إلى الصحفيين السودانيين: حضرنا ولم نجدكم (3) !

 


 

 

قراءة في مواقفهم إزاء المفكر السوداني الانساني محمود محمد طه
إلى الصحفيين السودانيين: حضرنا ولم نجدكم!
تعليق على كتاب: هاشم كرار، من المشنقة إلى السقوط: كلام ما ساكت!
(3-4)

بقلم الدكتور عبد الله الفكي البشير

"ونحن لا نستغرب سوء الفهم، وسوء النية، من أي إنسان بقدر ما نستغربهما مِمَنْ يحملون الأقلام، ويتصدون لتوجيه الرأي العام، ويجدون المداد، والورق، موفوراً لديهم، لأن الشعب يثق فيهم، ويقبل على ما يكتبون - يدفع ثمنه من حر ماله، ويقبل عليه يقرأه، ويستظهره– من مثل هؤلاء يستغرب سوء الفهم، ويستغرب سوء النية.. بل من مثل هؤلاء قد لا يقبل صرف ولا عدل.. لأن في عملهم خيانة لأمانة الثقافة، وخيانة لرسالة القلم، وخيانة لأمانة الثقة.. الثقة الغالية التي أودعها الشعب في حملة الأقلام".
محمود محمد طه، 1969

يجيء هذا المقال بمثابة تعليق على كتاب الكاتب الصحفي هاشم كرار: من المشنقة إلى السقوط: كلام ما ساكت!، (تحت الطبع)، وننشره الآن احتفاءً بالممارسة الديمقراطية في تشكيل أول نقابة للصحفيين السودانيين منذ (33) عاماً. لا جدال في أن عودة النقابات، وهي من أهم مظاهر التحول الديمقراطي وضماناته، ومن أقوى التعابير عن المشاركة الجماعية والتفاعل القاعدي للرأي العام، تمثل محطة مهمة من محطات الانتصار لثورة ديسمبر السودانية المجيدة. ومن بشائر نجاح الثورة، ومؤشرات التجسيد لتعبير الردة مستحيلة عن الثورة السودانية أن تكون نقابة الصحفيين هي أول نقابة تتشكل بعد (33) عاماً، وفي هذا اتساق مع واجب الصحافة والصحفيين تجاه التحول الديمقراطي، وحماية الديمقراطية، وحراسة حرية التعبير، إلى جانب تنمية الوعي وبناء الرأي العام، فضلاً عن حماية المجتمع من الكوارث الطبيعية، واتقاء شرور السياسيين، وخطر الجهلاء منهم، وكشف عبث أنصاف المثقفين "من أدعياء السياسة وأدعياء الوطنية". ولهذا فإن هناك الكثير من العمل الذي ينتظر الصحفيين والمثقفين عامة من أجل الثورة والوفاء لشهدائها، وفي سبيل تحقيق التغيير الجذري والشامل.
الأحرار حرب على التعتيم: الصحفي الأول والوحيد الذي كشف حريق نادي الخريجين بود مدني، 1979

لم يكن محمود محمد طه غريباً على فضاءات هاشم كرار، ولم يتعرف عليه مؤخراً، وإنما كان قارئاً له منذ نهاية سبعينات القرن الماضي، وظل مهتماً بأطروحاته وبسيرته الفكرية. كذلك كان محمود محمد طه حاضراً في مناخات أسرة كرار، بل سجل التاريخ لأسرة كرار احترامها لمحمود محمد طه واهتمامها به. ففي عام 1972 كان ابن عم هاشم كرار، الأستاذ الباحث الاجتماعي والكاتب الصحفي العصامي محجوب كرار (1938- 2001)، قد شارك في حوار أجرته مع محمود محمد طه الباحثة البريطانية اليزابيث هودجكنز، بحضور الأستاذ عصام عبد الرحمن البوشي، الذي تولى ترجمة الحوار، ومن ثم قام محجوب بنشر الحوار بعنوان: "محمود محمد طه في حوار صوفي مع مسز اليزابيث هودجكنز"، في صحيفة الصحافة، بتاريخ 16 ديسمبر 1972. أيضاً كانت عينا هاشم قد كحلت كتب محمود محمد طه أول مرة في منزل الأسرة بمدينة الحصاحيصا، وسط السودان. فقد كان شقيقه المهندس عوض كرار (1948- 2016) يأتي بكتب محمود محمد طه للمنزل، يقرأها ويعطي هاشم ليقرأ. وقد صور هاشم هذا المشهد، قائلاً: "كان [عوض كرار] يجيئُ من المحالج، بين فترةٍ وأخرى، بكتيبٍ للجمهوريين، أو كتاب للأستاذ [محمود محمد طه]. كان يجلس العصرية، أمام البيت، يقرأُ. رافعاً رجليه على ساق شجرة نيم، من النيمات الكبيرة التي كان قد زرعها هو، أمام البيت، وتعهدُّتها أنا بالسُقيا والرعاية! كان يقرأ، ويعطيني لأقرأ".
لقد ظهر أثر هذه القراءات عند هاشم فور التحاقه بصحيفة الأيام في العام 1978. إذ لم يمض عام من عمله صحفياً، حتى شهدت مدينة ود مدني، بوسط السودان، واحدة من أبشع مؤامرات رجال الدين ضد الفكرة الجمهورية، عندما قاموا في نهار يوم الجمعة 12 يناير 1979 بحرق نادي الخريجين، بسبب استضافة النادي لمعرض الفكر الجمهوري. التهم الحريق جميع محتويات المعرض، وكل النادي، بما في ذلك مقتنيات ووثائق تعود إلى حقبة النضال ضد الاستعمار. فالنادي يمثل رمزاً وطنياً في النضال ضد الاستعمار، وأداة حداثية لها إسهام عظيم في تنمية الوعي، وإذكاء الروح الوطنية. لاحظ هاشم كرار بأنه وعلى الرغم من خطورة الحدث، إلا أن الصحف لم تهتم به، ولم تورد حتى مجرد خبر عنه. استنكر هاشم مواقف الصحف، وبادر بأن طرح على رئيس تحرير صحيفة الأيام الأستاذ حسن ساتي، فكرة السفر إلى مدينة ود مدني لإجراء تحقيق حول الحدث. وافق ساتي، وسافر هاشم إلى ود مدني، والتقى بالأستاذ صديق محمد الحاج، سكرتير نادي الخريجين، وآخرين.
أثناء تحقيقه أكتشف هاشم بأن التخطيط لحريق النادي بدأ بمسجد دردق بمدينة ود مدني بقيادة إمام المسجد الشيخ حسن عبد العزيز، وأن أطراف المؤامرة لا تقف عند رجال الدين والصحف التي سعت للتعتيم على الخبر، وإنما كان للشرطة والمطافئ دور كذلك. فقد أوضح السيد/ صديق، سكرتير النادي في مقابلاته مع هاشم، بأن تواطؤ الشرطة، وكذلك المطافئ، وتأخرهما في الاستجابة والمجيء، أتاح الفرصة للنيران أن تلتهم كل شيء في النادي. جمع هاشم المعلومات وعاد قافلاً للخرطوم لينشر تحقيقه، بمساندة حسن ساتي، الذي كان صلباً في دعمه لنشر التحقيق. ليكون ذلك أول عمل عبَّر هاشم من خلاله عن موقفه من الفكر الجمهوري، وهو أول صحفي، بل الصحفي الوحيد، الذي كشف للشعب السوداني ما سعت الصحف لقبره وهي تعتم عليه. كان محمود محمد طه قد أرسل خطاباً إلى رئيس نادي الخريجين، في اليوم التالي لحريق النادي، جاء فيه:
"حضرة الأخ الكريم عبد الرحيم محمود أبو عيسى، رئيس نادى الخريجين بمدني
وحضرات الإخوان الكرام أعضاء لجنة النادي الموقرة، وحضرات الإخوان الكرام أعضاء هذا النادي العزيز، تحية طيبة... لقد خرجت من ناديكم، في الثلاثينات، الشعلة الأولى التي كانت نواة الحركة الوطنية العظيمة التي انتهت الى إخراج الاستعمار الحسي حكم الإنجليز من البلاد، فأحرزت بذلك تحريرها.. وستخرج بهذا الصنيع البشع، من هذا القبيل الضائع، من ناديكم الشعلة الثانية التي ستنتهى إلى إخراج الاستعمار المعنوي الجهل بالدين وتسلط هذا الجهل على عقول أفراد شعبنا من العقول بإذن الله، فيتم بذلك ما بدئ، في مضمار التحرير، من إحراز الاستقلال الصحيح...".

وثق هاشم كرار، وهو صحفي يافع، حريق نادي الخريجين في الأرشيف الوطني، وها نحن نبعث توثيقه اليوم من جديد، وبعد مرور (42) عاماً، ليكون برهاناً على سجل رجال الدين، والكشف لمحطة من محطات سعيهم لهزيمة الوعي وتلويث العقول. كان محمود محمد طه، قد أشار لهذا المعنى في خطابة لرئيس النادي، قائلاً: "لقد طالما تحدثنا عن أن مساجد الله قد أصبحت ملوثة بجهالات رجال عقولهم خربة، ونفوسهم مريضة.. وهؤلاء الرجال هم اليوم أئمة الناس ومعلموهم الدين.. ولكن حديثنا كان يفتقر الشاهد المحسوس الملموس، على صدق النذير الذي يسوقه، فوجدناه اليوم بحريق هذا الناد العتيق، العزيز، وجدناه بصورة ستظل نموذجاً حياً في أذهان الناس، كنذير بما ينتظر هذه الأمة، إذا ما قدر لها أن تحكم باسم الإسلام، كما يفهمه هؤلاء الرجال الجهلة، والمريضو النفوس".

44 عاماً من العطاء في سبيل السودان والإنسان

خدم هاشم كرار (44) عاماً في مجال الصحافة، ولا يزال، منها (16) عاماً كانت في السودان، و(26) عاماً استحوذت عليها دولة قطر بمحبة وأريحية ورضا. ظل هاشم يكتب بقلبه وعقله وروحه. تميز قلمه بالرشاقة والمتعة والسلاسة والعفة والعمق والتحفيز على التأمل. واتسم عالمه بالمحبة، فالناظر لوجهه لا يرى سوى المحبة، والجالس معه لا يسمع سوى محاسن الناس. ولا يملك من يلتقيه، من خلال تجربتي معه وعلاقتي بالأصدقاء المشتركين، إلا أن يحبه، ويكاد يكون هناك ما يشبه الإجماع لدى من يعرفونه، بأنه منبع للمحبة ومصب لها. لم يكن صحفياً متقلباً، وإنما ظل عطاؤه وانتماؤه يتمحور حول السودان والإنسان. يعود تعبير "صحفي متقلب" إلى الصحفي يحيي محمد عبد القادر، وهو من الرعيل الأول من الصحفيين، فقد كتب، قائلاً: "يتهمني الكثيرون بأنني، صحفي متقلب، وهي عبارة مؤدبة لمعنى، صحفي معدوم الضمير، وقد بدأ هذا الاتهام عندما كنت أعمل في جريدة النيل لسان حال آل المهدي، وهي استقلالية، مع احتفاظي بمراسلة الأهرام، وهي صحيفة مصرية، يفترض فيها الدعوة للوحدة بين مصر والسودان، واشتراكي في نفس الفترة في تأسيس الحزب الجمهوري- محمود محمد طه- وهو منظور له كحزب مناهض لآل المهدي... وأن أعلن في جريدة النيل الناطقة بلسان آل المهدي أن الرسائل الواردة للحزب الجمهوري تُعنون باسمي، وهو حزب منظور إليه كخصم لدود لحزب الأمة"، (يحيي محمد عبد القادر، على هامش الأحداث في السودان، ب ت ن). لم يكن هاشم "صحفياً متقلباً"، وإنما ظل حراً التزاماً بوصية شقيقه عوض كرار التي ظلت معه كل الأوقات. فقد كتب هاشم، إن شقيقه عوض أوصاه، قائلاً: "إقرأ لهم - الجمهوريين- ولغيرهم.. بس خليك حُر! ... وظللتُ أنا أحتفظُ بوصيته في عقلي ووجداني وضميري، وظللتُ بها- في كل الأوقات- براً حفيا. ما زلتُ حراً، وسأظل".
بدأ هاشم حياته العملية في صحيفة الأيام عام 1978 واستمر بها حتى اندلاع انتفاضة أبريل 1985. وسافر في شهر سبتمبر من نفس العام ولمدة أربعة أشهر إلى دولة قطر بمعية: مصطفى سند، وحسن أبو عرفات، وصديق الزين، وأسهموا في تأسيس صحيفة الخليج اليوم التي أصبحت في العام 1987 صحيفة الشرق. بعد عودته من دولة قطر رجع للعمل بصحيفة الأيام. ثم انتقل في العام 1987 مديراً لتحرير صحيفة الجريدة، فما لبث أن استقال بسبب اختلافه مع القائمين عليها بشأن استقلالية الصحيفة وخطها التحريري. اختير مديراً لتحرير صحيفة الحوادث التي كان يجب أن يصدر عددها الأول في 30 يونيو 1989، فوقع الانقلاب العسكري المشؤوم، فنسف أحلام فريق صحيفة الحوادث، وأسدل التسلط والقهر سدوله على السودان. كان أول قرار هو إغلاق جميع الصحف، فالتحق هاشم بمكتب صحيفة الشرق الأوسط اللندنية- مكتب الخرطوم. في العام 1994 عاد هاشم إلى دولة قطر ليعمل ضمن الفريق التأسيسي التحريري لصحيفة الوطن، ولايزال مقيماً في دولة قطر بمعية أسرته: زوجته أماني محجوب قوليب، وابنته سارة، وابنائه محجوب وطه وعوض. وقد أصبحت دولة قطر جزءاً أصيلاً في ذاكرتهم الحياتية، ومعطى مركزياً في تكوين الأسرة وأخيلتها.

نلتقي في الحلقة الرابعة وهي الأخيرة.

abdallaelbashir@gmail.com
////////////////////////////

 

آراء