إعادة الحلم بالعالم
رئيس التحرير: طارق الجزولي
11 August, 2022
11 August, 2022
بين أوكري
إلى:- شينوا أشيبي
بنى الرومان طرقاً مستقيمةً أينما حلّوا. المسيحيون غرسوا كنائساً في مساحاتٍ مقاومةٍ. المسلمون ثقبوا الهواء بدعوة المؤذِّن.
الغازون يغرسون بذورهم في الأرض الجديدة. كذلكَ المهزومون والمنفيُّون. إنهم يحملون أرضهم معهم، يرتفقون طقوسهم معهم كشفراتٍ تواصليّة في العالم الجديد. لكن المضّطهدين يجدون أنفسهم دوماً في "مياهٍ" متناقضةٍ تُظهر حضورهم وتجعلهم، في ذاتِ الآن، لا مرئيين.
أولئكَ اللذينَ يحلمون بالسلطان على العالم لا بدَّ لهم أن يتوقّعوا من العالم أن يتسلطن عليهم. أن تفرضَ إرادَتَكَ على الآخر هو أن تُسَلِّم (لغيرِكَ) حقَّكَ في فضائكَ الخاصِّ. أن تبتلع تاريخ الآخرينَ في تاريخكَ الخاصّ هو أن تتوقّع أن يكونَ هضمُكَ معتسراً بتاريخ الآخرين.
بفعلِ توسّعهم المعتصم بالمنعةِ يصيرُ المستعمرون دوماً ذوي شفافيّة. آنذاكَ لا تُخفي لغتهم شيئاً. والمقهورون يفهمون دوماً ذلكَ الذي يُقالُ. مستبدُّو العالم ليست لهم لغةٌ سريّةٌ يختفونَ فيها. المضَّطهَدُونَ يحتفظون لأنفسهم بمزاجاتِ لغاتهم– إنّهم دوماً مُعتمين (كتُومين).
المُضطَهِدونَ يغدون منتفخينَ جداً بتاريخهم، باستقرارهم الظّاهريِّ وبقوّتهم العسكريّة، ممّا يُنسيهُم كيفَ يصغونَ إلى الآخرين وكيفَ يرونهم. في وجهِ الزّمان اللاّيُسْبَرُ غورُهُ يبدونَ وكأنّهم يزهونَ في تلكَ اللُّحمةِ. إنّهم ينسونَ أنّ العالمَ واحدٌ، وأنَّ مصائرَ المضطهَدِينَ والمُضطَهِديْنَ موثوقةٌ ببعضها البعض إلى الأبد.
إنّ مستقبلَ الجّميعِ تتهدَّدُهُ أنانيّةُ الظّافرين العصريين. المضطَهَدُوْنَ يعيشونَ دوماً مع الموتِ. إنّهم يموتونَ في الحياةِ. فالمعاناةُ تُغرقهم في السِّرِّيّةِ والانطواء. والتّجاريبُ المكثّفةُ تُعجِّلُ بتقدُّمِ عمرِهِم. إنّهم ينضجُونَ بغرابةٍ وبعمقٍ أكثَرَ من مُضطهِدِيهم. مع ذلكَ هم كثيراً ما يُفكِّرونَ في مضطَهِديهِم على أنّهم مثالُ مأمولهم. ففقدانُ الثّقةِ التاريخية يُودي بهم إلى هذا الزّيغِ في التفكيرِ. هم، كشعبٍ، ما تعلّموا بعدَ أن ينتزعوا الثِّقة التّاريخيّة من أكثرِ الأماكنِ استبعاداً لها– من حقيقةِ أنهم ما يزالونَ هاهنا، على هذا الكوكب، قاطنونَ في مكانٍ ما على بسيطتِهِ؛ من حقيقةِ أنّهم كثيراً ما ظلُّوا أحياءَ رغم العبوديّةِ وكلِّ شكلٍ من أشكالِ الفعلِ الحاقدِ، الجّفاف، المجاعة، الدّكتاتوريّات وأيِّ تقمُّصَاتٍ أُخرى للشّحناءِ الإنسانيّة. أولئكَ قد يكونوا مُبْرَحِينَ بالصّدماتِ لكنهم، بسببِ عينِ كلِّ ما عانوه، بل و جِماعِ ما سيظلُّوا يعانونه، لا يزالونَ منطوِيْنَ على الكثيرِ ممَّا يستأهلُ أن يُناضلُوا من أجْلِهِ، أن يستمسكوا بالحياةِ في سبيلِهِ:- ذلكَ الما– بعديّ المتجاوز جبالَ أزَماتهم.
إنّ أحلامَ المضطَهَدِينَ مغروسةً في الأرضِ، وسُقياها جاريةٌ خلالَ كلِّ المواسِمِ المُرّةِ. فمعاناتهم خليقةٌ بأن تجعلهم فلاّحي أحلام. وحصادهم آنذاكَ جديرٌ بأن يُصيِّر العالمَ أكثَرَ إنصافاً أو أكثَرَ جمالاً. فقط المضطَهَدُون هم الحائزون على مثلِ هذا الإمكان الصّعب، هذا الإمكان المتناقض الكينونة.
إنَّ الأمرَ لملتبِسٌ ومُلغزٌ. فأولئكَ اللذينَ يعانون هم دوماً كائنون في ذاكَ المكان الذي يُوثِّقُ ارتباطَ الجذور بالأرضِ– كما وهم دوماً منفيُّون. المعاناةُ هي مركزهم، هي قلبهم. فهي تُذكِّرُهُم بمن هم– بماهيَّتِهم. إنَّ المضطَهَدِين يعيشون في معدةِ مضطهِدِيهم. إنّهم يحتاجونَ إلى تفكيرِ وتركيبةِ مضطَهِدِيهِم حتّى يُبدِّلُوا وقائعَ حيواتهم. والمضطهِدُونَ يحتاجون إلى دمِ المضطَهَدِينَ حتّى يحسُّوا، في أنفسهم، انبعاثاً جديداً لهم. ذلكُم يُصيِّرُ جِماعَ أنفُسِ النّاسِ أنفُساً شديدةَ الغرابةِ.
قد يبدو أنَّ المضطَهِدَ هو تحدِّي المضطَهَدِ. قد يبدو أنّ المضطَهَدِينَ ينبغي عليهم أن يقبلوا مُثُلَ عصرهم؛ أن يلتقوا، في أنفسهم، بهاتيكَ المُثُل ويسمقوا بها إلى مستوياتٍ أعلى، أن يهبُوا عبقريَّتَهم للحلمِ العالميِّ. وقد يلوحُ، كذلكَ، أنَّ أولئكَ المضطَهَدِينَ ينبغي عليهم أن يتنافسوا ومَنْ سواهم في هذا العالم. لكنّ ذلكَ التّنافسَ ليس له، بالضرورة، أن يقومَ على القواعد الشّائهة التي أنشأها الطّاغون في العالم. فهم عليهم أن يُصارعوا من أجلِ مقاماتٍ وكياناتٍ لهم في المسرحِ العالميِّ المعاصرِ. ذلكَ لأنّهم، كما قد يبدو، ما عادت لديهم وسيلةٌ، أو حيلةٌ، يستطيعونَ بها أن يَسْتَعْصَمُوا، في أنفسهم، بقاعِ شعورٍ سخطٍ على ماضيهم التّاريخيِّ أو حاضِرِهِم الذي لا يُطاق. إنّ ما ينبغي عليهم أن يسعوا على سبيلِهِ الآن هو أن يَتَلَمَّسُوا، في دواخلهم، تواضُعاً وصمتاً يتجاوزونَ بهما غيظهم، يُصَفُّونَهُ ويُصيِّرُونَهُ إبداعيَّةً علياء يُسخِّرُونَها لغايةِ الكشفِ عن حقائقٍ أسمى.
على المضطَهَدِيْنَ أن يُجدِّدُوا استجماعَ قُواهم مرّةً أُخرى، من زفافِ خيرِ الأشياءِ التي ينبغي على العالمِ أن يمنحها وخيرِ أوجُهِ أُطُرِهِم الخاصّةِ الميثولوجيّة، الجّماليّة، الرّوحيّة والعلميّة، ينبغي عليهم ألاّ ينسوا أنَّ المسَافَةَ، المَبْعَدَةَ ومكابداتَهُم يعينونهم على أن يروا أيَّ شكلٍ من المستقبلِ يريدون أن يُنشِئوا. بالتّواضعِ وبالصَّبرِ يستطيعون أن يتعلّموا من العالم وأن يُعلِّموا العالم كيفَ يتعلَّمُ منهم. على طولِ ذلكَ الطّريقِ من الضّروريِّ لهم أن يُزيحوا عن عيونهم بيوتَ عناكبِ الحيرةِ واللاّفهم وأن يعرّوا دعاياتِ المنتصرين المعاصرين.
إنَّ المنتصرين المعاصرين، إذ يعيشون في بحبوحةِ أبراجهم الاقتصاديّة المُنَجَّمَة [أي كثيرة النِّجوم– المترجم]، هم، كذلكَ، لافُّونَ في مجالِ حياةٍ روحيّةٍ وثقافيّةٍ عجيب. فهم قد نسُوا الموتَ وغدوا على عماءٍ عن وحوشِ التاريخ اللاّمفضوضةَ تشابُكاتُهُ بعد– تلكَ الوحوشُ الكامنةُ في صوامعِ أحلامهم المعاصرة. كما وهم، كذلكَ، قد نسوا التّواصلَ الحتميَّ الوشيجَ بينَ كلِّ الأشياء. ذلكَ لأنّهم، حينما يربطون- بخُيَّلاءٍ– مركزَ العالم بذواتهم في حينَ أنَّ مركزَ العالمِ موجودٌ– بالفعلِ– في كلِّ مكانٍ، يتحدّث أولئكَ الظّافرون المعاصرون إلى العالمِ بالنِّيابةِ عن أيِّ شخصٍ آخرٍ فيُسيؤونَ، عند ذاكَ، الحديثَ. إنَّ الوقتَ قد حانَ الآنَ لهم لكي يصغوا على نحوٍ ما أصغت به الكائناتُ الإنسانيّةُ من قبل. فالزَّمانُ الآنَ قد حلَّ للإصغاءِ إلى حديثِ الدَّلافين المسمَّمة، صيحاتِ الغلافِ الأرضيِّ، عواءاتِ الأرضِ المقفرةِ عن غاباتها، صليلِ الرّياحِ الجّافّة فوق الصّحارى الغازية، صرخاتِ أناسٍ بلا أملٍ وبلا طعامٍ، صمتِ الأُمَمِ المخنوقةِ، الأحلامِ المشبوبةِ الشِّعورِ للفنّانين اللاّمُتَوافِقِين، ثمَّ إلى الإنذاراتِ القديمةِ قِدَم الزّمان والتي كَمُنَتْ دوماً في الحكاياتِ الخُرافيةِ الشّفهيّة للقصّاصين والشَّامانات.
لا ينبغي، من بعدَ الآن، أن يُترَكَ شأنُ الحديثِ عن التّاريخِ الإنسانيِّ للظّافرين المعاصرين. فأيُّ صمودٍ جعلَ النّاسَ المجروحينَ والقارّاتِ المُهْلَكَةَ باقيةً هنا، حيَّةً، يُستَطاعُ أن يُتَمثَّلَ على هيئاتٍ شعوريّةٍ تُصيّرهم أقوياء، واثقينَ ورائِقِينَ. ينبغي عليهم أن يُسائِلوا كلَّ شيءٍ حتّى يُعيدوا تشييده للمستقبلِ. ينبغي عليهم أن يُخلِّصوا العالمَ.
لقد عبَّرَ شينوا أشيبي عن هذا المعنى بصورةٍ بليغةٍ جدّاً حين كتَبَ أنَّ المعاناةَ تستطيعُ أيضاً أن تُوَلِّدَ للدُّنيا شيئاً جميلاً.
إنّ من الممكنِ لحسِّ جمالٍ، لحسِّ عدالةٍ، لشعورٍ بالتّواصُلِ الوشيجِ بينَ كلِّ الأشياءِ أن يُقيَّضَ له، بعدَ، إنقاذَ السُّلالةِ الإنسانيّةِ من الإعدامِ الذّاتيِّ. نحنُ ما نزالُ نتعلَّمُ كيفَ نكونُ أحراراً. والحرّيّةُ هي بدايةُ الإمكانات الأعظم للعبقرية الإنسانيّة– هي ليست الهدف النِّهائيّ.
* *****
منازعةُ المُضطَهَدِين الحقيقيّة ليست هي مع المضطهِدِين وإنّما هي مع أنفسهم. فالحقيقةُ الحقَّةُ التي يجبُ عليهم أن يُواجهوها هي الحقيقة المتعلِّقة بأنفسهم. الأملُ والمكابدةُ لهما سحرٌ خاصٌّ. وأولئكَ اللذينَ لهم الكثيرُ الذي يُكابدونَ في سبيلِهِ، الكثيرُ الذي عليهم أن يحلُّوا إشكالاته ويتغلّبوا عليها، ثمَّ الكثير الذي يُجَدِّدُونَ الحلمَ به قد يكونونَ، في الحقِّ، أكثَرَ حظَّاً ممَّا يظنّون. الصّراعُ هو الحياةُ. وثَمَّةُ شيءٍ أخّاذَ الجّمالِ وذي صفةٍ تاريخيّةٍ خلاَّقةٍ موسومٍ به أولئكَ اللذينَ تصدُّوا لتسلُّقِ جبالِ مآزقهم السّبع حتّى يسعوا على سبيلِ مصائرٍ جديدةٍ كائنةٍ في الما-بعد فيما نجمةُ الأملِ قائمةً فوقَ رؤوسهم.
إنّ أولئكَ، في صبرهم وفي ظفرهم، يستطيعونَ أن يُعلِّمونا جميعاً كيف نحيا من جديدٍ، كيفَ نحبُّ من جديدٍ، كما وأنّهم يستطيعونَ أيضاً أن يُمكِّنونا من إنشاءِ البداياتِ لأوّلِ حضارةٍ إنسانيّةٍ عالميّةٍ حقّاً في تاريخِ الزّمانِ المُدَوَّنِ واللاّمُدَوّن.
(تُرجمت في يوليو من العام 2000م)
حاشية:-
* نشر بين أوكري هذا المقالَ في كتابه الموسوم "طريقةٌ في أن تكُونَ حرَّاً". صدر الكتابُ عن دار فونيكس للنّشرِ (طبعة شعبية)، لندن، 1997م.
khalifa618@yahoo.co.uk
////////////////////////////
إلى:- شينوا أشيبي
بنى الرومان طرقاً مستقيمةً أينما حلّوا. المسيحيون غرسوا كنائساً في مساحاتٍ مقاومةٍ. المسلمون ثقبوا الهواء بدعوة المؤذِّن.
الغازون يغرسون بذورهم في الأرض الجديدة. كذلكَ المهزومون والمنفيُّون. إنهم يحملون أرضهم معهم، يرتفقون طقوسهم معهم كشفراتٍ تواصليّة في العالم الجديد. لكن المضّطهدين يجدون أنفسهم دوماً في "مياهٍ" متناقضةٍ تُظهر حضورهم وتجعلهم، في ذاتِ الآن، لا مرئيين.
أولئكَ اللذينَ يحلمون بالسلطان على العالم لا بدَّ لهم أن يتوقّعوا من العالم أن يتسلطن عليهم. أن تفرضَ إرادَتَكَ على الآخر هو أن تُسَلِّم (لغيرِكَ) حقَّكَ في فضائكَ الخاصِّ. أن تبتلع تاريخ الآخرينَ في تاريخكَ الخاصّ هو أن تتوقّع أن يكونَ هضمُكَ معتسراً بتاريخ الآخرين.
بفعلِ توسّعهم المعتصم بالمنعةِ يصيرُ المستعمرون دوماً ذوي شفافيّة. آنذاكَ لا تُخفي لغتهم شيئاً. والمقهورون يفهمون دوماً ذلكَ الذي يُقالُ. مستبدُّو العالم ليست لهم لغةٌ سريّةٌ يختفونَ فيها. المضَّطهَدُونَ يحتفظون لأنفسهم بمزاجاتِ لغاتهم– إنّهم دوماً مُعتمين (كتُومين).
المُضطَهِدونَ يغدون منتفخينَ جداً بتاريخهم، باستقرارهم الظّاهريِّ وبقوّتهم العسكريّة، ممّا يُنسيهُم كيفَ يصغونَ إلى الآخرين وكيفَ يرونهم. في وجهِ الزّمان اللاّيُسْبَرُ غورُهُ يبدونَ وكأنّهم يزهونَ في تلكَ اللُّحمةِ. إنّهم ينسونَ أنّ العالمَ واحدٌ، وأنَّ مصائرَ المضطهَدِينَ والمُضطَهِديْنَ موثوقةٌ ببعضها البعض إلى الأبد.
إنّ مستقبلَ الجّميعِ تتهدَّدُهُ أنانيّةُ الظّافرين العصريين. المضطَهَدُوْنَ يعيشونَ دوماً مع الموتِ. إنّهم يموتونَ في الحياةِ. فالمعاناةُ تُغرقهم في السِّرِّيّةِ والانطواء. والتّجاريبُ المكثّفةُ تُعجِّلُ بتقدُّمِ عمرِهِم. إنّهم ينضجُونَ بغرابةٍ وبعمقٍ أكثَرَ من مُضطهِدِيهم. مع ذلكَ هم كثيراً ما يُفكِّرونَ في مضطَهِديهِم على أنّهم مثالُ مأمولهم. ففقدانُ الثّقةِ التاريخية يُودي بهم إلى هذا الزّيغِ في التفكيرِ. هم، كشعبٍ، ما تعلّموا بعدَ أن ينتزعوا الثِّقة التّاريخيّة من أكثرِ الأماكنِ استبعاداً لها– من حقيقةِ أنهم ما يزالونَ هاهنا، على هذا الكوكب، قاطنونَ في مكانٍ ما على بسيطتِهِ؛ من حقيقةِ أنّهم كثيراً ما ظلُّوا أحياءَ رغم العبوديّةِ وكلِّ شكلٍ من أشكالِ الفعلِ الحاقدِ، الجّفاف، المجاعة، الدّكتاتوريّات وأيِّ تقمُّصَاتٍ أُخرى للشّحناءِ الإنسانيّة. أولئكَ قد يكونوا مُبْرَحِينَ بالصّدماتِ لكنهم، بسببِ عينِ كلِّ ما عانوه، بل و جِماعِ ما سيظلُّوا يعانونه، لا يزالونَ منطوِيْنَ على الكثيرِ ممَّا يستأهلُ أن يُناضلُوا من أجْلِهِ، أن يستمسكوا بالحياةِ في سبيلِهِ:- ذلكَ الما– بعديّ المتجاوز جبالَ أزَماتهم.
إنّ أحلامَ المضطَهَدِينَ مغروسةً في الأرضِ، وسُقياها جاريةٌ خلالَ كلِّ المواسِمِ المُرّةِ. فمعاناتهم خليقةٌ بأن تجعلهم فلاّحي أحلام. وحصادهم آنذاكَ جديرٌ بأن يُصيِّر العالمَ أكثَرَ إنصافاً أو أكثَرَ جمالاً. فقط المضطَهَدُون هم الحائزون على مثلِ هذا الإمكان الصّعب، هذا الإمكان المتناقض الكينونة.
إنَّ الأمرَ لملتبِسٌ ومُلغزٌ. فأولئكَ اللذينَ يعانون هم دوماً كائنون في ذاكَ المكان الذي يُوثِّقُ ارتباطَ الجذور بالأرضِ– كما وهم دوماً منفيُّون. المعاناةُ هي مركزهم، هي قلبهم. فهي تُذكِّرُهُم بمن هم– بماهيَّتِهم. إنَّ المضطَهَدِين يعيشون في معدةِ مضطهِدِيهم. إنّهم يحتاجونَ إلى تفكيرِ وتركيبةِ مضطَهِدِيهِم حتّى يُبدِّلُوا وقائعَ حيواتهم. والمضطهِدُونَ يحتاجون إلى دمِ المضطَهَدِينَ حتّى يحسُّوا، في أنفسهم، انبعاثاً جديداً لهم. ذلكُم يُصيِّرُ جِماعَ أنفُسِ النّاسِ أنفُساً شديدةَ الغرابةِ.
قد يبدو أنَّ المضطَهِدَ هو تحدِّي المضطَهَدِ. قد يبدو أنّ المضطَهَدِينَ ينبغي عليهم أن يقبلوا مُثُلَ عصرهم؛ أن يلتقوا، في أنفسهم، بهاتيكَ المُثُل ويسمقوا بها إلى مستوياتٍ أعلى، أن يهبُوا عبقريَّتَهم للحلمِ العالميِّ. وقد يلوحُ، كذلكَ، أنَّ أولئكَ المضطَهَدِينَ ينبغي عليهم أن يتنافسوا ومَنْ سواهم في هذا العالم. لكنّ ذلكَ التّنافسَ ليس له، بالضرورة، أن يقومَ على القواعد الشّائهة التي أنشأها الطّاغون في العالم. فهم عليهم أن يُصارعوا من أجلِ مقاماتٍ وكياناتٍ لهم في المسرحِ العالميِّ المعاصرِ. ذلكَ لأنّهم، كما قد يبدو، ما عادت لديهم وسيلةٌ، أو حيلةٌ، يستطيعونَ بها أن يَسْتَعْصَمُوا، في أنفسهم، بقاعِ شعورٍ سخطٍ على ماضيهم التّاريخيِّ أو حاضِرِهِم الذي لا يُطاق. إنّ ما ينبغي عليهم أن يسعوا على سبيلِهِ الآن هو أن يَتَلَمَّسُوا، في دواخلهم، تواضُعاً وصمتاً يتجاوزونَ بهما غيظهم، يُصَفُّونَهُ ويُصيِّرُونَهُ إبداعيَّةً علياء يُسخِّرُونَها لغايةِ الكشفِ عن حقائقٍ أسمى.
على المضطَهَدِيْنَ أن يُجدِّدُوا استجماعَ قُواهم مرّةً أُخرى، من زفافِ خيرِ الأشياءِ التي ينبغي على العالمِ أن يمنحها وخيرِ أوجُهِ أُطُرِهِم الخاصّةِ الميثولوجيّة، الجّماليّة، الرّوحيّة والعلميّة، ينبغي عليهم ألاّ ينسوا أنَّ المسَافَةَ، المَبْعَدَةَ ومكابداتَهُم يعينونهم على أن يروا أيَّ شكلٍ من المستقبلِ يريدون أن يُنشِئوا. بالتّواضعِ وبالصَّبرِ يستطيعون أن يتعلّموا من العالم وأن يُعلِّموا العالم كيفَ يتعلَّمُ منهم. على طولِ ذلكَ الطّريقِ من الضّروريِّ لهم أن يُزيحوا عن عيونهم بيوتَ عناكبِ الحيرةِ واللاّفهم وأن يعرّوا دعاياتِ المنتصرين المعاصرين.
إنَّ المنتصرين المعاصرين، إذ يعيشون في بحبوحةِ أبراجهم الاقتصاديّة المُنَجَّمَة [أي كثيرة النِّجوم– المترجم]، هم، كذلكَ، لافُّونَ في مجالِ حياةٍ روحيّةٍ وثقافيّةٍ عجيب. فهم قد نسُوا الموتَ وغدوا على عماءٍ عن وحوشِ التاريخ اللاّمفضوضةَ تشابُكاتُهُ بعد– تلكَ الوحوشُ الكامنةُ في صوامعِ أحلامهم المعاصرة. كما وهم، كذلكَ، قد نسوا التّواصلَ الحتميَّ الوشيجَ بينَ كلِّ الأشياء. ذلكَ لأنّهم، حينما يربطون- بخُيَّلاءٍ– مركزَ العالم بذواتهم في حينَ أنَّ مركزَ العالمِ موجودٌ– بالفعلِ– في كلِّ مكانٍ، يتحدّث أولئكَ الظّافرون المعاصرون إلى العالمِ بالنِّيابةِ عن أيِّ شخصٍ آخرٍ فيُسيؤونَ، عند ذاكَ، الحديثَ. إنَّ الوقتَ قد حانَ الآنَ لهم لكي يصغوا على نحوٍ ما أصغت به الكائناتُ الإنسانيّةُ من قبل. فالزَّمانُ الآنَ قد حلَّ للإصغاءِ إلى حديثِ الدَّلافين المسمَّمة، صيحاتِ الغلافِ الأرضيِّ، عواءاتِ الأرضِ المقفرةِ عن غاباتها، صليلِ الرّياحِ الجّافّة فوق الصّحارى الغازية، صرخاتِ أناسٍ بلا أملٍ وبلا طعامٍ، صمتِ الأُمَمِ المخنوقةِ، الأحلامِ المشبوبةِ الشِّعورِ للفنّانين اللاّمُتَوافِقِين، ثمَّ إلى الإنذاراتِ القديمةِ قِدَم الزّمان والتي كَمُنَتْ دوماً في الحكاياتِ الخُرافيةِ الشّفهيّة للقصّاصين والشَّامانات.
لا ينبغي، من بعدَ الآن، أن يُترَكَ شأنُ الحديثِ عن التّاريخِ الإنسانيِّ للظّافرين المعاصرين. فأيُّ صمودٍ جعلَ النّاسَ المجروحينَ والقارّاتِ المُهْلَكَةَ باقيةً هنا، حيَّةً، يُستَطاعُ أن يُتَمثَّلَ على هيئاتٍ شعوريّةٍ تُصيّرهم أقوياء، واثقينَ ورائِقِينَ. ينبغي عليهم أن يُسائِلوا كلَّ شيءٍ حتّى يُعيدوا تشييده للمستقبلِ. ينبغي عليهم أن يُخلِّصوا العالمَ.
لقد عبَّرَ شينوا أشيبي عن هذا المعنى بصورةٍ بليغةٍ جدّاً حين كتَبَ أنَّ المعاناةَ تستطيعُ أيضاً أن تُوَلِّدَ للدُّنيا شيئاً جميلاً.
إنّ من الممكنِ لحسِّ جمالٍ، لحسِّ عدالةٍ، لشعورٍ بالتّواصُلِ الوشيجِ بينَ كلِّ الأشياءِ أن يُقيَّضَ له، بعدَ، إنقاذَ السُّلالةِ الإنسانيّةِ من الإعدامِ الذّاتيِّ. نحنُ ما نزالُ نتعلَّمُ كيفَ نكونُ أحراراً. والحرّيّةُ هي بدايةُ الإمكانات الأعظم للعبقرية الإنسانيّة– هي ليست الهدف النِّهائيّ.
* *****
منازعةُ المُضطَهَدِين الحقيقيّة ليست هي مع المضطهِدِين وإنّما هي مع أنفسهم. فالحقيقةُ الحقَّةُ التي يجبُ عليهم أن يُواجهوها هي الحقيقة المتعلِّقة بأنفسهم. الأملُ والمكابدةُ لهما سحرٌ خاصٌّ. وأولئكَ اللذينَ لهم الكثيرُ الذي يُكابدونَ في سبيلِهِ، الكثيرُ الذي عليهم أن يحلُّوا إشكالاته ويتغلّبوا عليها، ثمَّ الكثير الذي يُجَدِّدُونَ الحلمَ به قد يكونونَ، في الحقِّ، أكثَرَ حظَّاً ممَّا يظنّون. الصّراعُ هو الحياةُ. وثَمَّةُ شيءٍ أخّاذَ الجّمالِ وذي صفةٍ تاريخيّةٍ خلاَّقةٍ موسومٍ به أولئكَ اللذينَ تصدُّوا لتسلُّقِ جبالِ مآزقهم السّبع حتّى يسعوا على سبيلِ مصائرٍ جديدةٍ كائنةٍ في الما-بعد فيما نجمةُ الأملِ قائمةً فوقَ رؤوسهم.
إنّ أولئكَ، في صبرهم وفي ظفرهم، يستطيعونَ أن يُعلِّمونا جميعاً كيف نحيا من جديدٍ، كيفَ نحبُّ من جديدٍ، كما وأنّهم يستطيعونَ أيضاً أن يُمكِّنونا من إنشاءِ البداياتِ لأوّلِ حضارةٍ إنسانيّةٍ عالميّةٍ حقّاً في تاريخِ الزّمانِ المُدَوَّنِ واللاّمُدَوّن.
(تُرجمت في يوليو من العام 2000م)
حاشية:-
* نشر بين أوكري هذا المقالَ في كتابه الموسوم "طريقةٌ في أن تكُونَ حرَّاً". صدر الكتابُ عن دار فونيكس للنّشرِ (طبعة شعبية)، لندن، 1997م.
khalifa618@yahoo.co.uk
////////////////////////////