إضاءات على كتاب السودان: السلطة والتراث .. المؤلف: أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك

 


 

 

إضاءات على كتاب السودان: السلطة والتراث (الجزء الثالث)

 

المؤلف: أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك

الناشر: مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بإمدرمان

تاريخ النشر: مارس 2010م

 

_______________

مقدمة الكتاب

توجد بين السُلطة والتراث في السودان علاقة جدليَّة؛ لأن التراث في اصطلاحه العام يعني معتقدات الناس، وأعرافهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، وأشعارهم، وموروثاتهم المعيشية، وإن هذه القيم التراثية تسهم بدورها في صياغة أنساق السُلطة السياسية، ونظمها وقوانينها، وفي تحديد معالم السُلطة الشعبية التي يُصطلح عليها بالنفوذ الاجتماعي أو الروحي. وبمرور الزمن يتحول الإرث السُلطوي بشقية الرسمي والشعبي إلى تراث، ينظر إليه بعين الرضا من وجهة نظر الذين أسهموا في صياغته، أو الذين يَعدُّونه إرثاً لأسلافهم، وأحياناً بعين السُخط من قِبَل أصحاب الخصومة مع ذلك التراث. فلا عجب أن هذا التلازم الجدلي بين الإرث التاريخي وأنساقه السُلطوية المعاصرة قد دفعنا إلى تسمية هذه السلسلة بـ "السودان: السُلطة والتُراث". فقد صدر الجزء الأول منها عام 2008م، والثاني عام 2009م، والآن بين يدي للقارئ الكريم الجزء الثالث الذي يتفق مع الجزأين السابقين من حيث المنهج والعرض، أي أنه يعالج في صدره طرفاً من قضايا السُلطة وإسقاطاتها السياسية على المشهد السوداني، ويناقش في عجزه حزمة من القضايا التراثية التي تجسد عطاء نخبة من الشخصيات السودانية التي كانت، ولا يزال بعضها، يشكل حضوراً ثقافياً وأدبياً وإصلاحياً عبر أزمنة متفرقة وأمكنة مختلفة، وأن الواجب التاريخي يحتم علينا أن نوثق تلك الشخصيات في هذه المساحة المتاحة.

أما أن الجزء الخاص بالتراث وقضاياه فقد ماز نفسه عن الإصدارات السابقة؛ لأنه يؤرخ لإسهامات نفر عاشوا معظم سنوات كسبهم المعرفي وعطائهم الثقافي خارج ربوع السودان، وأن عطاء بعضهم ارتبط بأرض السودان؛ لأن الاغتراب الجغرافي لم يفصلهم روحياً عن واقع العيش في أوطانهم، ومعايشة مشكلاتها اليومية من زوايا متنوعة، وآخرون عاشوا خارج أرض الوطن، ولكنهم ظلوا يفخرون بالانتماء إليه، ويسطرون طرفاً من ملامحه في أنماط إنجازاتهم الرائدة، التي اتسمت في كثير من الأحيان بالإقدام، والصدق، والأمانة، والقدرة على تجاوز التحديات والخطوب في صبر وجلد من سبيل تحقيق أهداف سامية رسموها في لوحة نبراسية خالدة لمستقبل حياتهم الإنسانية. 

يتكون الجزء الخاص بالسُلطة وقضاياها من سبع مقالات. يسلط المقال الأول الضوء على قضية الهُويَّة من وقائع الحوارات التي أجراها الصحافي صلاح شعيب مع ثلة من الأكاديميين، والسياسيين، وناشطي المجتمع المدني في السودان، ثم يحللها في واقع البيئة السودانية، وتضاريسها السياسية والاجتماعية والفكرية المعقدة، وكيفية ربطها بمصطلحي الوطنية والقومية، باعتبارهما مصطلحين مفتاحين، لهما إسقاطاتهما الفكرية والسياسية الموجبة والسالبة في جدل السلطة والثروة في السودان. ويصب المقال الثاني في الاتجاه ذاته؛ لأنه يناقش مفردات العلاقة الجدلية القائمة بين المثقف والسلطة، وآليات تقويمها في ضوء الدور الذي يجب أن يقوم به المثقف تجاه القضايا الجوهرية في المجتمع، وبذلك يحاول المقال أن يرسم صورة ذهنية عن أنماط تعامل المثقف السوداني مع السلطة. ونلحظ أن بعض أنماط هذا التعامل الثنائي قد قادت إلى صياغة قرارات سياسية فطيرة؛ لأن المثقف أسس نُصحه إلى أهل السلطان وفق معايير كسب قطاعي، أو شخصي، دون أن يوفر الأرضية المناسبة لاتخاذ مثل تلك القرارات وتنفيذها على صعيد الواقع. وخير مثال لذلك مذكرة الأستاذ الشفيع أحمد الشيخ عن تصفية الإدارة الأهلية، والتي جعلناها محوراً للنقاش في المقال الثالث، حيث عرضنا محتواها، وحللنا إفرازاتها السياسية. واستند المقال الرابع عن مشكلة أبيي إلى تداعيات الهوية ودورها في صياغة الفعل السياسي في السودان، واستقى مادة نقاشه في هذا الشأن من كتاب الدكتور أمين حامد زين العابدين الموسوم بـ أزمة أبيي بين القانون الدولي ومسألة التحكيم. وفي السياق ذاته يأتي المقال الخامس الذي يقدم مقاربة تاريخية عن الانتخابات البرلمانية التي جرت في السودان (1953-1986م)؛ ثم يحاول أن يربط معطياتها ونتائجها بالانتخابات القومية المزمع عقدها في أبريل 2010م، وذلك من منظور قراءة متأنية في بُعديَّها الساكن والمتحرك، ونعني بالبُعد الساكن القواعد الدستورية، والقوانين، واللوائح الناظمة للعملية الانتخابية، وبالبُعد المتحرك الحراك السياسي الحزبي والقضايا المصاحبة له. أما المقالان الأخيران في هذا الجزء فيسلطان الضوء على شخصيتين مهمتين، أسهمتا في نضال الحركة الوطنية، وفي تشكيل أنساق الفعل السياسي بعد الاستقلال. وجاء الحديث عن الشخصية الأولى في صيغة تعقيب على مقال نشره الأستاذ شوقي بدري بعنوان "الدكتور أحمد أبوشوك .. أقولك"، كان الهدف منه إرشاد الباحثين بعدم النيل من شخصية والده الأستاذ إبراهيم يوسف بدري بأي تجريح يلامس أطرف وصفه بالعمالة. وسعياً وراء وضع الأستاذ إبراهيم يوسف بدري في دائرة الضوء والحوار الهادف جاء تعقيبنا في صيغة سؤال استنكاري: "هل يرفض الأستاذ شوقي إبراهيم بدري اتهام والده بالعمالة؟ مُسوِّغات الرفض وحجيَّة الاتهام". وقصدنا بذلك السؤال الاستنكاري الإثارة الصحافية؛ إلا أننا كرسنا جهدنا في تثمين عطاء الأستاذ إبراهيم بدري تثميناً موضوعياً، بعيداً عن إيماءات الانتماء العاطفي. والعَلَم الآخر الذي وثقنا له، وسردنا طرفاً من محاسن عطائه السياسية الدافقة هو الدكتور أحمد السيِّد حمد، وقد جاء ذلك التوثيق والسرد في صيغة رثاء، أعقبت وفاته التي حدثت في 29 سبتمبر 2009م.

            وبهذه التبصرة نأمل أن تكون قد اتضحت في ذهن القارئ الكريم معالم الجزء القائم على السلطة وقضاياها، وأما الجزء الشاخص في قضايا التراث فيتكون من سبع مقالات. جاء المقال الأول منها في صورة قراءة نقدية لكتاب الدكتورة آمال حسَّان فضل الله، استبطان الشرف: الخصوبة والغرابة والتكاثر (الاستمرارية) في شرق السودان، الذي صدر عن مطبعة جامعة وسكونسن الأمريكية، حيث أنها (أي القراءة) عرضت محتويات الكتاب، وعلقت عليها في منظومة الأدبيات التي تناولت قضايا مماثلة في السودان، وإن اختلفت من حيث الموقع الجغرافي؛ إلا أنها تماثلت في سُلم العادات والتقاليد والأعراف. والمقالات الثلاثة اللاحقة حاولت أن توثق لسير ثلاثة أعلام سودانيين، كانوا لهم قصب السبق في العمل الدعوي والهجرة خارج السودان، وهم: الأستاذ عبد الله بن إبراهيم حمدوه السناري (1857-1931م)، الذي دَرَسَ في الحرمين الشريفين، وبعد نيله الشهادة العالمية أسهم في تطوير النظام التعليمي في المملكة العربية السعودية، وأخيراً آثر الإقامة بمكة المكرمة وتوفي فيها؛ والثاني هو الأستاذ أحمد محمد سوركتى (1976-1943م) الذي زامل الشيخ حمدوه في الحرمين الشريفين، وعمل معه في مدرسة الفلاح التي أسسها الداعية الهندي محمد علي زنيل؛ إلا أنه فضل الهجرة إلى إندونيسيا، حيث لمع اسمه داعيةً إصلاحياً، ومؤسساً لجمعية الإرشاد والإصلاح العربية؛ وثالثهم هو الشيخ ساتي ماجد محمد سوار الدهب (1883-1963م) الذي هاجر للولايات المتحدة الأمريكية، وأسهم في وضع اللبنات الأولى لحركة المسلمين السود، وكان له أثر غير مباشر على مسيرة مالكولم إكس الفكرية والدعوية. ويقف خلف هؤلاء الأعلام الثلاثة شامخاً أديبنا الراحل الطيب صالح (1928-2009م) في شكل مقال وثق طرفاً من حياته الأدبية الرائعة، وسجل بعض الملاحظات التي دونتها أقلام نقاد راسخين في أدبه الروائي بعد رحيله الحزين في شتاء عام 2009م. أما المقالان الأخيران فيصبان في وعاء التوثيق لتاريخ السودان وإرثه الحضاري، فالأول يتحدث عن المجموعة الوثائقية والأرشيفية التي أودعها الأستاذ محمود صالح عثمان صالح بجامعة بيرجن بالنرويج عام 2006م، وأهميتها في مجال الدراسات السودانية؛ والثاني يتناول طرفاً من سيرة مؤسس منتدى التوثيق الإسفيري الشامل، الدكتور توفيق الطيب البشير عبد الرحمن، والأهداف التي يرمي إليها ذلك المنتدى، ليكون مصدراً رئيساً للمعلومة الصحيحة الموثقة عن السودان.   

 

شكر وعرفان

لا مندوحة أن أي عمل أكاديمي-إنساني هو ثمره جهد مشتركٍ، قوامه "الاستدعاء، والتذوق، والانتقاء، والاختيار، والمواءمة، والترتيب"، ثم الاستشهاد بالمصادر الأولية والثانوية المرتبطة بموضوع البحث المعني بالأمر، وذلك "عن طريق الجمع بين تلك الأشباه والنظائر في نسق منهجي واحد، بحيث يكون المنتج الإبداعي على أعلى درجة ممكنة من السبك، والتجانس، والإقناع، أو ما يسمى بالوفاء بالغرض، وصولاً لتحقيق غرضي المتعة والفائدة معاً، أو أحدهما على أقل تقدير". فهذا الكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم لم يكن نشازاً عن هذه التوطئة التي استعرناها من الأخ الدكتور خالد محمد فرح؛ لأنه ثمرة جهد أكاديمي مشترك، أسهم في تثقيف بعض جوانبه المنهجية والموضوعية نفر خير من القراء الحصفاء في مجال الدراسات السودانية، والعلوم المصاحبة لها. ومن ثم يطيب لي أن أشكر منهم: الأستاذ الدكتور أحمد عبد الرحيم نصر، والدكتور صالح محجوب التنقاري، والدكتور حسين جميل بالجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا، والدكتور يس محمد يس، ولاية كاليفورنيا الأمريكية، وكل الذين علقوا على بعض المقالات الواردة في هذا الكتاب، وذلك عندما نُشرت مسوداتها الأولى عبر منافذ صحافية متنوعة. وانسحاباً على شكر هؤلاء الفضلاء لا تستقيم قامة الثناء والتقدير إلا بذكر الناشر، مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، بأمدرمان، الذي درج على تثمين ثقافة الكلمة المكتوبة في مجال الدراسات السودانية، وجعلها متاحة للقارئ الكريم.

 

نقلاً عن صحيفة الأحداث

 

Ahmed Abushouk [ahmedabushouk62@hotmail.com]

 

آراء