بعد التغيير في السلطة: اتحاد المعاشيين البريطانيين في حكومة السودان يبحث ترتيبات أوضاعهم عقب استقلال السودان
‘Change of masters’: The Sudan Government British Pensioners’ Association and the negotiation of post – colonial identities ليا بارادس Lia Paradis ترجمة : بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لقليل ما جاء في مقال طويل للدكتورة ليا براديس الأستاذة المشاركة بقسم التاريخ بجامعة سليبري روك بولاية ببنسلفانيا الأميركية حول معاشات الموظفين البريطانيين الذين عملوا بالسودان الإنجليزي – المصري. ونشر المقال في العدد السابع من "مجلة الاستعمار وتاريخه Journal of Colonialism and Colonial History والصادر في عام 2006م. والمؤلفة حاصلة على درجة الدكتوراه عام 2006م بأطروحة عنوانها Return Ticket: The Anglo-Sudanese and the Negotiation of Identity, 1920-1965. . وتشمل قائمة اهتماماتها البحثية الحالية قضايا الهوية في القرنين التاسع عشر والعشرين في الإمبراطورية البريطانية. المترجم *********** *********** *********** لم تجر إلى الآن الكثير من الدراسات عن تجارب الإداريين البريطانيين العائدين من مستعمرات بريطانيا في أثناء وما بعد مرحلة الاستقلال. ويبدو إن اختفاء تلك الامبراطورية الاستعمارية قد أدى لمحو ذكرى من كانوا ملء السمع والبصر من إداريي تلك الإمبراطورية والذين كانوا يلقون أشد الاهتمام من أطراف عديدة، وكانوا يرون أنفسهم ممثلين لحالة "انصهار الحاضرة الأعظم (بريطانيا) ومستعمراتها". وبالفعل كان هؤلاء الرجال، وبالضرورة، من موظفي الخدمة المدنية في بلدين: بريطانيا، والبلد المستعمر الذي يعملون فيه، والأخير هذا هو البلد المانح/ المكافئ rewarding place صاحب الآليات البيروقراطية القائمة بين المخدم والمستخدم، خاصة عندما تحين ساعة التقاعد. وشكلت المعاشات وشروطها العلاقة المستمرة بين المخدم والمستخدم بعد وقت طويل على انقضاء فترة العمل نفسها. وقد يصعب في زمننا الحالي تصديق أنه كان لزاما على وزارة حكومة السودان حديثة الاستقلال أن تتحمل عبء دفع معاشات "سادتهم" المستعمرين (السابقين)، وهي التي قامت بالتخلص منهم وإرسالهم لوطنهم الأصلي (يذكر المرء هنا نشيد يوسف مصطفى التني والحان وغناء حسن خليفة العطبراوي: "يا غريب يلا لي بلدك ... سوق معاك ولدك ... لملم عددك... انتهت مددك". المترجم). ونتيجة لذلك ظلت هنالك "بقايا علاقة" بين الدولتين، بل وعلائق شخصية بين مُسْتَعْمِرين و مُستعمَرين لم تنقطع أو تقطع بالكلية عقب نيل البلاد لاستقلالها. وأتى إداريون محليون (كانوا في سنوات الاستعمار من صغار الموظفين) وصاروا يحتلون الآن مواقع المسئولية ويقومون على شأن معاشات وفوائد ما بعد الخدمة للموظفين البريطانيين المتقاعدين. وكان المستعمرون (الإمبرياليون) يصرون على أن هؤلاء البريطانيين المتقاعدين كانوا في خدمة المستعمرة (أي السودان) وليسوا في خدمة الدولة المستعمرة (بريطانيا)، وليس من المعقول ولا المتوقع ولا الممكن أن يطالب هؤلاء الموظفون مخدمهم الأصلي (الحكومة البريطانية) بدفع معاشاتهم. وفي هذا المقال سأتناول أمر اتحاد معاشيي موظفي حكومة السودان البريطانيين، وحملته من أجل تعديل شروط معاش هؤلاء الموظفين، وأهمية تلك الشروط، ليس فقط من ناحية مادية بحتة، بل كعلامات ودلائل لهويتهم كموظفين في الدولة، وكأفراد أيضا. لقد كانت ترتيبات أمور التقاعد للبريطانيين المعاشيين من موظفي حكومة السودان تأخذ في الاعتبار ما هو أبعد من مجرد توفير الأمان المالي لهؤلاء الموظفين في سنوات شيخوختهم. لقد نال السودان استقلاله في 1956م، وكان ذلك في مرحلة باكرة نسبيا في عهد نهاية الاستعمار (decolonization). وهذا يعني أن حملة أولئك الموظفين البريطانيين المعاشيين كانت قد وقعت في سنوات الخمسينيات والستينيات، وكانت تلك سنوات مشحونة بالأحداث، تميزت بحدوث تغيرات مهمة في بريطانيا، وتكاثرت فيها الآراء وتضاربت من قبل معارضي ومؤيدي السياسات البريطانية الإمبريالية. لقد كانت هنالك بلا ريب أسبابا عملية (مالية وسياسية) عديدة لقيام اتحاد للبريطانيين العاملين السابقين بحكومة السودان. غير أني أحسب أن هنالك أيضا أسبابا عاطفية ونفسية (سيكولوجية) أخرى يجب أن توضع في الحسبان. ولعل تلك الأسباب تندرج تحت ما يمكن تسميته عملية "تشكيل الهوية الاجتماعية". لم يتخلف أحد من البريطانيين العاملين السابقين بحكومة السودان عن الاشتراك في ذلك الاتحاد، إذ كان إنشائه يوفر بالفعل استمرارية سياقية contextual continuity بين المستعمرة والبلد المستعمر، ويؤمن وجود مساحة تمكن أولئك الموظفين المتقاعدين من خلالها التعبير عن سمعتهم وهيبتهم (بريستيجهم) وهواياتهم الذاتية. وكان اتحادهم ذاك يقع في منطقة وسطى بين كونه اتحادا "عاما" و"خاصا" أيضا، ولكنهم كانوا يحرصون على التأكيد بأنه ليس "نقابة" بالمعني المعروف للكلمة. كان السودان يمثل دولة فريدة في "الامبراطورية البريطانية"، إذ لم يكن مستعمرة رسمية، حتى أن تسمية من يحكمه بـ "الحكم الثنائي الإنجليزي – المصري" كانت تدل على ازدواجية الهوية الاستعمارية، والناتجة عن الظروف السياسية والعسكرية الغريبة (بل الشاذة) التي أحاطت بإقامته منذ البداية في 1898م. وكانت حكومة السودان (المستقلة اسميا) تحت إشراف البريطانيين والمصريين ظاهريا، وتتعامل مع بريطانيا عبر وزارة الخارجية وليس وزارة المستعمرات (كما هو الحال مع الدول المستعمرة الأخرى). وكان استقلال حكومة السودان، والتي تصادف أن كان كل كبار زعمائها من البريطانيين، هو رمز وعلامة هوية (identity marker) إدارتها. وكان الموظفون البريطانيون يؤثرون العمل بخدمة حكومة السودان على العمل في المستعمرات الأخرى على اعتبار أن السودان يمثل صورة أكثر عصرية لنموذج الدولة المستعمرة. ولهذا السبب، ومع استعداد البريطانيين للرحيل عن السودان، فقد كان الفشل المحتمل في انجاز تسليم مشرف للسلطة سيعد فشلا بريطانيا – سودانيا أكثر منه فشلا بريطانيا خالصا. ولم يكن لتقاعد الموظفين البريطانيين العاملين بالسودان عند استقلاله من بد. وفي سنوات الحكم الثنائي الأخيرة وما بعدها كان توصيف ذلك التقاعد ما يزال مكونا مهما في صورة الذات (self-image) لمجتمع الموظفين المتقاعدين. وعندما تبين للجميع أن استقلال السودان بات وشيكا برزت ثلاث مخاوف عند الموظفين البريطانيين المقبلين على التقاعد وهي: أ. كان كل من تقاعد من العمل من هؤلاء الموظفين قبل عام 1950م يحصل على علاوة لترفع معاشه الثابت ليصبح مساويا (تقريبا) لمعاشات من تقاعد بعد عام 1950م، وهي معاشات كانت تقدر بحسب التغيرات التي حدثت في قيمة الجنيه الإسترليني عند تاريخ التقاعد. غير أنه، وعلى الرغم من أن قيمة الجنيه لإسترليني ظلت تتناقص منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومع ارتفاع متوال في معدل التضخم، إلا أن ذلك لم يصاحبه زيادات أو علاوات تتناسب مع تلك المتغيرات. ب. كانت معاشات الموظفين البريطانيين مرتبطة بالجنيه المصري (والذي ظل هو عملة الحكم الثنائي)، وكان الافتراض عند أولئك الموظفين هو أن العملة المصرية ستغدو أقل ثباتا بعد نيل السودان لاستقلاله. ج. ومن الملاحظ أن تلك المعاشات لم تكن تصرف من صندوق مخصص لذلك الغرض، بل من الميزانية العامة، والتي تعرض أمام البرلمان سنويا قبل إجازتها. ولم يكن هنالك أي قلق من تلك الناحية حين كان البريطانيون يديرون شؤون الحكومة السودانية إذ أن قضية تلك المعاشات كانت تمثل عندهم أولوية قصوى. غير أن الخوف كل الخوف هو عندما يتسنم السودانيون دفة قيادة الحكومة بعد الاستقلال، إذ قد لا يمثل أمر تلك المعاشات أولوية عندهم. لذا طالب اتحاد معاشيي موظفي حكومة السودان البريطانيين بضمان تولي الحكومة البريطانية أمر تلك المعاشات إن فشلت الحكومة السودانية المستقلة في الإيفاء بالتزاماتها تجاه تلك المعاشات في المستقبل. وكانت الحكومة البريطانية بالفعل قد قدمت ضمانات غير رسمية في ذلك الاتجاه، غير أنها امتنعت عن تقديم ضمانات رسمية معلنة بدفع تلك المعاشات خوفا من أن تتقاعس الحكومة السودانية وتنكص عن التزامها في هذا الشأن. وكررت الحكومة البريطانية موقفها القديم والقاضي بأن أولئك الموظفين قد تقاعدوا عن العمل بحكومة السودان (وليس الحكومة البريطانية)، وأن عبء دفع مستحقاتهم المعيشية يقع على كاهل الدولة التي خدموا فيها. وظل اتحاد معاشيي موظفي حكومة السودان البريطانيين يصارع، ولعقدين من الزمان، الحكومة البريطانية من أجل تولي أمر تلك المعاشات عوضا عن الحكومة السودانية، وأن تنشئ الحكومة البريطانية اعتمادات كافية لسد الفجوة في معاشات الموظفين الذين تقاعدوا قبل عام 1950م، خاصة مع التصاعد الجنوني لتكاليف المعيشة. وبدأت تلك الحملة المطلبية في عام 1952م (قبل ثلاثة أعوام من تاريخ استقلال السودان). وفي عام 1962م وافقت الحكومة البريطانية أخيرا على تولي دفع الزيادات المناسبة في معاشات المتقاعدين من موظفي حكومة السودان البريطانيين. وبعد مرور نحو عقد من الزمان على تلك الموافقة (وتحديدا في 1971م) وافقت الحكومة البريطانية على تحمل مسئولية دفع معاشات أولئك المتقاعدين من موظفي حكومة السودان البريطانيين، وكذلك معاشات غيرهم من كل الموظفين البريطانيين الذين كانوا يعملون في المستعمرات السابقة الأخرى. وبقبول المتقاعدين من موظفي حكومة السودان البريطانيين لتلقي معاشاتهم من الحكومة البريطانية فقد أولئك الرجال بعض عناصر هويتهم المؤسسية (corporate identity) والتي ظلت تقليديا تتأرجح بين المواقف المتزامنة للخادم والسيد. فقد كان هؤلاء الرجال يعدون أنفسهم دوما "سادة" للحكومة، ولكنهم "خدم" للسودانيين، وليسوا خداما لوزارة المستعمرات وسادة على السودانيين. ويدرك كل من شاهد المسلسل التلفزيوني البريطاني الساخر "نعم أيها الوزير Yes, Minister" مدى التعطيل والمراوغة والتأخير المؤسسي (المتعمد) الذي اشتهرت به أعمال الحكومة البريطانية (يمكن مشاهدة المسلسل في هذا الموقع https://www.youtube.com/watch?v=r_r5SFMfdmQ المترجم). فلا عجب إذن أن استمرت مطالبات معاشيي الحكومة السودانية البريطانيين لنحو عشرين عاما بسبب حيل ومراوغات غاية في المهارة والاتقان. وفي المقابل كان هؤلاء المعاشيون (أو على الأقل ممثليهم) يخاطبون في البدء الحكومة البريطانية كحكام سابقين لمستعمرة بريطانية يتفاوضون مع ممثلي حكومة دولة أخرى. ولعل تلك الاستراتيجية كانت واحدة من أهم الأسباب التي أعاقت تقديم قضيتهم كمواطنين بريطانيين يبحثون عن حقوقهم. غير أنهم، ومع مرور السنوات، غيروا من استراتيجيتهم ولهجتهم تلك، وصاروا يركزون على أنهم ظلوا وطوال السنوات "خداما مخلصين للإمبراطورية البريطانية". وكانت وزارة الخارجية البريطانية قد أخبرت السير جيمس روبنسون، السكرتير الإداري لحكومة السودان في عام 1948م بأن السياسة البريطانية قد تغيرت، وأن السودان سيمنح استقلاله عاجلا وليس آجلا. وكانت قد بدأت في تلك السنوات مناقشات ومفاوضات بين وزارة الخارجية البريطانية والخرطوم حول "السودنة المتدرجة" للحكومة، غير أنه كانت هنالك فروقات كبيرة بين ما كانت تراه الحكومة البريطانية جدولا زمنيا مناسبا لإنجاز السودنة وبين توقعات السكرتير الإداري لحكومة السودان. ففي عام 1945م كان مجلس الحاكم العام يرى أنه " قد يكون من الممكن في خلال العشرين عاما القادمة (أي بنهاية 1965م) تخفيض عدد الموظفين الإداريين (السياسيين) في الأقاليم من 73 موظفا إلى 30، علما بأن ذلك لا يشمل مديريتي الجنوب (والتي يعمل بهما 46 موظفا بريطانيا)، ولا يمكن التكهن بعدد السنوات اللازمة لقيام وتطوير المؤسسات المحلية بذلك الجزء الجنوبي من البلاد". ورد بي. سي. اسكيفيقنر المسئول عن القسم المصري بوزارة الخارجية البريطانية في 18/3/ 1946م بأن توقعات السكرتير الإداري بحكومة السودان معقولة إذا نظر إليها من زاوية النظرية البريطانية الصحيحة للإدارة. غير أنه توجد هنا اعتبارات عملية توجب الاختيار بين التعجيل بإشراك السودانيين الذين تلقوا تعليما بريطانيا في عملية إدارة شئون البلاد مع القبول بخسران بعض "الكمال الفني artistic perfection"، أو تدفق أعداد كبيرة من المصريين الذي تلقوا تعليما مصريا في مجال الإدارة بالسودان، ولا ريب أن الاختيار الثاني سيضيع كل براعة فنية artistry". وعلى كل الأحوال فقد ظلت النصيحة الثابتة عند البريطانيين هي تحاشي توسع النفوذ المصري في السودان بكل الوسائل الممكنة. وفي عام 1948م بدأ برنامج متسارع للسودنة هدفه "خلق جو حر ومحايد" للوصول بالسودان إلى حق تقرير المصير. فلا يكفي أن ينقل البريطانيون السلطة للسودانيين، بل تقرر أيضا أن يزاح البريطانيون من مواقع اتخاذ القرار قبل إجازة أي دستور للبلاد. ولعل بعض البريطانيين كان يرغبون بالبقاء في السودان للعب أدوار استشارية، غير أن ذلك كان نادر الحدوث. وتقلص تقدير الحكومة الأول لعملية السودنة من عشرين عاما إلى النصف من ذلك، وفي نهاية المطاف اكتملت العملية في نحو ثمانية أعوام. وليس هنالك من سبب واحد محدد يمكن أن نعزي إليه ذلك التغير في السياسة البريطانية. غير أنه من الجائز القول بأن لذلك التعجل أسبابا تتعلق بمجريات الأحداث في السياسة الدولية، ونيل الهند لاستقلالها، والسياسة الرسمية التي تبنتها منظمة الأمم المتحدة (الحديثة الإنشاء آنذاك) تجاه حق تقرير المصير للدول المستعمرة وإنهاء الاستعمار، والعلاقات المتوترة بين بريطانيا ومصر عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية. وأخطرت الحكومة السودانية بعد تلك الحرب كل من يريد الالتحاق بخدمتها المدنية من الجنسين بأنه (بأنها) سوف يقضي (تقضي) السنوات القليلة القادمة في التحضير لإنهاء أعمال البريطانيين في البلاد. وتوقفت حكومة الحكم الثنائي بعد عام 1952م عن التعاقد مع الموظفين البريطانيين في وظائف معاشية، وصار كل تعيين في الحكومة بعد ذلك يتم بعقود سنوية لا تتضمن معاشا بعد نهاية الخدمة. وعمل في الخدمة المدنية في سنوات الحكم الثنائي عدد قليل من الموظفين من غير البريطانيين أو السودانيين، وكان بعض هؤلاء من الجنسية المصرية من الذين أتوا للسودان بعد توقيع اتفاقية 1936م بين مصر والسودان (والتي أبطلت القانون الذي كان يحظر عمل المصريين بالسودان بعد حوادث عام 1924م). وكانت الحكومة البريطانية ترى أن "السودنة" هي أهم طريقة لمنع تدفق المزيد من الموظفين المصريين على السودان. وسواء أن كانوا مصيبين أو مخطئين، فقد كان الموظفون البريطانيون بالسودان يرون دوما في دخول / تدخل مصر في السودان عملا غير صالح، ويجب مقاومته مهما كانت التكلفة. وكون البريطانيون من كبار موظفي الخدمة المدنية في عام 1950 اتحادا سموه "اتحاد كبار موظفي الخدمة المدنية في السودان The senior Civil Servants’ Association of the Sudan " ليمثل ويدافع عن حقوق تلك الفئة من الموظفين. ولعل ذلك الاتحاد كان هو أول تنظيم فئوي للموظفين بالبلاد، وضم جميع كبار الموظفين من بريطانيين وغيرهم. غير أن ذلك الاتحاد لم يستطع لأسباب بدهية الدفاع عن حقوق من كانوا قد تقاعدوا عن العمل قبل عام 1950م. وكان لذلك الاتحاد بعض التوجهات التقدمية. فقد طالب مثلا بالأجر المتساوي للذكور والإناث عن العمل المتساوي، وحينها كانت تلك من القضايا التي كان أعضاء مجلس العموم البريطاني حولها يختصمون. وكان دور المرأة (البريطانية) في كل ما سبق ذكره هامشيا. ولا غرو، بالنظر إلى قلة العنصر النسائي العامل في الخدمة المدنية (والسياسية) بالسودان في تلك السنوات. ورفض عتاة "المحافظين" في الإدارة البريطانية (مثل سير هارولد ماكمايكل)، ربما بدعوى مراعاة التسلسل الهرمي بين الجنسين gender hierarchy ، اقتراحا قدمه أحد البريطانيين "الأكثر عصرية/ حداثة" لمنح المرأة مقعدا في "اتحاد كبار موظفي الخدمة المدنية في السودان" أو في غيره من التنظيمات. وجدير بالذكر أن دكتورة إنا بيزلي مفتشة التعليم (والتي ترجمنا عرضا لكتابها: "الناس والأماكن والتعليم في السودان" . المترجم) كانت قد قدمت اقتراحا ذكيا بأن تدفع كل مشتركة في تنظيمات البريطانيين بالسودان أربعة أخماس ما يدفعه الرجل (إذ أن تلك كانت هي النسبة القانونية لمرتب المرأة في بريطانيا مقارنة براتب الرجل في ذات الوظيفة). بل أضافت ساخرة في خطاب لها للقائمين على الرابطة البريطانية المذكورة أنها تعتذر عن حضور اجتماعاتهم لتقديم اقتراحها بنفسها نسبة لأن "وظيفتها الحالية تتطلب أربعة أخماس وقتها"!