إرهاصات التدخل الأممي الوشِيك في السودان و” خُرافة ” السيادة الوطنية

 


 

 

khalidsoltan@gmail.com

حاشية:

* ما كان لمليشيا الدعم السريع أن تنشأ الا في كنف سلطةٍ شائهةٍ نزِقة كدولة الإسلامويين البائدة، غير إن مسؤولية تعَملُقِ هذه المليشيا وتَجَبَّرها يتحمل وزرها بالكامل قادة المؤسسة العسكرية الذين لا تنتطح عنزان في كونهم إمتداداً للبشير وصنواً له في الخِفَّةِ وَالطَّيْشِ والخِسَّة .. ولَئِن تمنينا نصراً للجيش يبدد مشروع هذه المليشيا المتوحشة بتدشين “مملكة الجنيد الكبرى”، إلا أن ما يتواتر عن يوميات المعارك لا يشي بحسمٍ ناجز للأسف ..

* أفترضُ، وعلى وجه الخصوص في راهننا السوداني البئيس، أننا قد رُزِئَنا بنخبٍ تفتقد الرُّشدَ والتعقُّل وحسُّ المسؤولية .. فقد “أبدع” العسكريون وتفننوا في عرقلة بلوغ ثورة ديسمبر المجيدة غاياتها النبيلة، ثم توجوا خيباتهم بإقتتال شقيٍّ ضاعف مما يُكابِده العبادُ من عنتٍ وأجهز على ما تبقى من بنى تحتية متهالكةٍ أصلاً، بينما تشتت شملُ القوى المدنية: بفعل تهافت يمينها على التسويات النيئة وبريق سلطةٍ خُلَّب من ناحية، وتعنُّتِ يسارها الذي صار يغلب في خطِّه التَأَسَّي بفكرة All-or-non من الناحية الأخرى .. أما رهطُ ما يسمى بحركات سلام جوبا ومن والاه، فقد أوغل – أَعاذَكم الله – في شحِّ النفس وأسرف في الجهالة وإمْلاق الهمَّة ..

* تأسيساً على فرضيتي المركزِّية باِنْمَحَاقِ التعقُّل والرشد عند غالب الفاعِلين (ولاةِ أمرٍ، عسكريينَ، ومدنيِّين)، فقد دأبتُ – غير هيابٍ – على المناداة بتدخل الامم المتحدة تحت الفصل السابع لفرض السلام في السودان فرضاً، ونجدته من فجور بعض بنيه ..

* أما حماسي المبذول لأمر التدخل فقد إستقبله بعضهم بشيء من التوجُّسِ، أو قل الإمتعاض الذي ربما كان مردُّه وقوعهم تحت سطوة التعبئة الخاطئة للرأي العام (جهلاً أو تعمداً) بدعاوى العزة الوطنية والسيادة التي سنرى كيف ان مداها ليس بالإتساع الذي يظنه هذا البعض، وكيف ان السيادة لم تعد امتيازاً في عالمٍ غدا فيه القانون الدولي يعلو على القطري، ولا قيمة هنا لإعراضِ من أبى ..

* تناول موضوع السيادة في سياق أزمة الإحتراب السوداني عددٌ من الاقلام الرصينة، لعل أبرزها ما سطره أستاذنا كمال الجزولي الذي كفى وأوفى الكيل في مقاله المرموق “عِيْدٌ بِأيَّةِ حَالٍ الدَّعْوَةُ لِعَوْدَةِ القُبُّعَاتِ الزُّرْق!”، غير أني إرتأيت بهذه الكتابة أن أتوسع قليلا في التقعيد النظري للمسألة، حتى يكون النقاش مع من توجّس الشّرّ على محجةٍ بيضاءَ من الفهم والإدراك .. (وعند إبن منظور: المحجة جادة الطريق، أي وسطه، وبيضاء لوضوحها، ولذلك قيل: ليلها كنهارها أي لا لبس فيها، واضحة جلية لسالكها ..)

* عذراً على الإستطراد – الضروري في تقديري – في هذه الحاشية التي كادت ان تصبح مقالاً موازياً، فإلى المتن ..

(١)

يُطلقُ اسم صلحُ وستڤاليا على معاهدتيْ السلامِ اللتينِ تم توقيعمها في العامِ 1648م … أنهتْ هاتانِ المعاهدتانِ حربَ الثلاثينَ عاماً في الإمبراطوريةِ الرومانيةِ المقدسةِ وحربُ الثمانينَ عاماً بينَ إسبانْيا ودولةُ المقاطعاتِ السبعِ المنخفضةِ التي كونت مملكة هولنْدا الحالية ..
بالإضافة إلى مندوبي الإمبراطورِ الرومانيِّ، فقد وقعَت على هذه الإتفاقية ممالكِ فرنْسا، إسبانْيا السويدِ، جمهورية هولندا، وعدد من الإماراتِ الكاثوليكيّةِ والبروتستانتيّةِ التابعةِ للإمبراطوريةِ الرومانيةِ المقدسةِ ..

كان صلح وستڤاليا حاسمًا في ولادة مفهوم الدولة الوطنية المستقلة ذات السيادة (The National Sovereign Independent State) للمرة الأولى في تاريخ البشر، ففي الحقبة التي سبقت توقيع هذا الصلح، كانت الكيانات السياسية الإقطاعية أضعف من أن تمارس سلطة عامة مركزية وكانت غير قادرة من الناحية الهيكلية على الحفاظ على علاقات مستقرة مع الكيانات الأخرى المقابلة حيث كان على الملوك تقاسم سلطتهم مع النبلاء والكنيسة.

في عمله الشهير (Le Droit des Gens) الصادر في 1758، عرّف الفيلسوف السويسري الوضعي المبكر إيمير فاتيل (1714-1767) [الأمم أو الدول] 1 بأنها [هيئات سياسية، مجتمعات توحد أفرادها معًا وحشدوا قواهم، من أجل تأمين الرفاه والأمن المتبادلين]. والشرط الأساسي لتحقيق هذه الغاية هو أن تكون تلك الهيئات السياسية أو الدول متساوية وذات سيادة، أي [حرة ومستقلة عن بعضها البعض]2 بمعنى أن كل دولة هي الحكم الوحيد على حقوقها وإلتزاماتها بموجب ما أسماه “قانون الأمم”.

(٢)

لطالما كانت السيادة على المستوى المفاهيمي، مثيرة للجدل من حيث مداها وحدود تأثيرها؛ في هذا الصدد بإمكاننا تمييز مذهببن متباينين هما:

أ/ عقيدة الازدواجية:

ومن أعلامها هنري ويتون (1785-1848) وهو حقوقي ودبلوماسي أمريكي ذائع الصيت. تأثر ويتون في مقارباته النظرية لمفهوم الدولة إلى حد كبير بالألماني ج. ف. هيجل الذي ألهمت فلسفته ما يعرف بالعقيدة الإزدواجية (Dualistic Doctrine) … شددت هذه العقيدة تشديداً مغلظاً على مبدأ سيادة الدولة، وإقترحت فكرة الثنائية المؤسسة على فرضية إن النظامين القانونيين الوطني والدولي منفصلين تمامًا وإن: [القانون الدولي ليس فوق الدولة، وينبغي بدلاً من ذلك إعتباره قانونًا خارجيًا للدولة والتعامل معه كأداة قانونية تمارس الدولة من خلالها سلطتها] 3.

ميز ويتون في كتابه “عناصر القانون الدولي” (1836) بين السيادة الداخلية والسيادة الخارجية، فقال: [إن السيادة الداخلية لدولة ما لا تعتمد بأي درجة على إعتراف الدول الأخرى بها. الدولة الجديدة التي تظهر إلى الوجود لا تتطلب إعتراف الدول الأخرى لتأكيد سيادتها الداخلية …. من ناحية أخرى، قد تتطلب السيادة الخارجية لأي دولة إعتراف دول أخرى لجعلها كاملة
مكتملة]4 .

ب/ العقيدة الأحادية:

في المقابل، ينكر المذهب الأحادي (Monoistic Doctrine) الإفتراضات الرئيسية للعقيدة الإزدواجية فيما يتعلق بسيادة الدولة الوطنية إزاء القانون الدولي. يؤمن فقيه القانون والسياسة البارز، النمساوي هانز كيلسن، (1881-1973) بالتسلسل الهرمي المعاكس: [إن القانون الدولي يعلو فوق الدولة ونظامها القانوني الوطني]5 و [يحد القانون الدولي من سلطة الدولة ويقيدها تجاه الفرد ووضعه المستقل داخلها]6 .

(٣)

من الواضح إن الفضل يرجع بالكامل للعقيدة الأحادية في إستيلاد المفاهيم المعاصرة فيما يلي القوانين والمؤسسات، فقد مهد فكر هذه المدرسة الطريق لظهور المؤسسات الدولية والقانون الدولي الحديث الذي لا يعنى فقط بالدول ولكن يعنى أيضًا بوضع الأشخاص الطبيعيين داخل هذه الدول نفسها. كما مهد هذا الفكر الطريق لإعتماد القيم العالمية السامية المشتركة كالديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا تغيب عن نظر المتابعين ان الوقت الحاضر يشهد تصاعداً في إستعداد مزيدٍ من الدول لتكييف وتعديل قوانينها الوطنية لتجنُّب تعارضها مع مبادئ ومواثيق القانون الدولي.

أما التطور الأبرز والأخطر في القانون الدولي فقد كان تبني المجتمع الانساني لمبدأ مسؤولية الحماية (Responsibility to Protect) الذي كان بمثابة التتويج الحاسم للنزعة الأحادية الواضحة في تطور القانون الدولي.
ويُعرّف مبدأ “مسؤولية الحماية” بأنه إلتزام سياسي دولي أقرته القمة العالمية في 2005 ثم أعادت الأمم المتحدة التأكيد عليه في عام 2006 وكان أهم ما تضمنه7 هو تقييد سيادة الدولة الوطنية ويقوم ببساطة على أساس
إفتراض:

1-,إن الوحدات السياسية (الدول) تتمتع بالسيادة لرعاية شؤون القاطنين تفويضاً (تفهم عبارة تَفْويضًاً هنا كما لو كان المجتمع الدولي هو صاحب السيادة الأصيل، وكما لو إنه قد أناب الدول لتقوم مقامه في بسط هذه السيادة الضرورية لرعاية شؤون من يسكنها).

2- أن سيادة الدولة تستلزم “مسؤولية حماية” جميع السكان من الجرائم الوحشية الجماعية والإنتهاكات الفظة لحقوق الإنسان؛

3- بالتالي، فإن السيادة ليست إمتيازًا، بل هي عبءٌ وإلتزام. إن لم تفِ الدولة الوطنية بإستحقاقات هذه المسؤولية جاز لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تجاهل سيادة الدولة وإستخدام كل الوسائل، بما فيها القوة الجبرية لمنع وقوع الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية .

(٤)

إذن فمنطق مسؤولية الحماية يتضمن “أن لا ولاية لغير الراشد” وإن “إحترام”
سيادة أي دولةٍ والتسليمُ بأحقيَّتها في التمتُّع بإستمرارِية وسريان هذه السيادة مشروطٌ بنُضْج وحكمة الطبقة السياسية فيها، فان عجزت أو لم ترغب سلطاتها في حماية مواطنيها، فستصبح السيادة حينها محض خرافة بلا أدنى قيمة ..

هذا ما وودنا أن نهمس به في آذان القابضين على تلابيب السلطة بغير إحسان والشارخين حلاقيمهم بدعاوى “سيادة البلاد” بلا فهم ولا فطنة ..

khalidsoltan@gmail.com

________________________________

هوامش:

1. E. Vattel, Le Droit des Gens, quoted in Crawford J. The Creation of States in International Law p. 7 2. Ibid p. 7 3. Nollkaemper A. Kern van Internationaal Publiekrecht p. 28 4. Wheaton H. Elements of International Law (chapter 2 pp. 15-18), quoted in Crawford J. The Creation of States in International Law p. 9 5. Nollkaemper A. Kern van Internationaal Publiekrecht p. 28 6. Ibid, pp. 27-31 7. See Chapter VII of the UN Charter: ACTION WITH RESPECT TO THREATS TO THE PEACE, BREACHES OF THE PEACE, AND ACTS OF AGGRESSION at http://www.un.org/en/sections/un-charter/chapter-vii/index.html

فيسبوك تويتر مشاركة عبر البريد طباعة

 

آراء