضر، تقديم توعية أفضل للمجتمعات الريفية بشأن الاستفتاء على تقرير المصير وخياراته، وكيفية إدارة توقعات الرأي العام في الطريق إلى الاستفتاء.
ولأن مائدة جوبا المستديرة للحوار حول قضايا الإعلام والاستفتاء جرت وفق قواعد «شاتام هاوس» وهو تقليد يقتضي إدارة الحوار حول القضايا مثار النقاش في جلسات مغلقة غير مفتوحة أمام العامة أو الإعلام لضمان أكبر قدر من الصراحة والصدق والشفافية في طرح الآراء والأفكار، ولذلك فلن يكون بالوسع هنا تناول ما دار فيها تفصيلاً، ولكن يمكن القول على وجه الإجمال أن المسائل التي طرحت للنقاش وجدت حوارا عميقاً وصريحاً وموحياً ارتفع إلى مستوى خطورة وأهمية قضية الاستفتاء وتبعاتها، ولعل أهم ما اتفق عليه المشاركون في مسودة مدونة السلوك للتغطية الإعلامية لتقرير المصير أن تصوب الانتباه إلى الهدف الرئيس وهو ضمان استدامة السلام بغض النظر عن نتيجة الاستفتاء وحدة أو انفصالاً، لأن القيمة الحقيقية للاتفاقية هي تحقيق السلام، وشدد على نبذ خطاب الكراهية أو الترويج لها، وتقديم تغطية متوازنة لخياري الاستفتاء.
خارج الغرف المغلقة:
هذا ما كان من أمر حوار المائدة المستديرة في الغرف المغلقة، وما أمكن الإفصاح عنه، ولكن ماذا بشأن جدل الوحدة والانفصال، خيارا الاستفتاء على تقرير المصير، وكيف تراها النخب وعامة الناس في الجنوب المعني به مباشرة، والذي يملك حق الاختيار؟. تمثل جوبا، ولا شك، بحكم أنها حاضرة السياسة الجنوبية وكشأن كل العواصم المكان الأمثل لمعرفة المؤشرات واتجاهات الرأي العام الجنوبي تجاه مسألة تقرير المصير، وقراءة وتحليل هذه المعطيات يقرب الصورة الأكثر من معرفة الخيار الأكثر احتمالاً.
كما أن مناسبة المائدة المستديرة التي جرت في جوبا الاسبوع الماضي كانت مواتية للغاية لجهة أنها أتاحت فرصة لحوار صريح وعميق في داخلها وعلى هامشها بين الصحافيين المشاركين الذي غلب عليهم ممثلو وسائل الإعلام المشغولة بالأجندة والهموم الجنوبية، وكان لوجود عدد كبير من الصحافيين والإعلاميين الذين أتوا من ولايات ومناطق جنوب السودان المختلفة دور مهم في معرفة اتجاهات الرأي العام على اتساع أرض الجنوب.
ولعل الأمر الأهم كذلك أنه كانت هناك فرصة كافية لنا لاستطلاع واف للرأي العام وسط عامة الناس في أسواق جوبا، وطرقاتها، وبعض مؤسساتها الاقتصادية، وكذلك بعض الشخصيات العامة مما وفر فرصة ذهبية للاقتراب أكثر من تلمس توجه الناخبين في الاستفتاء المقبل، وكذلك الفهم بدرجة أكبر للدوافع التي تجعلهم يفضلون خيارهم الذي أفصحوا عنه.
قصة مدينتين أم بلدين؟.
غادرنا الخرطوم وهي تعج بحملات سياسية وإعلامية مفاجئة تحض على الوحدة، وتحذر من الانفصال ومخاطره، والحزب الحاكم يبدو متخذاً موقفاً سياسياً مشدداً على الوحدة الجاذبة، واستعداداً للعمل لجعلها كذلك، على نحو لم يعهده الناس فيه وقد تبدد وانقضى جل الفترة الانتقالية التي كانت مرجوة لذلك، ولم يبق من الوقت لموعد الاستفتاء إلا ما يفي بالكاد لإنجاز إجراءاته العملية، وتسابق الحراك لتشكيل هيئات ولجان وجماعات ترفع شعارات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وبدا كأن هذه التحركات الشعبية الطابع فوجئت هي الآخرى بموعد الاستفتاء وقد أزف، وليس استحقاقاً دستورياً مصيرياً واجب النفاذ.
ولعل أكثر مفارقة، إن لم نقل مفاجأة، أن كل هذا الصوت الإعلامي الصاخب والحراك الوحدوي في العاصمة الخرطوم المبثوث عبر أجهزة إعلامها الرسمية والخاصة، لا يسمع به أحد هنا في جوبا من المعنيين به، أي مواطنو الجنوب الذين يملكون الحق في تقرير المصير، دعك من أن يكون مثار جدل أو حوار حوله، ببساطة لأن وسائل الإعلام الرسمية ، الإذاعة والتلفزيون، التي تتولى الجانب الأكبر من إذاعة هذا الحراك الوحدوي في الشمال ليست متاحة في جوبا عاصمة الجنوب دعك من أطرافه، اللهم إلا من رغب في الاستماع إليهما وكان يملك لاقطاً هوائياً، ولعل المنفذ الوحيد الذي تلج منه أخبار هذا الحراك وأنشطته يأتي عبر الصحف، وهي على أهميتها متاحة للخواص من النخب ذات الاهتمام، ومن تملك ناصية اللغة العربية، وكلها عوامل تجعلها محدودة الانتشار، وإن كانت مهمة في التأثير على النخب التي تطالعها.
وعلى عكس ما يدور في الخرطوم من حراك وحدوي، يبدو المزاج السياسي في جوبا مختلفاً تماماً، الدعوة للانفصال ولا شئ غيرها هي التي تسيطر بالكامل على المشهد السياسي في الجنوب، تعج بها وسائل الإعلام المختلفة التابعة لحكومة الجنوب أو المقربة من الحركة الشعبية، والصحافة المستقلة، والإذاعات الخاصة، وحديث الناس في المجالس والطرقات، كلها في انتظار أمرين لا ثالث لهما أن يتم الاستفتاء على تقرير المصير في موعده المضروب بحلول التاسع من يناير 2011، مع التحذير والضغوط الشعبية من أن يتم إرجاؤه لسبب أو لآخر، ولهذا السبب تحديداً اتسعت حالة التظاهرات الشهرية في التاسع من كل شهر للتذكير بموعد الاستفتاء والتأكيد على مطلب الانفصال، وهو حراك بدأ قبل أشهر قليلة ومقتصر على العاصمة جوبا، والجديد في هذه الحملات أن آخرها الذى جرى الأسبوع الماضي اتسع مداه ليشمل مدن الجنوب الرئيسية كافة، وحتى دول الجوار كما هو الحال في يوغندا، وهو حراك لا يمكن الاستهانة به أو النظر إليه على أنه مجرد مناورة سياسية من الحركة الشعبية للضغط على شريكها المؤتمر الوطني للوفاء باستحقاق الاستفتاء في موعده والالتزام بنتيجته، بل تمثل إلى حد كبير تعبيرا عن سيادة المزاج الانفصالي في أوساط النخب والعامة على حد سواء، ولعل اللافت في هذه الظاهرة غلبة العنصر الشبابي على ذلك الحراك.
ليس من أجل عيون الحركة الشعبية:
يغلب الظن في الأوساط الشمالية، عند الطبقة السياسية وفي الأوساط العامة كذلك، أن الحركة الشعبية لتحرير السودان هي المحرك السياسي والدافع الوحيد الذي يملك ويعمل على فرض خيار الانفصال على الجنوبيين، وهو افتراض يحتاج إلى مراجعة، إذ أن تلمس توجهات الرأي العام الجنوبي عن كثب تكشف إلى حد كبير عجز العقل الشمالي حتى الآن في رؤية وقراءة العقل الجنوبي وكيف يفكر، وماذا يحس وما هو شعوره الداخلي، وكيف يحدد خياراته تجاه العلاقة مع الآخر الآتي من الشمال، وما هي المنظورات والتصورات التي يبني عليها أحكامه ومواقفه هذه.
ومن خلال ثنايا الحوار الذي شهدته المائدة المستديرة، ومن النقاش المباشر مع الصحافيين والإعلاميين الجنوبيين، بدا مفاجئاً لي حجم الهجوم والانتقاد اللاذع الذي شنه أكثرهم على الحركة الشعبية بسبب تضييقها على الحريات العامة والإعلامية، بوجه خاص، وأوردوا نماذج عديدة للممارسات القمعية
التي يواجهها الصحافيون في الجنوب، خاصة إبان فترة الانتخابات العامة الماضية، وامتلك بعضهم شجاعة كبيرة وهم يفصحون عن ذلك حتى في وجود مسؤولين من حكومة الجنوب معنيون بالإعلام. وذكر لي أحد كبار الصحافيين الجنوبيين في حديث جانبي أن الحركة الشعبية تحاول أن تصنع نموذجاً ديكتاتورياً لحكم الجنوب إلا أنها تفتقر للخبرة والأدوات اللازمة لذلك على حد تعبيره.
هذا في شأن موقف قطاع مهم من النخب الصحافية الجنوبية من الحركة الشعبية، ولكن ما أن يأتي الحديث عن جدل الوحدة والانفصال، حتى يبدوا جميعاً مصطفين بلا تردد خلف خيار الانفصال والدعوة لاستقلال الجنوب، وهو ما تشير دلالته إلى أن الموقف الداعم للانفصال في الأوساط الجنوبية لا يستند إلى موقف الحركة الشعبية بالضرورة، ولكنه بالتأكيد يخدم خطها السياسي ويعزز خيارها الساعي بقوة للحصول على استقلال الجنوب لتدخل التاريخ باعتبارها «محررة الجنوبيين من الهيمنة الشمالية».
وما يؤكد ذلك أن سياسياً جنوبياً بارزاً معارضاً للحركة الشعبية اتفق معي فيما ذهبت إليه، فهو يرى أن الغالبية العظمى من الجنوبيين تريد الانفصال بالفعل ولكن ذلك لا يعني بالضرورة تاييداً للحركة الشعبيية بل دافعه اعتبارات أخرى، ولذلك فما يجمع الجنوبيون على الغالب هو الوصول إلى محطة الاستفتاء والتصويت لصالح الانفصال، والحصول على الاستقلال، أما معركة خصوم الحركة الشعبية معها فهي في حسابات البعض مؤجلة لما بعد تحقيق الهدف المنتظر، وإن كان من بينهم من يود لو أنها لم تظفر بذلك الإنجاز التاريخي ك«محررة للشعب الجنوبي» ولكن للسياسة كما للضرورة أحكام.
الوحدة خيار يتيم في جوبا:
ولسائل أن يسأل ولماذا لا يكون ذلك الافتراض عن غلبة المزاج الانفصالي في الجنوب تعبير عن موقف النخب أكثر من كونه تأكيدا لموقف شعبي عام، وحين سألت مثقفاً جنوبياً مسلماً عن كيف يرى توجه الرأي العام الجنوبي إزاء قضية الوحدة والانفصال، تجنب الإجابة مباشرة وردا علي متسائلاً بطريقة توحي برأيه، أنت صحافي فلماذا لا تستطلع أراء عامة الناس هنا لتعرف ما يريدون. وبالطبع لم أكن أنتظر هذه الإجابة كما لم أكن في انتظار اقتراحه لتنفيذه، فهو ما فعلته ابتداءً، وما أن تسأل أحداً في جوبا إلا وكانت إجابته جاهزة، الانفصال والاستقلال، فالوحدة خيار يتيم في جوبا، وفي الواقع لا يرد ذكره اصلاً حتى كخيار محتمل.
وكان مما دعا إليه ميثاق الشرف الصحافي الذي اقترحه حوار المائدة المستديرة بجوبا، تقديم توعية وتغطية متوازنة للمقترعين في الاستفتاء عن خياري الوحدة والانفصال، ولكن ذلك وإن ورد في نصوصه إلا أنه فعلياً ليس وارداً تنفيذه، فالإعلام الجنوبي لا يرى مبرراً اصلاً لمنح تغطية متوازنة لخياري الاستفتاء ، إذا تتجاهل وسائل الإعلام المتعددة، الرسمية والخاصة ، كلية خيار الوحدة ولا تلقي له بالاً، وتعج الصحافة الجنوبية بالتغطيات والأخبار والآراء الداعمة لخيار الانفصال، وما هو أكثر دلالة من ذلك أن الحركة الشعبية، كما بعض منتقديها من الإعلاميين الجنوبيين، يتفقون في احتجاجهم على حملات الحراك الوحدوي السائدة في الشمال، حتى وإن كانت لا تجد آذاناً صاغية في الجنوب، أو وسيلة للاستماع إليها اصلاً.
لماذا يريد الجنوبيون الانفصال؟:
ربما كان هذا السؤال الاهم الذي يحتاج الشماليون الإجابة عليه، خاصة الداعين للحراك الوحدوي، قبل أن يتوقعوا خياراً غير الانفصال في الاستفتاء القادم، فالتمنيات والنيات الطيبة وحدها لا تصنع وحدة مهما اجتهد البعض في تقديم مغريات مادية لجعلها جاذبة.
ومشكلة الحراك الوحدوي الراهن في الشمال لا تأتي فقط من أنه جاء متأخراً وبعد فوات الآوان بحساب الفترة الانتقالية المحددة بمواقيت معلومة وموعد نهائي محسوم لاتخاذ قرار مصيري خطير، ولا تأتي من كونه يمثل منلوجاً فحسب يخاطب النفس ويعكس الآمال المعقودة على معجزة ما، ولا من كونه آذان في مالطا لا يسمعه ولا يتفاعل معه المعنيون بالأمر، مشكلة الحراك الوحدوي الشمالي كما هي مشكلة العقل الشمالي كله أنه حتى الآن وبعد كل هذا التاريخ من الصراع المرير لم يستطع أن يفهم أو يحس ماذا يريد الجنوبيون حقاً، ولم ينجح في إدارة حوار عميق ينفذ إلى أعماق النفس الجنوبية ليدرك كيف تفكر وتشعر وماذا تطلب.
لقد حققت اتفاقية السلام الشامل الكثير من المطالب الجنوبية في السلطة والثروة، وكفلت نظرياً الكثير من الحقوق السياسية والقانونية، ولكنها مع ذلك كله لم تحقق للجنوبيين إشباعاً وجدانياً ونفسياً ولم يجدوا فيها تحقيقاً للذات والإحساس بالكرامة الإنسانية والمساواة. ولم توفر لهم سبيل عبور الحواجز النفسية الضخمة التي راكمها الصراع والاقتتال على مدى عقود حتى تحولت افتراضاتها المشككة وتصوراتها المتوهمة أحياناً في الحط من مكانة وقيمة الإنسان الجنوبي عند الشماليين إلى مسلمات.
وذلك هو مأزق تسوية نيفاشا أنها بنيت على حسابات سياسية محضة خاطبت مكاسب وامتيازات السلطة وافتقرت للبعد الإنساني والوجداني، ولم تنفذ إلى ما وراء ذلك لتمثل حواراً حقيقياً مع الآخر بما يمكن من تجاوز الحواجز والأبعاد النفسية للصراع الشمالي الجنوبي. ومع أن الاتفاقية تضمنت في جداول تنفيذها إلى ضرورة إجراءات تصالح وتعافي لتجاوز تلك الآثار العميقة إلا أن شيئاً من ذلك لم يتم تنفيذه على الإطلاق، وهو مطعن كبير في فهم قيمة السلام وضرورة استدامته، وما كان ذلك بدعاً فتجربة جنوب إفريقيا الأكثر مرارة تجاوزت مرارتها ليس بنيل السلطة السياسية فحسب، ولكن بتجربة المصالحة والمصارحة الناجحة، وتجربة إفريقية أخرى أشد فظاعة تلك التي شهدتها رواندا تجاوزت محنتها بنجاح بفعل القيادة الحكيمة للرئيس بول كاغامي المستندة على أسلوب المصالحة ذاته، وكلا التجربتين تثبتان أن السلام أكثر من مجرد لعبة مناورات سياسية أو الانتصار في صراع على السلطة وامتيازاتها.
ببساطة يريد الجنوبيون الانفصال والاستقلال لأن اتفاقية السلام التي حققت لهم الكثير من عرض السلطة لم تنجح في مساعدتهم على تجاوز الحواجز النفسية العميقة التي خلفتها سنوات الصراع بكل ظلالها السلبية، لقد كان افتراض أن مجرد إتاحة مغانم الحكم وإغراءاته ستكون كافية لتحقيق شروط الوحدة الجاذبة، كان خطأ كبيراً، فما من كائن يشتري حريته وإنسانيته بالذهب.
هل تريدون وحدة بالمراسلة؟.
وفي الحقيقة فإن الحواجز النفسية التي لا تزال قائمة ليست وحدها المسؤولة عن غلبة المزاج الانفصالي في الجنوب، فإن ثمة اسباباً مادية تفاقم من ذلك، أهمها انعدام أو محدودية التواصل بين الشمال والجنوب، وانحسار العلاقات الاقتصادية بين شطري البلاد، وهو ما لخصه رجل أعمال شمالي مقيم بالجنوب تحدث بحسرة عن ذلك بقوله إن الشماليين يريدون وحدة بالمراسلة، في ظل الفشل في إقامة مشروعات بنية أساسية لربط الشمال والجنوب لتسهيل التواصل البشري والتبادل التجاري، فقد انقضت الفترة الانتقالية دون أن يشيد طريق بري واحد يربط بينهما، ولو كان لأطراف الجنوب المتاخمة للشمال كأن يوصل الطريق البري الذي يصل حتى فلج في حقول عدار ييل إلى مدينة ملكال مثلاً، دعك من أن يتجاوزها لأن يصل مناطق اخرى من عواصم وحواضر الجنوب، السكك الحديدية التي كانت تربط الشمال بالجنوب منذ عقود لم يلتفت إليها إلا في الاشهر الأخيرة، النقل النهري الوسيلة المعهودة التي ظلت أكثر فعالية في الربط بين الشمال والجنوب وتعد ناقلاً استراتيجياً جرت خصخصتها لتباع لقطاع خاص أجنبي ولم يدرك قيمتها الاستراتيجية للسودان وفشل في تفعيلها في مثل هذا الوقت العصيب، وسائل النقل الجوي التي استمرت وقفت تكلفتها الباهظة حجر عثرة أن تكون وسيلة فعالة للتواصل بين شطري البلاد، لقد كان من نتائج هذه العزلة غير المجيدة هذه العواقب السيئة التي وضعت المزيد من العوائق أمام التواصل الإنساني، وتبادل المنافع، ومنع الإندماج البشري الطبيعي. ومع ذلك كله هل لأحد أن يحتج لماذا يختار الجنوبيون الانفصال؟.
جوبا تتجه شرقاً....
ولأن الطبيعة لا تعرف الفراغ، ما كان الجنوب لينتظر مواجهة المزيد من العزلة بفعل الغفلة الشمالية عن أهمية وضرورة تعزيز التواصل معه، ولماذا ينتظر والبديل أمامه جاهز فقد اتجه بلا تردد شرقاً، ليتعزز تواصله اللامحدود مع شرق إفريقيا، وتدفقت البضائع والعمالة ورجال الأعمال والمؤسسات الاقتصادية ورؤوس الأموال من دول شرق إفريقيا حتى دخلها المغامرون من الصومال ورواندا فضلاً عن كينيا ويوغندا بالطبع، واصبحت التجارة مع شرق إفريقيا أكثر جدوى من التعامل مع الشمال الذي أفقده انعدام وسائط النقل الرخيصة والسريعة فرصة المنافسة مع الاسواق الإفريقية المجاورة، ولقد ذهل أحد رجال الأعمال الشماليين المرموقين في مجال النقل وهو يحصي حجم حركة النقل النشطة والكثيفة بين الجنوب وشرق إفريقيا.
أما ثالثة الأثافي فقد كانت إغلاق المصارف السودانية لأبوابها في الجنوب بدعوى رفضها لممارسة النشاط المصرفي التقليدي، وتقيدها بالنظام الإسلامي، وكان أن تركت الساحة خالية لتحتلها المصارف الأتية من كينيا وإثيوبيا ويوغندا، لقد كان رحيل المصارف الشمالية من الجنوب إنذاراً مبكراً بأن الانفصال واقع لا محالة، لقد كان افتقارها للسعة الفكرية والفقهية في التعاطي مع هذا التحدي المصيري سبباً في وقوع انفصال اقتصادي مبكر، ولم يبق إلا ان يتأكد سياسياً.
لذلك كله وأكثر يريد الجنوبيون الانفصال، ولن يفلح الحراك الوحدوي الفوقي في تغيير هذه المعادلة وهو مدفوع بالعقلية ذاتها التي أنتجت هذا الوضع المأزقي، وربما يتمكن من استدراك بعض غلواء الانفصال، والتأسيس لعلاقات مستقبلية أفضل قد تستعيد الوحدة ولو بعد دهر، لو أنه بدأ من النقطة الصحيحة بالفهم الصحيح لدوافع الانفصال عند الجنوبيين والتعامل مع جذورها بنهج علمي طويل النفس، والكف عن نهج الفهلوة والتهريج السياسي في محاولة انقاذ الوحدة المؤودة.
لقد كتبت قبل نحو عام مقالة عنوانها «قضي الأمر الذي فيه تستفيان .. أدركوا الكونفدريشن يرحمكم الله» توقعت فيه أن حدوث الانفصال اصبح مسألة وقت لا أكثر، ولكن مع ذلك فقد ظل ذلك في تقديري افتراضاً نظرياً مبنياً على معطيات سياسية في العلاقة بين الشريكين فحسب، ولكن ذلك تأكد لي للأسف عند زيارتي لجوبا الاسبوع الماضي بمعطيات أكثر دقة، ولم يكن سهلاً علي مغادرة جوبا وأنا أدرك هذه الحقيقة المرة، وبقيت أعزي نفسي بقصيدة المتنبي وقد جاءه نعي خولة أخت سيف الدولة الحمداني التي قيل أنه كان بينهما حب متصل:
طَوَى الجَزِيرَةَ حتى جاءَني خَبَرٌ..........فَزِعْتُ فيهِ بآمالي إلى الكَذِبِ
حتى إذا لم يَدَعْ لي صِدْقُهُ أمَلاً...........شَرِقْتُ بالدّمعِ حتى كادَ يشرَقُ بي
عن صحيفة (إيلاف) السودانية