إمبراطورية النيل البريطانية والقصة المجهولة للاحتلال البريطاني المصري للسودان.. عرض: بدرالدين حامد الهاشمي
مقدمة تاريخية : إمبريالية بلا دافع
The British River Empire & the Unknown Story of the Anglo-Egyptian Occupation of the Sudan
A historiographical Introduction: An Imperialism without impetus
Terje Tvedtتيرجي تيفدت
عرض : بدر الدين حامد الهاشمي
هذا عرض مختصر لمقال لتيرجي تيفدت بروفسيور مادة الجغرافيا بجامعة بيرجن ومادة تاريخ العالم في أوسلو بالنرويج والمنشور بدورية "الدراسات السودانية Sudan Studies" العدد 36 والصادر في نوفمبر من عام 2007م. للرجل عدة مقالات وكتب عن موضوعات متنوعة تشمل علاقات المجتمع بأنظمة المياه، وبتاريخها خاصة في حوض النيل و"إمبراطورية النيل البريطانية"، وتشمل أيضا دائرة اهتماماته البحثية تاريخ نمو أنظمة العون الدولي والتاريخ المعاصر لذهنية وأفكار وآراء النروجيين المتعلقة بـ "العالم الثالث/ النامي". كذلك أنجز بروفيسور تيفدين كتابا وشريطا (فيلما) وثائقيا عن نهر النيل وتاريخه.
بدأ بروفيسور تيفدين مقاله بالسؤال التالي: لماذا قام البريطانيون والمصريون بإعادة احتلال السودان؟ ويجيب على سؤاله بالقول أن ذلك له علاقة مباشرة وصلة وثيقة بروايات ونظريات الإمبريالية على وجه العموم، وبتقسيم القارة الأفريقية في القرن التاسع عشر على وجه الخصوص، وبفهمنا كذلك لتاريخ السودان الحديث وللعلاقة بينه وبين السودان ومصر. يقدم البروفسيور النرويجي تفسيرا لتصورات وأهداف بريطانيا ومصر في تسعينيات القرن التاسع عشر (خاصة فيما يتعلق بمسألة المياه) تختلف جذريا عن التفسيرات التقليدية السائدة التي تدور حول "تقسيم أفريقيا" وعن "السياسات البريطانية" في وادي النيل. يعتمد الرجل في تفسيره – ذلك المختلف- على تقارير ورسائل لم يلتفت لها كثير من الدارسين، ويعيد تفسير التقارير التقليدية التي عكف عليها الباحثون منذ عقود بصورة مختلفة. تتميز تفسيرات بروفيسور تيفدين أيضا عن ما سبقها من تفسيرات "التاريخ الدبلوماسي" المعتادة في أنها تركز وتحلل وتكامل العوامل الجغرافية والخواص الهيدرولوجية للنيل، والتي كثيرا ما كانت هي التي أملت على متخذي القرار البريطانيين طرائق تفكيرهم وقراراتهم وأفعالهم. يستند الكاتب في مقاله إلى عدد من أعماله المنشورة وكتاب "عُمْدَة" في موضوعه هو كتاب "أفريقيا والفيكتوريين" لرونالد روبنسون وجون جالاهار والصادر في 1981م، والذي يشرح النظرية العامة للإمبريالية، خاصة في أفريقيا، ويضرب مثلا لها بحادثة فشودة المشهورة في تسعينيات القرن التاسع عشر. في ذلك الكتاب يقول المؤلفان أن ما دعا بريطانيا لغزو واحتلال أفريقيا هو سعيها لتقوية وتحصين أمن إمبراطوريتها والسيطرة على قناة السويس، والتي تعد "شريان الحياة" الاقتصادي والاستراتيجي الأساسوعماد الإمبراطورية والهند، وكذلك تأمين حدود الإمبراطورية جنوب مصر لمنع القوى الأوربية الأخرى من الزحف على دلتا مصر والسيطرة عليها، ومن ثم طرد بريطانيا من مصر بكاملها وحرمانها من السيطرة على قناة السويس.بهذا الفهم يعد المؤلفان احتلال السودان مجرد "خطوة استباقية" فرضت على الإمبراطورية البريطانية فرضا، وقد كانت تلك الإمبراطورية في لندن والقاهرة غير راغبة في الأصل في الدخول في معارك حربية لولا أنها كانت "تدافع" عن وجودها ضد "الأطماع التوسعية" للدول الأوربية الأخرى! وبعبارة أخرى كان البريطانيون– بحسب نظرية المؤلفان رونالد روبنسون وجون جالاهار- يعدون السودان مجرد منطقة عازلة buffer zone لحماية المصالح البريطانية في مصر، ويشبهونه تاريخيا بـ "أفغانستان أخرى". يزعم المؤلفان أيضا أن قيام دولة مهدوية / إسلامية في السودان بين عامي 1884 - 1898م (حتى وإن أظهرت العداء لبريطانيا ) لم يكن يشكل في حد ذاته خطورة أو حتى إزعاجا للبريطانيين، بل ربما كانوا راضين عن قيامها، فوجودها كان مفيدا لهم من طرق عديدة. كانوا يدركون جيدا بأن هؤلاء "الدراويش" لا علم لهم بأمور الهندسة والمياه ولم يكن بوسعهم قطع إمدادات مياه النيل عنهم في مصر. كان البريطانيون يؤمنون أيضا بأن ضعف الحكم المهدوي سيغري القوى الأوربية الأخرى بغزو السودان، ولم يقوموا هم بإعادة احتلال السودان (رغم عدم الفائدة الاقتصادية من حكم ما كانوا يطلقون عليه "تلك الصحراء الممتدة") إلا بعد أن تيقنوا من ضعف وتآكل سلطة النظام المهدوي الحاكم في السودان، ولو أن ذلك النظام حافظ على قوته وقدرته على صد الأعداء من القوى الأوربية لظل السودان محتفظا باستقلاله التام. هكذا لخص بروفيسور تيفدين نظرية رونالد روبنسون وجون جالاهار في نوازع وأسباب إعادة البريطانيين (ومن خلفهم المصريين) لاحتلال السودان. وكما ذكرنا آنفا فإن لبروفيسور تيفدين نظريةتخالف ما يطرحه رونالد روبنسون وجون جالاهار من آراءفي كتابهما "العمْدَة" المذكور مخالفة تامة والتي تخلص إلى أن أهداف إعادة احتلال السودان لم تكن من أجل "أطماع توسعية" أي أنها كانت في واقع الأمرإمبريالية بلا دافعAn Imperialism without impetus
يؤكد بروفيسور تيفدين في نظريته في هذا المقال أن للإمبريالية البريطانية في احتلالها للسودان دافع وأي دافع! وكيف لا وهو يصفها بأنها "إمبراطورية المياه" ويصف استعمارها بأنه "إمبريالية المياه". لا يستبعد بروفيسور تيفدين بالكلية الرأي الذي يقول بأن تخوف البريطانيين من أطماع الدول الأوربية الأخرى في التوسع في أفريقيا والاتجاه شمالا فيها هو ما قد دعاهم لإعادة احتلال السودان، بيد أنه يعد ذلك عاملا واحدا فقط من عدة عوامل لعلها أكثر أهمية منه بما لا يقاس. يعتقد بروفيسور تيفدين أن السبب الرئيس في إعادة احتلال السودان هو طبيعة الزراعة المصرية وطرق ريها وحاجتها لمصدر مستمر وآمن للمياه، وتحسب مصر (وبريطانيا) من أزمة مياه مستفحلة في نهايات القرن التاسع عشر، وتوفر هذه المياه في المناطق جنوب مصر.
كانت تقاريرالبريطانيين تزعم دوما أن جنوب السودان منطقة عديمة القيمة ويصفونها حرفيا بأنها حثالة تقع في "قاع البرميل"، بينما يعتقد بروفيسور تيفدين أن خبراء الاستراتيجية البريطانية يؤمنون بعكس ذلك تماما ويعدون جنوب السودان "برميلا يطفح بالمياه"، وأنه منطقة غنية بمياه وفيرة غير مستغلة تحتاجها للزراعة مصر (وبريطانياالتي تستعمرها) وتعد "أغلى من الذهب". لذا فإن اعتبار السودان مجرد "منطقة عازلة buffer zone " بين القوى الأوربية التوسعية المتصارعة ليس من المنطق في شيء. إن مرد اهتمام بريطانيا بإعادة احتلال السودان في حقيقة الأمر هو أن هذا البلد بالغ الأهمية للتخطيط الزراعي في مصر خاصة فيما يتعلق بزراعة وصناعة القطن، وليس في الأمر "سيكولوجية دفاعية" كالتي مارسها المستعمرون البريطانيون في شمال الهند مثلا. يزعم بروفيسور تيفدين في نظريته أن خطط البريطانيين لوضع أيديهم (أي الاستيلاء) على أطول وأشهر أنهار العالم واستغلال التقنية العصرية المتوفرة لديهم نابعة من شعورهم بالتفوق والقوة الإمبريالية والرغبة (والقدرة) على التحديث واستخدام أدوات واختراعات علمية قاموا بها. لذا أطلق بروفيسور تيفدين على تلك الإمبريالية البريطانية وصفا جديدا هو "الإمبريالية السياسية –المائية ذات الطابعالعمليالحضاري (promethean)" والتي تتعدى حالة كونها فقط اقتصادا توسعياوتسعى لخدمة ونمو الاقتصاديات الزراعية المصرية (وبالتالي البريطانية). بين بروفيسور تيفدين أن الاستعمار البريطاني للسودان لم يكن خطوة في الظلام أو خبطة عشوائية بل كان عملا مدروسا يمتازبنظرة استراتيجية إمبريالية بعيدة المدى خاصة في نواحي جيولوجية وهيدرولوجية تأخذ في الاعتبار عوامل اقتصادية وسياسية عديدة وبالغة التعقيد.
يعزو بروفيسور تيفدين أسباب احتلال بريطانيا لمصر في 1882م بحسب تفسيره لكثير مما جاء في الوثائق البريطانية والمصرية إلى رغبتها في التحكم في قناة السويس، ذلك الشريان الحيوي الأشد أهمية بالنسبة لبريطانيا ومستعمراتها، وخوفها من احتمال قيام حكومة مصرية معادية بإغلاق ذلك الشريان.أدرك قادة المستعمرون البريطانيون في مصر ومنذ زمن بعيد أهمية التحكم في مصادر النيل وذلك لارتباط مياه النيل بالزراعة في مصر وباستقرارها السياسي ونموها الاقتصادي، خاصة وأن مصر غدت موردا رئيسا للقطن الرخيص الممتاز النوعية لمصانع النسيج في لانكشير بعد أن قللت تلك المصانع من اعتمادها على القطن الأمريكي. لخص نوبار باشا رئيس الوزراء المصري ما ظل البريطانيون يؤمنون به في جملة قصيرة معبرة شهيرة جاء فيها أن "المسألة المصرية هي مسألة ري".
اهتمت الادارة البريطانية في مصر بقيادة اللورد كرومر (1883 – 1907م) أول ما أهتمت بشؤون الاقتصاد وكان على رأس تلك الاهتمامات هو تطوير المشاريع المائية بالبلاد. لم تكن تلك السياسة - بحسب نظرية بروفيسور تيفدين - من بنات أفكار تلك الحكومة بل كانت سياسة عليا مفروضة عليهم من المتنفذين من كبار ملاك الأراضي في مصر ومن شركات تجارية وصناعية في مصر وبريطانيا. كانت للمصارف البريطانية مصلحة عظيمة في أن يزدهر الاقتصاد المصري فقد كانت مصر مدينة لبريطانيا بأكثر من 100 مليون من الجنيهات وتبلغ قيمة الفائدة السنوية عليها أكثر من 5 مليون جنيه. لم يكن هنالك من مورد أمام مصر لدفع أصول وفوائد تلك القروض غير تصدير أكبر كمية من القطن، وذلك يتطلب بالضرورة امدادات مائية كافية. بلغ من اهتمام بريطانيا بمناسيب النيل حدا كانت تقوم فيه صحيفة التايمز اللندنية بنشر تلك المناسيب بصورة دورية على صفحاتها! علق الساسة البريطانيون آمالا عراضا على مهندسي الري كي يقوموا بتنفيذ خطط ومشاريع من شأنها توفير أكبر قدر من المياه لزراعة القطن في مصر ولتحسين طرق الزراعة والري وبناء منشآت جديدة لتوفير أكبر قدر ممكن لزراعة القطن بها. ولهذا قام مهندسو الري البريطانيين في عام 1891م بتشييد سد في منطقة الدلتا بشمال القاهرة ساهم في زيادة الأراضي المزروعة قطنا. ولضمان توفر مياه كافية لري المحاصيل (خاصة القطن) في فترة الصيف فكر البريطانيون في تشييد سد آخر في منطقة أسوان، واستغرق إنجاز ذلك العمل أربعة أعوام كاملة (1898إلى 1902م). رغم كل تلك الانجازات المائية في مصر لم تعد المياه التي يوفرها ذلك السد وغيره كافية لسد حاجات مصر الزراعية فتواصل التفكير في التوجه جنوبا ووضع اليد على منابع النيل. جاء في تقرير حكومي عام 1894م أن صفات وخواص النيل الهيدرولوجية وزيادة احتياجات البلاد (أي مصر) من المياه خاصة في فصل الصيف تتطلب التحكم في النيل جنوب الحدود المصرية وتحديدا عند بحيرة البرت وبحيرة فيكتوريا (والبحيرة الأخيرة هذه يعادل حجمها مساحة أسكوتلندا). وفي هذا الصدد كتب أحد البريطانيين في عام 1894م ما نصه: "البحيرات الإيطالية هي لسهول لومباردي، بينما بحيرة البرت هي لأرض مصر". وبإقامة سدود تحجز مياه تلك البحيرات كان البريطانيون يؤملون الحفاظ على إمداد مائي وفير خلال شهور فصل الصيف، فقدر أحد الخبراء أن رفع مياه بحيرة فيكتوريا لمتر واحد فقط كفيل بانسياب المياه بنحو 30 مرة أكثر مما تحتاجه مصر. بالطبع لم تكن تلك الأفكار والطموحات لتجد طريقها للتنفيذ لو ظل السودان تحت سيطرة الحكم المهدوي، لذا كان لا بد من احتلال السودان.
خلص بروفيسور تيفدين إلى أن الاستعمار البريطاني ظل يخطط ومنذ أعوام تسعينيات القرن التاسع عشر لإقامة "إمبراطورية النهر" على النيل. وفي هذا المسعى حصل الاحتلال البريطاني – المصري للسودان على تأييد ومساندة الصفوة المصرية، وتم تمويله بالكامل من أموال الخزانة المصرية، وفي هذا دلالة أكيدة على الفكرة السائدة في مصر من أن النيل هو "نهر مصري" خالص. كانت الإستراتيجية البريطانيةتركز في جانب منها على قيام وتطوير منشآت للري من مياه النيل في مصر لتزيد من انتاج القطن ولتنعش من الاقتصاد المصري، وفي جانب آخر وفي ذات الوقت تقوم تلك الاستراتيجية البريطانية على قيام السودان كدولة مستقلة عن مصر واستغلال المياه فيه للزراعة (خاصة في مشروع الجزيرة). كان ذلك موافقا تماما لمصالح لوبي القطن في بريطانيا، ولكن كانت الاستراتيجية البريطانية تهدف أيضا لخلق طبقة من الصفوة من متعلمي السودان يعيشون من خير استغلال مياه الأنهار فيه للزراعة والعمران. أدت تلك السياسة وفي أكثر من مرة لصدام وتناقض وتضارب في المصالح بين مصر والسودان. ساند البريطانيون في نهاية الأمر السودانيين في نضالهم (الابتدائي) من أجل حكم مستقل عن مصر، وحققوا استراتيجيتهم التي كانت تهدف خلال سنوات حكمهم لحوض النيل "لجعل القوة التي تحكم السودان تحكم مصر أيضا وتجعلها تحت رحمتها، وعن طريق حكمها لمصر تتحكم (بالطبع) في قناة السويس".
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]
////////////