إنّها بِنتك! (تعقيباً على أقمار فيصل، وقضيّة جامعة الخرطوم)

 


 

 


eltlib@gmail.com
(1)
لمحتُ اسم عمود (أفق بعيد) لأستاذنا فيصل محمد صالح ( صادر صباح أمس الإثنين 16 مايو 2016م، بأخيرة صحيفة (التيّار) السودانيّة) خلال زيارةٍ خاطفة لمكاتب الصحيفة، ظهر ذات اليوم، في ضيافة الصديقة والزميلة شمائل النور. لمحتني فوَخَذ اسمه قلبي: (أقمار المدائن).
نسيت نسخ الجريدة الإكراميّة في استعجالي للحاق بحفل تدشين (مكتبة الوراقين الثقافيّة) بمركز الجنيد الثقافي، وعندما عدت كان العمود في أجندتي وأنا أفكّر في كمّ السودانيين الذين سيُطالعون المقال، ومدى ثقتهم المُفرطة في وسائل إعلام (العالم القديم) ثمّ، والأهم، في مصداقيّة الأستاذ فيصل ومواقفه وتاريخه المليء بالعجائب الحقيقة! ما هو الجديد في نشر مقال يتحدّث عن أزمة لم تكف "الصفوة الفيسبوكيّة" في الكتابة عنها منذ أسابيع، وتصاعدت حملات مكثّفة لنشر المعلومات والحال الغريب فعلاً الذي وصلت إليه الدولة (جامعة + سلطات) في تعاملها مع قضية جامعة الخرطوم؛
ما هو الجديد هنا؟.
(2)
استطاعت دولتنا، وعن طريق الإعلام "الواعي والمسئول؟"، بالإضافة إلى كمٍّ هائلٍ متدفّقٍ من المعلومات المُفبركة والصور الزائفة، لأحداثٍ ومآسٍ يثبت زيفها بعد أيام!؛ استطاعت الدولة أن تحوّل الخبر الإلكتروني (الفيسبوكي) إلى كذبة، مباشرةً، في أذهان الناس، حتّى أصبحت كلّ حقيقةٍ قائمةٌ على إشاعة! إن (صناعة الإشاعة) هي الصناعة الحربية الأقوى تأثيراً من بين جميع الصناعات الإلكترونية الأخرى.
(3)
القضية التي تحدّث عنها فيصل دقيقة جدّاً، واضحة، صلبة الملامح، وقولةٌ مُشبّعةٌ بكلّ حقٍّ؛ حدّ أؤكّد، كما تأكّد لي وَخْذُ العنوانِ لقلبي فيما بعد، أن من سيقرأ هذا المقال من المواطنين في جميع مدن السودان سيُغْمَرُ بالخجل، الشعور بالهزيمة التّامة والساحقة لكلّ ما يؤمنُ المواطنون أنّه كَوَّنهم يوماً، وظلّوا يعتزّونَ به، ويُجاهرونَ به، هويةً وانتماءً.  
(4)
لقد وَقَعت الأحداث في قلب مدينة الخرطوم، وأمام سمع وبصر العالم، ولكنّ نارَ حَربِنا – سيداتي سادتي - تضاءَلت جدّاً، بالمقارنة لألسنة اللهب وجثث الضحايا في قلب الاتحاد الأوربي، والمهاجرون من جميع أنحاء الجحيم، من بين أعماق البحار المكدّسة بالغرقى، يخرجون إلى الموانئ!. نارُنا تضاءَلَت حدّ لم تَعد تلفتُ انتباهَ أحدّ! إن معارضتنا، السلمية والمسلّحة، تصرخ بأعلى صوتها، فتَلتفت الأمم مُتّحدةً، تلتفتُ الولايات المتّحدة، تلتفت الكاميرات لبرهةٍ من الزمن، ثم يُباد السوريّون في حلب المُخرّبة، ويقصف البشر ويُدكّ كلّ شيءٍ دكّا. حتّى حكومتنا التي لا تعرف – فعلياً - ما الذي سوف تفعله بهذه "الجنازة" المسماة وطناً؛ حكومتنا تصرخ استجداءً لكنّ الغَرَقَ أجمع.
إذاً فالمعارك، في كلّ مكانٍ، منفردة؛ وليس لنا سوى أن نُقاومَ ما يُواجهنا بالطرق الفعّالة، والفعّالة فقط. أي: التي تتركُ أثراً في الواقع. والآن تُركت الكثير من الآثار على أرض الواقع في السنوات الأخيرة بطريقةٍ غير مسبوقة، حتّى لقاربَ كلّ جرحٍ فينا أن يُصبحَ أثَريّاً بين ليلةٍ وضحاها. فيصل تحدث عن أثرٍ جارحٍ فعلاً، وهو: أن تختفي ابنتك الصغيرة دونَ أن تُخلّفَ أثراً.
(5)
كما ذكرتُ، فالحكومة استطاعت أن تغبّش فضاء "فيسبوك" تحديداً، والحملات المناصرة لكلّ القضايا السياسيّة، بما فيها القضية الآنية هذه، لا تعدو (بالنسبة للمواطن المُواجه بمخاطر أفدح، في كل مكانٍ، بدايةً بالحروب نهايةً بانعدام قيمةِ المال بالنسبة للجميع: العدم الجحيمي) لا تعدو سوى صدى في الفضاء.
هذا الصدى، في الناحيةِ الأخرى، هو أصواتٌ حقيقيّةٌ لأناسٍ نَعرفهم (إن لم يكن شخصيّاً فقد بتنا، افتراضيّاً نعرفهم)، هذه الأصوات مفيدةٌ جداً بالنسبة للمصابين #شخصيّاً بهذه الحوادث، ومن حولهم من أصدقاء ومحبّين ومتعاطفين حدّ البكاء معهم؛ إنه توثيق هائل ومهم ومؤلم لما يكابدونه من آلامٍ وقلقٍ وانعدام حياة. تعبيرٌ واسعُ النطاق عن العَجز في كثيرٍ من الأحيان. خصوصاً من يعيشون معنا داخل العاصمة، والتي لا تزالُ مركزاً محوريّاً في الفضاء كما هي على أرض الواقع. الناس الذين نلتقيهم في الشارع، ونتحدث إليهم لبرهةٍ قصيرةٍ تتكرّر مع السنوات وتتطور.
(6)
لهذا، كان دائماً ردّ فعلي الصمت أو المشاركة في أحيانٍ قليلة، إذ لا أشعر بأن بي قدرة أن أعبّر بأصدق وأشدّ تأثيراً من أسر الضحايا والمعتقلين، أبناء وبنات القبائل المنكوبة بالموت والقصف والحرب. أما صورُ كلّ هذا فإنني أتفاداها قدرَ الإمكان، ولا تنالُ مني سوى نظرةٍ خاطفة، فمهما تألّمت فهو وقاحةٌ أمام هول نظرةِ إنسانٍ داخليّةٍ لجسدِه يتفجّر، لحظةً بلحظة.
(7)
لكنها السلطة أغفلت أن (سدّ ثقوب تسرّب المعلومات) في العالم الجديد لم تعد تصلح وظيفةً لأحد، بل إنها لا تعدو تضع مُوظّفها تحت طائلة الكوميديا كاملة الدسم، والتي تدفع بالناس للضحك المستمر والسخريّة المريرة. صحيح أن السودانيين (المواطنون الموجودون في المحيط الذي أعيش فيه، مدينة الخرطوم، ولهم مجموعات وصفحات مكدّسة بمئات الآلاف من الناس، كمجموعات أندية كرة القدم مثلاً)؛ صحيح أنهم لا يستخدمون فيسبوك سياسيّاً، إلا أن (واتساب) استطاع أن يلعب دوراً جديداً، وهو التفاعل  الجاد من المواطنين والمتعة بالأعمدة ومقالات قادة الرأي والإعلام والمشاهير والكتاب الشعبيين والشعراء والفنانين، التي أصبحت، ولأول مرَّة وفي الجَرِح: مجاناً! إنهم يتفاعلون عن ما يُعبّر عن معانتهم (والتي لا يستطيعون، إلى الآن، ومهما مضت في فداحتها، من استيعاب حدوثها أصلاً)!
(7)
أستاذنا فيصل تحدّث إلى عامّة الناس، والدعوة لبقيّة رؤساء التحرير والكتّاب (بما أن الرتبة الأخيرة للأستاذ فيصل محمد صالح كانَت رئيساً للتحرير)، الكتابة والدعوة لحلٍّ عاجل لهذه المسئلة، إذ الأمر لا يحتاج لمطالبةٍ أصلاً. عبّر فيصل بقدرته الفائقة، كشاعر، في نتفِ الجراحِ برقةٍ عَنيفة، وعينٍ صادقةٍ لا تُرَد.
إن الشخص ليفخر أنه كان في يومٍ من الأيام جزءً من هذه التجربة، ففي كلّ يومٍ يمرّ، ورغم الظروف القاهرة في ساحات الصحافة الورقية، فإن في هذه الفئة كانت دائماً أصوات قويّة في ضمير صحافتنا السودانيّة.  أنشرُ أدناه نصّ المقال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
*صفوة فيسبوكيّة، (فيسبوكات مُتعدّدة؟) من نصّ (الحُجُب). منشور على مدونة طينيا، بالرجوع للأخ غوغل.
اللوحة: للفنان التشكيلي دكتور حسن موسى، رُسِمت تضامناً مع الأستاذ فيصل محمد صالح إبّان اعتقالاته المتكررة في العام 2011م، وقد كانت اللوحة الحروفيّة هي الشعار الذي رُفع في وقفةٍ احتجاجيّةٍ بمجلس الصحافة والمطبوعات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نصّ المقال:
أفق بعيد
أقمار المدائن
فيصل محمد صالح

أنظر لهذه الصور ثم تأمل في الموقف، إنها بنتك... بنت أختك.. أو أختك الصغيرة، شابة صغيرة تطرق أبواب العشرينات بحياء، متفوقة في دراستها ومحبة للحياة وللتفوق. عرفت أنها ستخرج من منزلها الذي تحب، ومدرستها التي تعشقها. ربما كانت غيرها من البنات تنشغل بأمور أخرى من المعتاد أن تنشغل بها البنات في مثل سنها، وليس في ذلك جريمة، لكنها فضلت الانشغال بمصير بيتها ومدرستها التي قد تؤخذ منها عنوة، وبلا مبررات منطقية ومقبولة.
أخذت قضيتها العامة بقوة، واستخدمت الوسائل السلمية دفاعا عن المكان الذي تحب، كيف يجب أن يعاملها المجتمع الذي تنتمي إليه، وإدارة المدرسة- المنزل الذي هبت للدفاع عنه؟ جعلت منها بطلة وكرمتها..؟....رفعت صورها على سارية المدرسة والمنزل..؟ أعادت تسمية المدرسة عليها..؟ لا...لم يحدث كل هذا، لكنها وجدت نفسها مفصولة من مدرستها ومطرودة من منزلها، ثم اختفت من عائلتها التي لا تعلم مكانها ولا مصيرها...، مرة أخرى تذكر أنها فتاة سودانية عادية تداعب أبواب العشرين...لا زالت.
ليست هذه القصة من سردينيا أو من بلاد واق الواق، بل من البلد الذي ننتمي إليه والمسمى بلاد السودان، أي عالم هذا الذي نعيش فيه إذن، أي منطق هذا الذي يسود بيننا، أي أخلاق، أي قيم، وأي قوانين تسود مثل هذا المجتمع؟ كيف يمكن لولاة الأمور أن يناموا مغمضي العينين، وكيف يمكن لإدارة مؤسسة عريقة ومحترمة أن تظل في مكانها وكيف يحق لها أن تحمل ألقابا علمية محترمة تمشي بها بين الناس بعد هذا الذي حدث.
كيف يمكن لمجتمع يفترض أنه يعيش، أو هكذا يقول، وفق شرائع سماوية عليا محملة بالقيم وكريم المعتقدات والأخلاق أن يأخذ بنات في مثل هذا السن من أسرهن ومنازلهن إلى مكان مجهول، ثم لا يعلم عنهنّ أحد شيئاً ولا يعرضن على جهات تنفيذ القانون، إن كانت هناك ثمة تهمة. هذا شئ مريع ومخيف، ولا يمكن السكوت عليه، ولا ينبغي.
لا بد أن في هذا البلد عقلاء، ليس بمنطق أننا نعرف هذا أو ذاك، لكن بمنطق أن في أي بلد في الدنيا وفي كل ظرف، كما يحدثنا التاريخ، بعض عقلاء، يدركون أن لكل شئ حد، وأن لكل تصرفات سقف يجب ألا تتعداه، وإلا تحولت البلاد إلى غابة.
هذا البلد ليس ملك فرد أو فئة يتصرف فيه على هواه، هو ملك لكل أبنائه، وبحق الشراكة الوطنية يحق لكل فرد أن يشارك في تحديد مصير الوطن من جانبه، وأن يرفع يده معترضا إن لم تعجبه الطريقة التي يدير بها قادة البلاد الأمور، هذا أمر تقره كل الشرائع والقيم والقوانين والتجارب الإنسانية على مر التاريخ.
وفي الوطن أقمار من كل نوع وشكل، يحق لها أن تشع بنورها في سماء البلاد، وتملا سماواته عبيرا وغناء. أطلقوا سراح أقمار المدائن فهي جديرة بالحياة والانطلاق والغناء بطلاقة وحرية .

 

آراء