إسرائيل والسودان: ملحمة علاقة غامضة (2 -2) .. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
Israel and Sudan: the Saga of an enigmatic relationship
Jacob Abadi جاكوب أبادي
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لغالب الجزء الثاني من مقال البروفيسور جاكوب أبادي عن بعض جوانب العلاقة بين السودان وإسرائيل، نشر عام 1999م في العدد الخامس والثلاثين من مجلة "دراسات الشرق الأوسط Middle Eastern Studies".
تحصل كاتب المقال على درجة البكالوريوس من الجامعة العبرية في القدس، ودرجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة نيويورك بالولايات المتحدة. ونشر من بعد ذلك العديد من المقالات المحكمة والكتب في مختلف شؤون الشرق الأوسط والغرب.
وسبق لبروفسيور جبرائيل واربيرج الكتابة عن ذات الموضوع في مقال صدر عام 1992م في العدد الثامن والعشرين من مجلة "دراسات الشرق الأوسط" بعنوان "السودان وإسرائيل: فصل من العلاقات المشتركة".
وما ورد في هذا المقال الأكاديمي هو بالطبع وجهة نظر كاتب إسرائيلي، قد لا تتفق معها، قليلا أو كثيرا، أطراف متباينة في السودان. غير أن الرد على مثل هذه المقالات ينبغي أن يكون موضوعيا، رصينا، ومدعما بالمعلومات التي يمكن الاِستِيثاق من صحتها، وليس بغير ذلك.
المترجم
***** ******
(تعرض الكاتب في منتصف المقال لموقف حكومة النميري من إسرائيل، وآثرنا أن ننقل ذلك الجزء هنا. المترجم)
ظل النميري منذ أول يوم لثورته (25 مايو 1969م) من أشد المؤيدين للقضية الفلسطينية، ولمختلف فصائلها، خاصة "فتح". وانتقد النميري بشدة الملك حسين ودول عربية أخرى، والاتحاد السوفيتي أيضا، لما ارتكبوه ضد الشعب الفلسطيني، ولسعى بعضهم للتوصل لتسوية مع العدو، دون الأخذ في الاعتبار مصير الفلسطينيين. وقام النميري بتسليم قتلة السفراء الغربيين في الخرطوم في مارس 1973م لمنظمة فتح، واِتَّهَمَ القذافي بتدبير ذلك الحادث. غير أن موقفه من الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بدأ يلين مع مرور السنوات لرغبته في إصلاح علاقاته مع واشنطن، فأعلن غير مرّة في الثمانينات أن على الفلسطينيين – إضافة للكفاح المسلح - أن يسعوا للتفاوض مع إسرائيل.
وأثبتت عمليات إنقاذ اليهود الأثيوبيين الفلاشا ونقلهم لإسرائيل إمكانية التفاهم مع النميري وإقناعه بالتعاون مع إسرائيل عندما يكون الثمن مناسبا. وحكى آرييل شارون (الذي عمل وزيرا للدفاع في حكومة حزب الليكود اليمينية برئاسة مناحم بيقن) عن اللقاء الذي جمعهم مع النميري وعمر محمد الطيب (أكبر مسؤول للأمن في السودان حينها) في يوم 13 مايو 1982م بمنتجع Mount Kenya Safari
واتفق الجانبان في ذلك الاجتماع على أن عدوهما المشترك هي ليبيا، وعلى التعاون في نقل اليهود الفلاشا. ووافق النميري على خطة شارون الطموحة لتحويل السودان لترسانة ضخمة من الأسلحة والذخائر من كل صنف لتستخدمها إسرائيل – عند الحاجة – في عملياتها الخاصة. وتم الاتفاق في ذلك الاجتماع على تعويض النميري بدفع مبالغ مالية للسودان، وله في حسابه الشخصي (استشهد الكاتب هنا بمرجع استقى منه ما كتب، وهو كتاب عن تاريخ المخابرات الإسرائيلية بقلم دان رافيف ويوسي ميلمان عنوانه "Every Spy a Prince" في صفحة 261. المترجم).
وبحسب ما زعمه شارون في صفحتي 416 و417 بكتابه "المحارب"، فقد كانت إسرائيل قد سعت من قبل لمشروع طموح آخر يتطلب تعاون السودان. وتعلق ذلك المشروع بما ظل الإسرائيليون يحاولون القيام به منذ سنوات، ألا وهو مساعدة ابن شاه إيران (المقيم بالمغرب في تلك الأيام) في اِستعادة عرش والده بعد الإطاحة بنظام الخميني. وكانت الخطة الطموحة تقضي بتدريب جنود في السودان بمساعدة عسكرية من إسرائيل وعون مالي من آخرين. وتم الاتفاق على عقد لقاء آخر لمناقشة هذا الأمر في يوليو 1977م بالإسكندرية. غير أن إسرائيل انشغلت عن ذلك بما كان يدور تلك الأيام في لبنان. ولضمان التعاون الكامل في تنفيذ ما اتفق عليه دفع الإسرائيليون بسخاء لكل السودانيين الذين اعتبرت مساعدتهم في تلك الخطة أمرا ضروريا لا غنى عنه. واستخدمت إسرائيل نفوذ (المستعرب) جيري ويفير في وزارة الخارجية الأمريكية، والذي وافق على التوسط في الأمر وتسليم الطيب مبلغ 1.5 مليون دولار أمريكي. وفتح الإسرائيليون له حسابا مصرفيا بلندن لإيداع ذلك المبلغ (استشهد الكاتب هنا بمرجع استقى منه ما كتب، وهو كتاب عن تاريخ المخابرات الإسرائيلية بقلم يوسي ميلمان ودان رافيف عنوانه " Friends in Deed " في صفحتي 288 - 289. المترجم).
ولما وقع مناحم بيقن معاهدة "كامب ديفيد" مع الرئيس المصري أنور السادات، طلب منه إقناع النميري بالسماح بترحيل اليهود الفلاشا في معسكرات اللاجئين بالسودان إلى إسرائيل، خاصة بعد أن تواترت الأنباء بوفاة المئات منهم في تلك المعسكرات.
ومع ازدياد هجرة الفلاشا لمعسكرات اللجوء في السودان عام 1984م، ذلك العام الذي ضرب فيه الجفاف والتصحر المنطقة، كتب اسحق شامير، نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي، إلى جورج شولتز، وزير الخارجية الأميركية في شهر سبتمبر من ذات العام طالبا منه الضغط على النميري كي يسمح بترحيل الفلاشا إلى اسرائيل. وعلى إثر ذلك الخطاب وعدت واشنطن السودان بزيادة في عونها الاقتصادي له قدرها 200 مليون دولار، شريطة أن يتعهد السودان بالسماح بنقل الفلاشا لإسرائيل. وتعهد النميري لواشنطن بذلك، وبذا غدت الولايات المتحدة شريكا في "عملية موسى" لإنقاذ الفلاشا. وعلى الرغم من طلب النميري أن تظل عملية ترحيل الفلاشا عملية سرية، إلا أن تفاصيلها تسربت إلى الصحافة، وغدت هدفا لانتقاد الدول العربية. فكتبت صحيفة الرأي العام الكويتية ما نصه: "... لا يمكن أن نعد تهريب اليهود الإثيوبيين لإسرائيل عبر الأراضي السودانية مجرد حادث عابر، بل هزيمة جديدة للأمة العربية". غير أن النميري نفي لصحيفة الرأي العام السودانية في يوم 17/2/1985م أي علاقة له بتلك العملية ولام إثيوبيا على القيام بها، مؤكدا في الوقت نفسه تأييده للفلسطينيين في صراعهم ضد إسرائيل.
ولما وجهت الدول العربية أصوات اللوم لإثيوبيا لغضها النظر عن ترحيل الفلاشا في مقابل الأسلحة والأموال الإسرائيلية، رد عليهم قوو وولدي وزير الخارجية الإثيوبية (بين 1986 – 1989م) بأن النميري هو من يجب أن يلام، فهو من تَسَلَّمَ ما اتهموا إثيوبيا بتلقيه. وواصلت بعض الدول العربية في الضغط بشدة على النميري لإيقاف تلك العملية. ولما كان النميري يخشى من انتقام بعض العناصر الإسلامية المتطرفة فقد أمر بإيقاف العملية (زعم الكاتب في الهوامش أن فرض النميري لقوانين الشريعة له علاقة بالأمر. المترجم). لذا عاود الإسرائيليون الطلب من واشنطن الضغط على السودان لإكمال العملية. وبالفعل توسط جورج بوش شخصيا في الأمر، فوافق النميري على مواصلة العملية ونقل الثمانمائة المتبقين من الفلاشا بالطائرات لإسرائيل.
لقد نقل في "عملية موسى" تلك آلاف اليهود الفلاشا عبر السودان، بمعرفة تامة من "جهاز أمن الدولة" به. وحاول النميري إخراس الأصوات المعارضة بإصداره أمرا بمحاكمة أحد أعوانه بتهمة المشاركة في تلك العملية (كان مرجع الكاتب في هذا الزعم هو النص المكتوب لما دار في تنوير صحفي لوزارة الخارجية الأمريكية يوم 20/11/1985م، والذي ورد فيه تحذير من السفر للخرطوم بسبب تهديدات أمنية. الوثيقة رقم 506 صفحة 899. المترجم). وأقر مسؤول كبير في البيت الأبيض المتحدة بأن السودان قد تلقى من بلاده معونات غذائية إضافية و15 مليون دولار كعون أجنبي في مقابل الموافقة على نقل اليهود الفلاشا إلى إسرائيل (ورد ذلك في تنوير صحفي في يوم 1/4/ 1985م عن لقاء النميري وريجان، بحسب ما ورد في الهوامش. المترجم).
(للمزيد عن "عملية موسى" من وجهة النظر الإسرائيلية يمكن الاطلاع على كتاب By Way of Deception (عن طريق الخداع) بقلم Victor Ostrovsky . المترجم).
**** **** ***
وفي عام 1987م أعلنت الحكومة السودانية عن كامل تضامنها مع الانتفاضة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة. وفي ديسمبر 1988م أكدت حكومة السودان على اعترافها بالدولة الفلسطينية.
ومنحت الحكومة السودانية (في عهد الإنقاذ) مكتب منظمة فتح بالخرطوم وضعا دبلوماسيا، فصار ذلك المكتب يعرف بـ "سفارة دولة فلسطين" بحسب ما جاء في صحيفة "الانقاذ الوطني" في 10/2/ 1991م. وأتهم البشير في مقابلة صحفية له مع “الأخبار" المصرية في 3/3/1992م إسرائيل باستخدام تكتيكيات تعمد لتأجيل وتأخير المفاوضات التي كانت ستفضي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة. ولام البشير أيضا في 9/ 3/ 1992م الدول الغربية في تصريح لصحيفة "الرباط" التي تصدر في عمان لتشجيعها إسرائيل على السيطرة على الدول العربية عسكريا واقتصاديا. وإضافة للتصريحات المؤيدة للفلسطينيين قامت الحكومة السودانية بمنح حق اللجوء لكثير من العناصر الفلسطينية المتطرفة. فبحسب تقارير أمريكية (أوردتها صحفية “الحوادث" الصادرة من لندن يوم 28 فبراير 1992م) تسلم السودان مبلغ 30 مليون دولار من إيران لتشييد معسكرات تدريب لمتطرفين مسلمين من جهات مختلفة، شملت حزب الله اللبناني. وداومت الحكومة السودانية على نفي مثل تلك التقارير خشية الانتقام الإسرائيلي. ونقلت "الرأي" القطرية في 10مارس 1992م نقلا عن مصادر غربية أن صبري البنا (المعروف بأبي نضال، المتوفي ببغداد في ١٦ أغسطس 2002م. المترجم) كان يختبئ في السودان. وسارع علي سحلول وزير الخارجية السودانية بنفي الخبر، مطالبا الذين يتهمون السودان بإيواء إرهابيين بتقديم أدلتهم، ومتهما الولايات المتحدة ببث تلك الشائعات عن إيواء السودان لإرهابين، وأدان موقفها المؤيد لإسرائيل رغم ما تقوم به من إجراءات ضد سكان الأراضي المحتلة.
وتوالت التقارير التي تتهم السودان بإيواء المتطرفين الإسلاميين من كل أرجاء العالم العربي. وظلت السلطات السودانية ترد بأن الذين يقاومون الاحتلال والعسف لا يجب أن يدمغوا بالإرهاب. وذكر الصادق المهدي رئيس الوزراء السابق بأن بيقن وشامير كانا من المحاربين المتشددين ولا يحق لهما أن يصفا المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، وقال بأن ما أَلْجَأَ العرب لـ "وسائل متطرفة" هو التدخل الأجنبي عن طريق الإمبريالية والصهيوني. وكرر الترابي ذات المقولات في مقابلة له مع صحيفة "لا فياغرو" في 20/3/1992م، وفيها نفى الترابي إيواء السودان لأي عناصر متطرفة، خاصة الفلسطينيين، إذ أنهم كانوا قد هاجموا أجانب على أرضه من قبل. ورغم النفي المتكرر، ظل اتهام السودان بإيواء الإرهابيين الإسلاميين يتواصل في التسعينيات، وأفضى في 20/ 5/ 1998م لقصف مصنع الشفاء بالخرطوم بحري.
وعاودت التقارير عن تسليح إسرائيل لحركة تحرير السودان الظهور. وشكلت تلك الاتهامات عائقا كبيرا أمام أي إمكانية لإقامة علاقات ثنائية. وجاء في الصحف المصرية في سبتمبر 1992م أن قائد الحركة جون قرانق قد تحصل على شحنة أسلحة متنوعة وصلته عن طريق البحر عبر كينيا. وذكرت الصحف أيضا سلطات الجمارك الأمريكية في فلوريدا قد اكتشفت وجود عدد من الصواريخ من نوع (400 TOW) كانت سترسل إلى قرانق. وذكرت "الدولية" التي تصدر في باريس أن رئيس الوزراء الاسرائيلي أسحق شامير مع عدد من المختصين في وزارة الدفاع قد دعوا قرنق لزيارة إسرائيل لمناقشة طلباته من الأسلحة. غير أن قرنق كان ينكر على الدوام أي علاقة له بإسرائيل، كما ورد في مقابلاته الصحفية مع صحيفتي "الحياة، 22/6/ 1991م" و"الوسط، 3 – 9 /5/ 1993م". وأتهم غازي صلاح الدين، كبير مسؤولي العلاقات الخارجية بحكومة السودان، بعض المعارضين لحكم الإنقاذ، وليس الجنوبيين فحسب، بالتعاون مع إسرائيل، بحسب ما جاء في "السفير" البيروتية الصادرة في 11 يونيو 1993م.
واستخدم نظام البشير / الترابي قصة تعاون قرانق مع إسرائيل من أجل إصلاح ما تهدم من علاقات مع الدول العربية الأخرى. ووضح ذلك في الخطاب الذي ألقاه البشير في العيد الرابع لثورته، حين أكد أن السودان يسعى لتوطيد العلاقات مع الدول العربية والإسلامية. وأدانت الحكومة السودانية في ذات العام العدوان الإسرائيلي على لبنان، وأعلنت عن مطالبتها بانسحاب إسرائيل من جنوب لبنان وتنفيذ قرارات الأمم المتحدة ذات العلاقة. ولكن رغم كل مظاهر العداء لإسرائيل، فقد كانت الخرطوم دوما ترحب بأي اتفاق لإسرائيل مع الفلسطينيين. وصرح حسين أبو صالح وزير الخارجية السوداني، بحسب ما أذيع في الإذاعة السودانية في 16 سبتمبر 1993م بأن بلاده تؤيد دوما خيارات الفلسطينيين، وناشدهم نبذ الفرقة وتوحيد الجهود من أجل القضية الفلسطينية.
وكرر البشير في مقابلة تلفزيونية في 24 مارس 1994م هجومه على إسرائيل واتهامه لها بتزويد قرنق بالأسلحة، وذكر أن ذلك يقع ضمن المخطط الامبريالي الذي تقوده الولايات المتحدة لإطالة عدم الاستقرار بالسودان. وأتهم السعودية أيضا في 24 مارس 1994م بتقديم العون لقرنق. وصرح المتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة السودانية بأن العون الإسرائيلي لحركة التمرد في الجنوب بدأ منذ تأسيس تلك الحركة. ولعل السودان كان محقا في اتهامه لإثيوبيا واوغندا وإرتريا بالتدخل في شؤونه الداخلية. وأكد ذلك وزير الإعلام السوداني في مقابلة له مع "الرأي" الأردنية أتهم فيها إسرائيل باستغلال الأراضي الأوغندية للهجوم على السودان. وأتهم السودان إسرائيل، بالإضافة لمساعدته لحركة تحرير السودان، بمد إرتريا بالأسلحة أيضا.
وزاد التقارب والتعاون العسكري بين السودان وإيران في تلك السنوات من مخاوف إسرائيل. وكان الرئيس الإيراني علي رافسنجاني قد زار السودان في ديسمبر من عام 1991م مع وفد ضم عسكريين وخبراء مخابرات، وكان الغرض من الزيارة بحث أمر إقامة قاعدة (إرهابية) بالسودان بحسب ما جاء في صحيفة نيو يورك تايمز الصادرة في 26 يناير 1992م.
وزاد التقارب السوداني مع العراق من قلق إسرائيل. فقد ظل السودان يؤيد مواقف العراق، ويطالب الأمم المتحدة برفع العقوبات الدولية عنها. وزار وزير الداخلية عبد الرحيم محمد حسين بغداد في سبتمبر من عام 1993م، وصرح لصحيفة فيها بأن الحصار المفروض على العراق هو جزء من خطة إمبريالية صهيونية تهدف لتحطيم وحدة العراق الوطنية.
ولم تتحمس الخرطوم للاتفاق بين منظمة فتح وإسرائيل، وعبر البشير عن تحفظاته عليه في أكثر من مكان. وقال في يوم 2/3/1993م بأن ذلك الاتفاق قد يغدو مهددا خطيرا لإخراج الفلسطينيين من باقي الأراضي التي يقيمون فيها، ويهدد ذلك مستقبل حق تقرير مصير الفلسطينيين، و"يحيد" الانتفاضة. وأضاف بأنه، وقياسا على التجارب السابقة مع الدولة الصهيونية، فقد يكون لإسرائيل تفسيرا مختلفا لذلك الاتفاق غير ما يفهمه العرب.
وكان الترابي أشد انتقادا للاتفاق بين منظمة فتح وإسرائيل من البشير، إذ وصفه لصحيفة "السودان الحديث" في 21/ 4/ 1993م بأنه "عار" و"مخيب للآمال". وصرح لصحيفة "الشراع" في 24/5/ 1993م و"الحياة" في 30/9/1993م بأن تلك الاتفاقية هي ليست سوى "استسلام"، إذ أنها لا تقدم للفلسطينيين إلا الحق في إدارة محدودة. غير أن الترابي بدا متسامحا عند حديثه مع الصحفية الأمريكية جودث ميللر (والذي أوردته في مقال لها بمجلة Foreign Affairs في ديسمبر 1994م(، وقال بأن ليس هنالك شيء في الإسلام ضد اليهودية، أو ضد الدولة اليهودية، وأن النبي محمد نفسه كان قد عقد اتفاقية دستورية مع اليهود. غير أن الترابي في مقابلة له مع صحيفة فرنسية ذكر لاحقا أنه لا يشكك في وجود اليهود، ولكنه لا يوافق على قيام "دولة إسرائيل"، وندد بضعف العرب واستسلامهم لمطالب إسرائيل، وأكد أن ما من مسلم يقبل بأي مساومة أو مرونة في أمر القدس.
ورفض رئيس المجلس الوطني محمد الأمين خليفة في مقابلة له مع مراسل الإذاعة الإيرانية تلك الاتفاقية، ووصف إسرائيل بأنها نظام إرهابي غاصب، وأكد بأن السودان يؤيد حق الفلسطينيين في القدس (29/9/ 1995م). ورغم كل تلك الانتقادات، فإن النظام السوداني لم يعلن رسميا قط رفضه القبول بالاتفاق بين منظمة فتح وإسرائيل. فعلى الرغم من العلاقة الخاصة التي كانت تربط بين نظام البشير – الترابي وحماس، إلا أن علاقة النظام بعرفات ظلت قوية أيضا. ولم يشأ النظام السوداني أن يعارض مصر والولايات المتحدة (التي أيدت الاتفاق)، فأعلن عن مباركته للاتفاق. وأعلن وزير الخارجية (سليمان أبو صالح) في بيان صدر باسم وزارة الخارجية أن الاتفاق هو الخطوة الأولى في سبيل تحقيق حل شامل للمشكلة الفلسطينية يضمن انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة، وإعطاء الفلسطينيين حقوقهم. وجاء بيان وزارة الخارجية متوازنا بتلك الصورة كنتيجة لضغوطات من جهات عديدة، وحرص من صاغه على عدم إغضاب حماس وإيران، وإرضاء الجناح المناهض لهما في آن معا.
**** **** ****
وفي ختام المقال ذكر المؤلف أن البيانات المعادية لإسرائيل الصادرة عن الخرطوم أبانت أن مضمون تلك البيانات لا يماثل في غالب الأحيان أفعال ومشاهد التعاون مع إسرائيل التي بدأت منذ وقت مبكر.
وكان السبب الرئيس في محاولة بعض ساسة السودان (العمليين) إقامة علاقة مع إسرائيل هو الخوف من ضم السودان إلى مصر. ووقع السودان، باعتباره دولة عربية، تحت ضغط شديد ليثبت تضامنه مع العالم العربي. وكانت خشية الحكومة السودانية من المتطرفين السودانيين أحد أسباب تشديدها للهجوم ضد الدولة اليهودية. غير أن ظروف السودان الاقتصادية السيئة أجبرته – لأسباب عملية - في بعض الأحايين للقبول بالتعامل مع إسرائيل. وما تلك البيانات الغاضبة من المسؤولين السودانيين سوى محض محاولة لإرضاء الدول العربية وإظهار التضامن معها.
أما من وجهة النظر الإسرائيليين، فإنهم يرون ضرورة الحفاظ على نوع من التواصل مع الحكومة السودانية.
alibadreldin@hotmail.com