Keep it together Gamal Nkrumah جمال نكروما ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لاستعراض الدكتور جمال كوامي نكروما لكتاب باللغة الإنجليزية عنوانه: "نهر النيل في عصر ما بعد الاستعمار: الصراع والتعاون بين دول حوض النيل" The River Nile in the Post- Colonial Age: Conflict and Cooperation among the Nile Basin Countries صدرعن دار نشر الجامعة الأميريكية بالقاهرة عام 2010م، ومن تحرير البروفيسور (والكاتب والسينمائي) النرويجي ترجا تيفت Treja Tvedt (1951م - الآن)، والذي يعمل أستاذا للجغرافيا في جامعة بيرجن ، وأستاذا للعلوم السياسية في جامعة أوسلو، وألف وحرر الرجل عددا من المقالات والكتب عن المياه وتاريخها في عدد من البلاد منها دول حوض النيل وعمان وغيرها. أما كاتب الاستعراض فهو الصحافي والكاتب جمال كوامي نكروما (1959م - الآن) ابن الزعيم الغاني الراحل كوامى نكروما من زوجه القبطية (فتحية رزق) ، والذي يعمل رئيسا لقسم الشئون الدولية في "الأهرام ويكلي". وهو حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة لندن. نشر هذا الاستعراض في "الأهرام ويكلي" في عددها رقم 1012 الصادر في عام 2010م (أي قبل نحو عام من بدء العمل في إنشاء إثيوبيا لسد النهضة). المترجم ******** ********** *********** ******** لعل أحد ثوابت السياسة الخارجية المصرية المعاصرة هو أن تشارك وتتداخل بصورة أوسع وأنشط مع الدول التي لم تكن تلق إليها بالا في الماضي. وأكد الرئيس حسني مبارك (في أكثر من مرة) على أهمية تقوية العلاقات بين مصر ودول حوض النيل. ولعل من أهم العوائق التي تواجه دول حوض النيل هو فقدانها لعلاقات وثيقة على أعلى المستويات. وقد حان الوقت الآن لإصلاح هذا الخطأ المحرج (faux pas). وعبر رئيس الوزراء أحمد نظيف كذلك عن ضرورة قيام مصر بإصلاح خطوط اتصالاتها مع باقي دول حوض النيل. وقد قام بروفيسور ترجا تيفت محرر هذا الكتاب (نهر النيل في عصر ما بعد الاستعمار: الصراع والتعاون بين دول حوض النيل) بتقديم شرح مسهب وبليغ لنظريته التي مفادها أن السياسة البريطانية تجاه النيل ، وما نتجت عنه من صراعات هي التي أحالت "عملية متعددة الألوان للحضارات kaleidoscopic process of civilizations" عند شعوب حوض وادي النيل ، إلى غضب عارم في السياسة الدولية". وهو في نظريته تلك (كما يقول كاتب مقال في ملحق التايمز الأدبي) يقدم رؤى فاحصة ثاقبة. ورغم ذلك ، فإني أرى أن مجمل الكتاب لا يماثل مجموع أجزائه المختلفة. إن محرر هذا الكتاب (والذي لا ينبغي أن يخلط بينه وبين هذا السفر الذي نحن بصدد استعراضه) يضع الصراع بأكمله في سياق تاريخي محض. فقد كتب أن "تاريخ حوض النيل في عهد الحكم البريطاني تميز بحروب المياه، وبالسياسة المائية على نحو واسع جدا، وبقيام امبراطورية امتدت من البحر الأبيض المتوسط إلى قلب أفريقيا". إن صح ذلك القول في الماضي، فلا يوجد أدنى سبب لجعل تلك العقلية المصابة بجنون العظمة ، والتي سادت في الماضي، وعفا عليها الزمن الآن، أن تبقى دون أن تجد من يكبحها. غير أنه ، وكما يبدو، هنالك من لهم مصالح شخصية في الإبقاء على ذلك الجدال والصراع حيا مشتعل الجذوة. يقول كاتبنا : "إن التوسع البريطاني جنوبا عبر النيل كان سياسة بريطانية عقلانية ومنطقية، مبعثها خليط معقد من الاعتبارات الإقتصادية والسياسية ، التي تأثرت بفهمهم للقدرات الهيكيلة لخواص ومزايا النيل الجغرافية والهيدرولوجية". كان هذا الكتاب ثمرة لحلقة دراسية (سمنار) عقدتها جامعة بيرجن بالنرويج في ربيع عام 2007م، أي قبل وقت طويل من توقيع خمس من دول المنبع على إتفاقية إطارية جديدة للنيل ، مثيرة للجدل. ومولت وزارة الخارجية النروجية نفقات إقامة ذلك السمنار بأكملها ، وذلك بحسب ما ذكره تور سيترسدال، مدير برنامج أبحاث حوض النيل، في مقدمته للكتاب. وذكر سيترسدال أيضا أن هذا الكتاب سيكون في غاية الفائدة "لأي طالب مهتم بتنمية النيل، ولا غنى عنه لفهم التاريخ الحديث لحوض النيل، بكل تعقيداته، وبالسياسة التي تحيط به، والجهود التي تبذل الآن لإدارته إدارة مشتركة". ويدلف بروفيسور تيفت مباشرة إلى نقطته الأهم والأكثر إثارة فيؤكد أن مصر: " ظلت، طوال عصر ما بعد الإستعمار، أهم لاعب في قضية النيل ، وبقيت هي الدولة الأكثر استفادة من الترتيبات التي أنشأتها مؤسسيا إمبرطورية النيل البريطانية". ولا شك أن غالب من هم في مصر أو غيرها من بلدان العالم سيشككون في هذا القول. غير أن الكاتب أتى بقول آخر قد يراه البعض مثيرا للجدال والنزاع حين اِتَّهَمَ مصر بأن إصرارها على " ترويض النهر في داخل حدودها" قد أتى على حساب مصالح دول المنبع. وأتت نقطة التحول عند اتمام إنشاء السد العالي في عام 1971م. وفي هذا يذهب بروفيسور تيفت إلى أن مصر ومنذ ذلك التاريخ : "اتبعت ، بإصرار شديد، سياسة إنشاء مشاريع مائية للسيطرة على مياه النيل في داخل حدودها، وفي ذات الوقت اعتبار أن تطوير دول النيل الأخرى لمياه النيل الذي يجري على أراضيها تهديد لأمنها القومي". وعلى تلك الخلفية، من المهم تذكر أن مصر ظلت تتأبى على القيام بتغيير جذري (راديكالي) في مضمون اتفاقيتي 1929م و1959م. وكانت اتفاقية 1929م قد أبرمت بين مصر وبريطانيا (بحسبانها ممثلة مستعمراتها الإفريقية التي يمر بها النيل). ولا ترضى الدول الإفريقية بالواقع الذي فرضته تلك الإتفاقية، والتي لا تزال هي التي تحكم الطريقة التي توزع بها مياه النيل، إذ أنها لم تكن دولا مستقلة ذات سيادة حين وقعت تلك الاتفاقية. وتم في عام 1959م توقيع اتفاقية أخرى بين مصر وبين السودان (وكان حينها قريب العهد بالاستقلال) سمحت لمصر بالحق المطلق في 55.5 بليون متر مكعب من المياه (أو ما يعادل 87% من تدفق مياه النيل) ، على أن ينال السودان 18.5 بليون متر مكعب فحسب. وزعم بروفيسور تيفت أن مصر كانت في السَّبعينيَّات والثَّمانينيَّات قد "عبرت بوضوح عن استعدادها للجوء للخيار العسكري للحفاظ على مصادر مياهها" وكتب ما يفيد بأن مصر كانت (وظلت) لديها قناعة ثقافية راسخة القدم بأن لها الحق في مياه النيل، وهذا أمر لا يمكن الاستمرار فيه في عصر ما بعد الاستعمار، فهو من ناحية، مخالف للقوانين الدولية التي تحكم المياه، ومن ناحية أخرى يتعارض مع القوى السياسية المتعاظمة للدول التى ينبع ويمر بها النيل . ينبغي على مصر أن تنظر جنوبا عوضا عن النظر شمالا وشرقا ، فرفاهية مصر تعتمد، وبصورة كبيرة ، على تطوير علاقات تجارية واقتصادية أوثق مع دول الجنوب. فأفريقيا هي قارة المستقبل، ومصر دولة أفريقية يمكنها لعب دور أكبر في الشئون الأفريقية. وتملك القارة الأفريقية امكانات اقتصادية ضخمة، ولكثير من دول المنبع، رغم الفقر المدقع الذي تجد نفسها في خِضَمّه، موارد ضخمة . ومن شأن تطوير مشاريع الري والطاقة الكهربائية المائية (إن أحسنت إدارتها) أن تكون مفاتيح تنمية وتطوير ورفاهية هذه المنطقة. لا ريب أن النيل هو شريان حياة مصر، وبدونه لم يكن لمصر أن توجد. ولا بديل لمصر غير النيل (مصدرا للمياه) ، بعكس بعض دول حوض النيل الأخرى، التي لها بدائل أخرى. وتعتمد مصر اعتمادا كاملا على مياه النيل في الزراعة والصناعة والسياحة والاستخدامات المنزلية اليومية. وتمتلك مصر من الامكانات التقنية ما ليس موجودا عند بعض دول المنبع. ومن مصلحة مصر أن تسارع بتطوير عمليات التنمية في دول حوض النيل، إذ من شأن ذلك أن ينعش اقتصاد مصر نفسها. بل إن تطوير مصر لإقتصاديات دول حوض النيل سيغدو هو آلة النمو للإقتصاد المصري. فقد ولت الأيام التي سادت فيها الفلسفة السياسية القائلة "أفقر جارك beggar thy neighbor " (هي فلسفة اقتصادية – سياسية تزعم بأن حل المشاكل الاقتصادية لدولة ما يكمن في إفقار جيرانها. وتمارس على مستوى التجارة بين الدول بتخفيض الدولة لعملتها، ووضعها لعوائق على الاستيراد وحماية المنتج المحلي. المترجم). ليس هنالك واحدة من دول حوض النيل لها اليد العليا (في شأن مياه النيل)، بل على جميع هذه الدول أن تعمل يدا واحدة من أجل خلق مستقبل اقتصادي أكثر ازدهارا. فالمنطقة الآن مجبرة على الدخول في معركة من أجل تسريع وتيرة النمو والتطور الاقتصادي والاجتماعي فيها، والنيل الخالد هو بلا ريب المفتاح لتلبية طماح شعوب دول حوض النيل. لقد أصدر الرئيس مبارك توجيهات واضحة بأن يقتصر التصريح حول شئون النيل على عدد قليل من كبار المسئولين، وألمح بأنه لن يقبل باللغة المستفزة التي تصدر عن بعض المسئولين من غير المأذون لهم بالتصريح. وعلى الرغم من ذلك فقد انهمر سيل من المقالات السلبية المتشائمة تهاجم "مبادرة حوض النيل". وإن كان هنالك ما يشفع لتلك المقالات الباحثة عن الأخطاء (وليس سواها) فهو إنها لفتت النظر إلى حق دول حوض النيل فى تناول شأن مياه النيل المشتركة، ومقابلة تحدياتها المتزايدة بصورة جادة، وتحويل تلك التحديات لفرص يمكن اغتنامها. ويؤيد التوقيع على الاتفاقية الإطارية الجديدة في مايو على ما جاء في الخلاصة التي وردت في هذا الكتاب. (للمزيد عن مبادرة حوض النيل والاتفاقية الاطارية يمكن الاطلاع على موقعها في الشابكة العنكبوتية: http://www.nilebasin.org/index.php/about-us/the-nb-cooperative-framework المترجم). إن لنظرية بروفيسور تيفت آثارا وعواقب سياسية مهمة تترتب على الدول التي يمر ويصب بها النيل (مثل مصر، اللاعب الرئيس في كل ما يجري). يقول البروفيسور : "لقد شكلت سياسات مصر في سياق أهداف متعارضة: ضرورة السيطرة على النيل، وفي ذات الوقت القبول بالمشاركة في السيادة عليه، وعمل توازن بين الضعف المتأصل (inherent vulnerability) عند دولة في اتجاه مجري النهر، وبين القوة العسكرية التي تفوق كثيرا ما عند دول حوض النيل الأخرى، والتعامل مع نقص الغذاء المستدام عن طريق الإستيراد من دول حوض النيل عوضا عن بلدان مثل أستراليا والأرجنتين، والحفاظ على قسمة المياه على وضعها الحالي، وهي لا تكفي مصر نفسها إذ أن احتياجاتها المائية في زيادة مضطردة وتفوق ما أعطته له الاتفاقيات السابقة، مما يجعلها تتطلع لمشاريع مشتركة مع جنوب السودان توفر لها نحو 20 بليون متر مكعب من المياه". ويعرض الكتاب هنا لأولويات مصر في لغة يسهل فهمها ، إذ يقول إن "سياسة مصر الرسمية ظلت هي أن يصب تعاونها الإقليمي في مصلحتها الوطنية / القومية، ولا ينبغي أن يرفض ذلك من قبل المتشككين بحسبانه محض تغيير في التكتيك. وعلى العكس من ذلك، تسود الشائعات بأن مصر كانت كثيرا ما تسعى لزعزعة استقرار أقطار حوض النيل، وتنصيب حكومات ضعيفة فيها حتى تعيقها - بصورة غير مباشرة – من تطوير مواردها للمياه". يصعب على المرء ألا يخلص من ذلك النوع من المنطق والتفكير إلى أن مصر إن هي إلا مجرمة متعجرفة لا هم لها إلا تخريب وإفساد روح التعاون بين دول حوض النيل.و يبدو أن البعض يرى أحيانا أن مصر هي الشريرة الكبرى Villain of the volume. ويمس بروفيسور تيفت عصبا حساسا عندما يتحدث عن الخلافات بين دول حوض النيل وكأنها عملية "شد حبل" بين مصر وإثيوبيا. ولا ريب أنه يتعاطف هنا مع إثيوبيا ودول حوض النيل الأخرى. وكتب المؤلف ما نصه: "كانت حكومتا مصر وإثيوبيا قد دخلتا في أكثر من مرة في غضون سنوات الثمانينيات، في جدال حاد حول مياه النيل. وتعد إثيوبيا، بالإضافة إلى دفوعاتها القانونية، المشاريع المائية الحالية والمستقبلية في الصحراء بمصر والسودان مشاريع غير منطقية مضيعة للماء والمال، عندما ينظر إليها من منظور كلي للحوض، وتذهب إلى أن مياه النيل ستكون محفوظة بصورة أكثر كفاءة وفعالية في الهضبة الإثيوبية". وحاول بروفيسور تيفت أن يتخذ لنفسه مسارا بين موقفين متطرفين : الموقف المصري والموقف الإثيوبي، على التوالي. وكانت الخلافات في الرأي بين مصر وإثيوبيا حول النيل واحدة فقط من الموضوعات التي علق عليها الكاتب خواطره المثيرة للانتباه على تعقيدات وتناقضات سياسة حوض النيل. غير أنه بالقطع ليس الصوت الوحيد الذي صرح بحكم في أمر الصراع والتعاون (بين دول حوض النيل). فبعد مقدمة بروفيسور تيفت أورد الكتاب عدة مقالات بأقلام خبراء عالميين في طليعتهم باسكال كروزيزا (من بروندي) وروبرت باليقراز (من رواندا) اللذان كتبا عن النيل ونظم إدارة المياه في اثنتين من البحيرات العظمى . ثم جاء مقال استعراضي محكم لهونست بروسبر عن حوض النيل في تنزانيا . وكتب في مقال آخر رالف تشميقانا عن نظرة دولة الكنغو لمياه النيل في مساحتها الواسعة . وقامت ماري وينادي بتحليل ديناميكيات مياه النيل في كينيا، بينما أتى مقال جيمس مليريا عن المشاريع المائي – كهربائية واستغلال مياه النيل في أوغندا. وكتبت فدوى طه مقالا عن تاريخ وسياسة مياه النيل في السودان (المقصود هي الأستاذة الدكتوره فدوى عبد الرحمن علي طه من قسم التاريخ بكلية الآداب، جامعة الخرطوم. المترجم). وكتب يعقوب آرسانو عن التطورات المؤسسية لإدارة المياه في إثيوبيا . أما حسام ربيع فأتى مقاله واصفا للموقف المصري من القضية المثارة. وأختتم بروفيسور تيفت الكتاب بخاتمة مقنعة. وهناك أمر لا يمكن أن يحظى بالقبول التام متمثلا فى النظر إلى الصراع والتعاون في حوض النيل من منظور وطني مجرد. ولا يمكن بالتأكيد اختزال حوض النيل في سياسات ومواقف متتالية لقوميات وادي النيل المختلفة. ولم تعد شعوب هذه المنطقة الواسعة المتنوعة عرضة للضغط الدولي من قبل القوى الغربية، سواء كانت من الدول المانحة المعاصرة (مثل النرويج)، أو الدول الاستعمارية التقليدية (مثل بريطانيا). ولا ريب أن بروفيسور تيفت ورفاقه قد استدعوا لأذهان القراء خارطة جاذبة مثيرة لبلدان وادي النيل فى شئ من المبالغة فى بيئة واطار جد مألوف.