إبعاد د. البدوي والمسكوت عنه حول بدائل سياساته: هل تملك الحكومة ترف التعاطي مع الوضع الاقتصادي بلا تحسّب للعواقب؟
(1)
قبل أن يجف مداد بيان الدكتور إبراهيم البدوي بشأن حيثيات استقالته، أو بالأحرى دفعه للاستقالة من وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي بملابسات تستبطن الإقالة، حتى تزايدت شواهد نذر العواقب الوخيمة لسيولة الأوضاع الاقتصادية الآخذة في التدهور بوتيرة متسارعة، مما يعكس خطورة استمرار حالة الفراغ العريض الحالية في إدارة الشأن الاقتصادي، في ظل عدم الإحساس الرسمي بمدى الدرجة الملّحة من أهمية التحرك العاجل بأقصى سرعة ممكنة للإمساك بزمام الأمور والتعاطي مع الأمور بما تستحقه من أولوية قصوى لا تدانيها أي أسبقية أخرى مهما عظمت، وتخطئ قيادة الحكومة خطأ جسيمة إن ظنت أن هذا التطور الكبير والتحوّل في مسار العملية الاقتصادية برمتها وتحدياتها الصعبة يمكن أن تترك هكذا لإدارة أمر واقع بتكليف مؤقت ليس ثمة ما يشير إلى أن من انتدبت له تتوفر على أية استعدادات حقيقية للقيام باستحقاقات هذا الموقع البالغ الحساسية في هذا الوقت العصيب.
(2)
ودون الخوض في تفاصيل ما ساقه البدوي، وهو على أية حال يحمل دلالات بالغة الحساسية في هذا التوقيت بالذات، مما لا يصلح معه أن تكتفي قيادة الحكومة الانتقالية حياله بالصمت أو التجاهل، والأمر هنا أبعد من مجرد اختلافات في وجهات النظر أو في تقييم مجمل أداء صاحب المسؤولية الأولى في الولاية على الإدارة التنفيذية للاقتصاد الوطني، والمأمول أن يفصح السيد رئيس الوزراء عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى إنهاء مسيرة علاقة العمل العام هذه على غير توقع ودون سابق إرهاصات، وواجب الرأي العام، فضلاً عن مقتضيات مواجهة الأوضاع الاقتصادية، تتطلب أن تكن هناك أعلى درجة من الشفافية في مخاطبة هذه القضية بعيد عن حقنها بأية محمولات شخصية. ذلك أن هناك ثمة فارق كبير بين أن تكون مغادرة السيد وزير المالية السابق نتيجة لخلافات جذرية حول التوجهات والسياسات الاقتصادية والبرامج التي تبنتها الحكومة رسمياً طوال مدة عهدته في الأشهر العشر الماضية، أم ان الأمر لا يعدو أن يكون متعلقاً فقط باختلاف حول أسلوب الإدارة أو القدرة في التنسيق والتعاون على إدارة ملفات الاقتصاد المعقدة.
(3)
لا شك أن هناك التباس شديد يحيط بمغادرة الدكتور إبراهيم البدوي المفاجئة لوزارة المالية في ظل إحجام قيادة الحكومة الانتقالية عن الأسباب الحقيقية لذلك حتى الآن، والأمر هنا لا يتعلق بصفته الشخصية، بل بمجمل رؤيته للإصلاح الاقتصادي والمشروع والبرامج التي تعبّر عنها الذي تبنى الدعوة لها حتى قبل وصوله إلى المقعد الوزاري، وقد نشرت صحيفة إيلاف في مطلع العام السابق في خضم الحراك الثوري مقالات له بهذا الخصوص، وبغض النظر عن الخلافات الحادة حول لتوجهات الاقتصادية التي طبعت علاقاته باللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير، الحاضنة السياسية المفترضة للحكومة المدنية الانتقالية، فإن الثابت أن هذا المشروع الاقتصادي لم يعد خاصاً بالدكتور البدوي وقد تبنته الحكومة رسميا وأجازه المجلس التشريعي المؤقت الذي يضم مجلسي السيادة والوزراء، والمرتكز على التحرير الاقتصادي وتطبيع علاقات السودان مع مؤسسات التمويل الدولية وهو ما يتطلب بالضرورة، ضمن اشتراطات أخرى، تنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي متفق عليه مع صندوق النقد الدولي وتحت رقابة موظفيه، فضلاً عن التعويل على شركاء السودان لتقديم تمويل سخي سواء لبرنامج الدعم النقدي للأسر، أو للتمويل المباشر لإيرادات الموازنة لسد العجز المتفاقم.
(4)
المفترض وفقاً لهذا السياق بعد انعقاد مؤتمر شركاء السودان في برلين، ولسنا هناك في معرض تقييم مدى جدواه الذي تناولناه بالتفصيل في ثلاث مقالات مطولة خلصت إلى أنه فشل في تحقيق توقعات الحكومة منه، وإلى إبرام اتفاق مع بعثة بالبرنامج المراقب من قبل موظفي صندوق النقد الدولي والمفترض أن يعرض على مجلس المديرين التنفيذين للصندوق الشهر القادم للمصادقة عليه، المفترض وفقاً لهذا السيناريو أن تشرع الحكومة في تنفيذ ما يليها من تعهدات وفق "اتفاق إطار الشراكة المتبادلة" الذي أبرمته الحكومة مع مجموعة أصدقاء السودان في اجتماع باريس في 7 مايو الماضي، الذي يلزم الحكومة باتباع نهج تحرير اقتصادي تحت مسار ورقابة صندوق النقد الدولي في مقابل الحصول على مساعدات شركاء السودان التي تعهدوا بها في اجتماع برلين، ولذلك فقد كان من المفهوم أن تشرع الحكومة الانتقالية فوراً في تنفيذ سياسات التحرير الاقتصادي التي كانت رسميا محل اتفاق أصلاً، وإن بقيت عالقة مؤقتاً في انتظار عقد المؤتمر الاقتصادي لحسم القضايا الخلافية حول توجهات الاقتصاد وسياساته الكلية، غير أن الحكومة سارعت إلى الإعلان عن إلغاء هذا المؤتمر قبيل أيام من انعقاد اجتماع أصدقاء السودان في باريس في مايو الماضي الذي مهّد الطريق أمام مؤتمر برلين الذي حسم الخلاف حول الوجهة الاقتصادية بتبني نموذج الإصلاح الاقتصادي المرسوم من قبل صندوق النقد الدولي.
(5)
هنا يقفز تساؤل كبير حول مغزى توقيت التعديل الوزاري المفاجئ الذي لم يكن مدرجاً في أجندة الرأي العام ولا جدالات المشهد السياسي، على الرغم من أن الشكوى من ضعف أداء الحكومة ظل مثاراً منذ وقت طويل، وللمفارقة أن حشود الثلاثين من يونيو التي خرجت تطالب باستكمال مهام الثوة لم يكن إجراء تعديل وزاري من بينها، فضلاً ان السيد رئيس وزراء خرج في خطابه عشية الخروج الكبير ليعلن عن اتخاذ إجراءات صعبة وشيكة في غضون أسبوعين تضمنت إشارة للمجال الاقتصادي، وهو ما فهم على نطاق واسع بأنه تنبيه للشروع في تنفيذ استحقاقات مؤتمر برلين للتحرير الاقتصادي، ولكن انقضت الاسبوعان المشار إليهما، وبدلاً عن تنفيذ مطالب الشارع، جرى تحت غطاءها الإعلان بدون مقدمات عن إقالة سبعة وزراء، بالطبع تم إخراجها تحت لافتة استقالات، أما مفاجأة المفاجآت فقد كانت إقالة زير المالية والتخطيط الاقتصادي في الوقت المفترض أن مهمته ستبدأ للتو، لعل الأمر الأكثر أهمية في تفسير دلالة ذلك ما وصفه الدكتور البدوي ب"عدم الفعل" من قبل الدكتور عبد الله حمدوك حين طلب منه عرض الاتفاق مع بعثة صندوق النقد الدولي والموازنة المعدلة وفق ذلك، أي المتضمنة تحرير أسعار الصرف والسلع المدعومة، على مجلس الوزراء لإجازتها توطئة للشروع في تنفيذها، وبغض النظر عن إشارة البدوي لمطالبته بفرض ولايته الكاملة على إدارة ملفات الاقتصاد، إلا أن الراجح أن إلحاح وزير المالية على الشروع في تنفيذ سياسات التحرير الاقتصادي هو الذي عجّل باتخاذ قرار "إبعاده" تحت ستار تعديل وزاري محدود أعد على عجل بدلالة أنه لم تكن هناك مشاورات سياسية مسبقة أو جاهزية لتعيين من يخلفهم لتشغل بتكليف مؤقت، لا سيما وقد تم نفي أن تكون للخطوة علاقة بمفاوضات جوبا، ولكن لماذا حدث ذلك وما الداعي له؟
(6)
الراجح أن السيد رئيس الحكومة وفريق مستشاريه المقربين لجأ إلى هذه المناورة المباغتة على ضوء حسابات معقدة فرضتها اعتبارات ارتفاع الكلفة السياسية والاجتماعية لسياسات التحرير الاقتصادي على شعبية الحكومة في وقت تتفاقم أزماته على أكثر من صعيد، فضلاً عن أن شركاء السودان الذين فرضوا عليها هذا المسار لم يؤمّنوا لها الدعم اللازم للإقدام على هذه الخطوة البالغة الصعوبة إن لم نقل الاستحالة بغير مساعدة مالية كبيرة مباشرة لدعم المالية العامة. وهو ما يجعل الحكومة محاصرة بين مطرقة الشارع المحتقن أصلاً، وسندان مجتمع المانحين التي أسرفت في الرهان عليه، وفي التعظيم من شأن مؤتمر برلين وهي تعلم تواضع مخرجاته.
وفي محاولة للإيحاء بأن إبعاد الدكتور البدوي جاء لاعتبارات أخرى، بما في ذلك الإشارة المبهمة لتقييم الأداء، جاء الحرص على تكليف مساعدته هبة محمد علي بغرض إرسال إشارة للشركاء الدوليين أن هذا التغيير لا يتعلق بالسياسات، وإنما بشخص الوزير، وأن خليفته ستواصل العمل في الطريق نفسه، وهو بلا شك أمر مستبعد كما أشرنا آنفاً في تحليل دواعي هذه الخطوة للخروج من مأزق الشروع في تنفيذ سياسات التحرير.
(7)
ولكن من المهم التأكيد على أن هذه المناورة السياسية قصيرة النفس، ولن تستطيع الصمود طويلاً أمام حقائق الأوضاع الاقتصادية البالغة التعقيد، وفي ظل تراجع متسارع لكل مؤشرات أداء الاقتصاد الكلي، وهوما يجعل قيادة الحكمة لا تملك ترف الانتظار وشراء الوقت، لا سيما ومعاش الناس يتأثر سلباً بوتيرة يومية تحت هذا الضغط، وبالطبع لن تفوت هذه المناورة للتخلص من مسار برلين وصندوق النقد الدولي على العقل السياسي للشركاء الدوليين، فضلاً عن أن الشخصية التي اختيرت للقيام بهذا الدور لا تتوفر لها الخبرة الكافية في هذا المضمار بكل أبعاده، فالعمل ضمن فريق في شأن فني محض، لا يؤهل صاحبه بالضرورة لتسنم موقع بهذه الأهمية يتطلب درجة عالية من الخبرة والتجربة والمعرفة السياسية وحساسية المجال العام، ولعل التصريحات الكثيرة التي أدلت بها في الأيام القليلة الماضية تكشف محدودية وضعف درجة التأهيل المطلوبة للمنصب.
(8)
على أية حال لا يملك السيد رئيس الوزراء ترف أن يترك ملف الاقتصاد بكل أهميته الحيوية وتبعاته الخطيرة لهذه الحالة من الفراغ الكبير، فالبلاد لا تزال بلا رؤية ولا نهج اقتصادي، وبلا مشروع تنموي حاكم، ولا سياسات ولا برامج، ولا إدارة اقتصادية موثوقة، وبالطبع حتى بلا موازنة معلومة، وهو أمر لا يحتمل أن انتظار أو تسويف وإلا كانت عاقبة ذلك خسراً، ولذلك يجب عليه أن يسارع إلى تدارك هذا الأمر بأعجل ما يتيسر ووضع الأمور في نصابها فبل أن يفلت الزمام تماماً من بين يديه، ولا شيء مهم بلغت أهميته يفوق في اسبقيته معالجة المسالة الاقتصادية، وهذه مهمة عسيرة لا يصلح لها أي شخص، وعليه أن يتولى وزارة المالية بنفسه إضافة إلى رئاسة الحكومة والتحرك في هذه الملفات الخطيرة العالقة فوراً، إذا لا مجال بتاتاً لترك الأوضاع على ما هي عليه من فراغ خطير العواقب بكل ما تعنيه هذه الكلمة.
khalidtigani@gmail.com