اتفاقيات السلام السودانية (1972-2020)
أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك
9 January, 2025
9 January, 2025
اتفاقيات السلام السودانية (1972-2020):
دراسة تحليلية ووثائقية لاتفاق جوبا لسلام السودان
المؤلف أحمد إبراهيم أبوشوك
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
تاريخ النشر: يناير 2025
حجم الكتاب: 508 صفحة
مراكز التوزيع: مكتبة المركز العربي (الدوحة وبيروت) ووكلاء التوزيع في القاهرة والخرطوم.
*****
يَسرنِي أن أَقدَم لِلْقارئ اَلكرِيم فِي هَذِه المساحة مُقَدمَة كِتَاب "اِتِّفاقيَّات السَّلَام السُّودانيَّة (1972-2020): دِراسة تحْليليَّة ووثائقيَّة لِاتِّفَاق جُوبَا لِسلام السُّودان" بَعْد أن نَزعَت مِنهَا الهوامش والْحواشي التَّوْضيحيَّة، بِهَدف أن تَكُون مَيسُورة القراءة، وتعْطِي فِكْرَة عَامَّة عن مُحْتويات الكتاب، وتموضعه بين الدراسات السابقة، وتبين الْمنْهج اَلذِي اعتمد اَلمُؤلف عليه فِي إِنْجازه.
*****
مقدمة
بعد أن نال السُّودان استقلاله الرسمي في كانون الثاني/ يناير 1956، واجه العديد من المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، المتجذّرة في تحديد شكل نظام الحكم، وتحقيق التنمية المتوازنة، وإدارة التنوّع الثقافي والاجتماعي في إطار وحدة وطنية مستدامة. وتجسّدت مظاهر هذه المشكلات في بروز حركات مطلبية في المديريات الطرفية، تنادي بعدالة حقّها المشروع في السلطة عبر نظام حكم فدرالي، وتطالب بنصيبها في الثروة والتنمية، قياسًا بالمديرية النيلية في شمال السُّودان ووسطه، لكن استجابة الحكومات المركزية المتعاقبة لم تُلبِّ طموحات المطالبين وتوقعاتهم. فتدريجيًا، تحوّلت تلك الحركات المطلبية السلميَّة إلى حركات مسلحة، عزّزت خطابها المطلبي بقوة السلاح؛ ما دفع السلطة الحاكمة في الخرطوم إلى عقد اتفاقيات سلام ثنائية معها، لكن بعضها لم يعالج جذور المشكلات المسببة للصراع، وبعضها الآخر نقضته السلطة الحاكمة في المركز، فكان مصيرها كلها الفشل، أو العجز عن تحقيق سلام مستدام.
ونتيجة لذلك، أكدت بعض الحركات المُسلَّحة في اتفاقياتها اللاحقة مع الحكومة على ضرورة إدراج حقها في تقرير المصير؛ لضمان خروجٍ آمنٍ في حالة نكوص الحكومة عن المواثيق والعهود بينهما، وتجسَّد هذا المطلب في اتفاقية الخرطوم للسلام لسنة 1997، وبصورة جلية في اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) بين حكومة جمهورية السُّودان والحركة الشعبية لتحرير السُّودان في عام 2005، التي لم تُفلح في تحقيق الوحدة؛ إذ أفضت إلى انفصال الجنوب وتأسيس دولة جنوب السُّودان في عام 2011. لكن انفصال الجنوب لم يُسهم في إحداث استقرار سياسي أو اقتصادي في شمال السُّودان، بل بقيت جذوة الصراع المسلح مشتعلةً في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وشرق السُّودان ضد حكومة الإنقاذ (1989-2019)، وتخللت تلك الصراعات المُسلَّحة سلسلة من اتفاقيات السلام الجزئية، التي لم تحقق نجاحًا مستدامًا إلى أن انعدلت ثورة كانون الأول/ ديسمبر 2018، رافعةً شعار الحرية والسلام والعدالة.
وبعد سقوط حكومة الإنقاذ، وقّع المكوّنان العسكري (المجلس العسكري) والمدني (قوى إعلان الحرية والتغيير) الوثيقةَ الدستورية في 17 آب/ أغسطس 2019؛ لتنظيم شؤون الفترة الانتقالية التي حُدد قيدها الزمني بتسعة وثلاثين شهرًا. وأولت الوثيقة الدستورية اهتمامًا خاصًا بقضية "تحقيق السلام العادل والشامل، وإنهاء الحرب، بمخاطبة جذور المشكلة السُّودانية، ومعالجة آثارها مع الأخذ في الاعتبار التدابير التفضيلية المؤقتة للمناطق المتأثرة بالحرب، والمناطق الأقل نموًا، والمجموعات الأكثر تضررًا". وبموجب ذلك، بدأت إجراءات مفاوضات السلام في مدينة جُوْبَا، عاصمة دولة جنوب السُّودان، مع الحركات المُسلَّحة كلها، باستثناء حركة تحرير السُّودان (جناح عبد الواحد محمد نور)، وبعض الكيانات السياسية، وتمخّضت هذه المفاوضات عن "اتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان" الذي اعتمدته حكومة السُّودان وأطراف العملية السلمية في 3 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، وضمَّنته في الوثيقة الدستورية المعدلة في عام 2020.
يهدف هذا الكتاب إلى تقديم مقاربة تحليلية ووثائقية لاتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان، ويناقش الأسباب التي أدّت إلى نشأة الحركات المطلبية في الأقاليم الطرفية، ولماذا تحولت تلك الحركات السلمية إلى حركات مسلحةً، مطالبة بحقها السياسي في السلطة والثروة والتنمية؟ وما طبيعة اتفاقيات السلام التي أُنجزت مع الحكومة السُّودانية؟ وما السمات المميزة لتلك الاتفاقيات، وما القواسم المشتركة التي تجمع بينها وبين اتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان؟ وفي أي مناخ سياسي أُجريت مفاوضات اتفاق جُوْبَا، وما المشكلات التي واجهتها؟ وكيف يمكن تقييم الاتفاق من حيث الشكل والمضمون؟ وما طبيعة التحديات التي تواجه تنفيذه على أرض الواقع؟ كما يحتوي الكتاب على النصوص الكاملة لاتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان والوثائق المصاحبة له.
اعتمد الكتاب على منهج مركب، استند شقه الأول إلى المنهج التاريخي في مناقشة نشأة الحركات المطلبية السلمية وتحوّلها إلى حركات مسلحة، وتحليل اتفاقيات السلام التي أُبرمت بينها وبين حكومة السُّودان. واستند شقه الثاني إلى تقنية تحليل المضمون للنظر في نصوص اتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان لفهم البناء الهيكلي للاتفاق ومقارنته باتفاقيات السلام السابقة له، وتحليل محتواه الموضوعي، في ضوء المصطلحات والمفاهيم والعبارات المفتاحية المستخدمة، مثل المواطنة والديمقراطية والفدرالية وتقاسم السلطة وتقاسم الثروة وعلمانية الدولة وديمقراطية النظام وإدارة التنوع. وكذلك إبراز القواسم المشتركة لاتفاقيات السلام السابقة وعلاقتها باتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان. واستأنس الكتاب أيضًا في عرضه وتحليله بعدد من الدراسات السابقة التي تناولت اتفاق جُوْبَا من زوايا مختلفة.
الدراسات السابقة
توجد كثير من الدراسات السابقة عن اتفاقيات السلام السودانية، التي أبرمت قبل اتفاق جوبا لسلام السودان (2020)، وننتخب منها الدراسات التي تناولت هذه الاتفاقيات بعمق، ووضعت خلاصات مفيدة عنها. ونذكر في مقدمتها، دراسة أبوبكر العبيد عن "التداعيات السياسية لاتفاقية أديس أبابا"، والتي كان أصلها أطروحة تقدم بها لنيل درجة الدكتوراه بجامعة أبسالا السويدية عام 1980. وتكمن أهمية الدراسة في أنها قد أُعدت قبل انهيار اتفاقية أديس أبابا، وخلصت إلى نتيجة مفادها أن الاتفاقية قد أمَّنت وحدة السودان بصفة مرحلية، لكنها في جوهرها تُشبه "الهدنة" أكثر من كونها اتفاقية "سلام" مستدام، ولذلك ستقود أوجه قصورها البنيوية ونصوصها المتعارضة أحيانًا مع الدستور إلى "انفصال حتمي". لكن منصور خالد يرى خلاف ذلك؛ لأنه يصف الاتفاقية بأنها قد أُسست على ركزتين لضمان استدامتها، أولاهما إنشاء نظام حكم ذاتي في جنوب السودان، وثانيتهما الاعتراف بالتباين الثقافي والديني والعرقي في السودان وجعل المواطنة أساسًا لكسب الحقوق، وتحديد الواجبات، وشغل الوظائف العامة. ولذلك ثمَّن منصور نصوص الاتفاقية وآليات تنفيذها الناجعة، لكنه عزا أسباب اخفاقها إلى ممارسة الرئيس جعفر محمد نميري (1969-1985) شبه المطلقة (أو غير الديمقراطية)، وصراعات الساسة الجنوبيين ذات الطابع السلطوي، التي القت بظلالها السالبة على تجربة الحكم الذاتي في الجنوب وأفسدتها، ثم مهدت الطريق لاندلاع الحرب الأهلية الثانية (1983-2005).
وإلى جانب اتفاقية أديس أبابا لسنة 1972 حظيت اتفاقية السلام الشامل لسنة 2005 باهتمام أكاديمي وتداول صحافي واسع. ومن أميز الدراسات الأكاديمية التي تناولت الاتفاقية بالعرض والتحليل دراسة أمين حامد زين العابدين، "اتفاقية السلام الشامل وخلفية الصراع الفكري"، التي شكلت فصولها الخمسة الأولى مداخلًا تأسيسية لمناقشة "الإثنية ونشوء الوعي القومي في السودان"؛ و"الدولة الإسلامية: أيديولوجية الجبهة الإسلامية القومية"؛ و"الدولة العلمانية: أيديولوجية الحركة الشعبية"؛ و"السودان وتجربة الدولة العلمانية"؛ و"حق تقرير المصير". ومن خلال هذه الموضوعات حلل المؤلف بعض المفاهيم المفتاحية، مثل: مفهوم الدولة الإسلامية، ومفهوم الدولة العلمانية، وحق تقرير المصير، وخلص إلى نتيجة مفادها أن استخدام المصطلحين الأولين كشعارات لتسويق الخطاب السياسيّ دون وعي بمفاهيمهما المتعددة والمتجددة دومًا قد عاق مسار المفاوضات بين الطرفين؛ لأن الحكومة نظرت إلى العلمانية من زاوية فصل الدين عن الدولة دون أدنى اعتبار لإمكانية التفاعل بينهما، كما رفضت الحركة الشعبية لتحرير السودان مقترح الدولة الإسلامية، متعللة بأنه يجعل الجنوبيين والطوائف غير المسلمة الأخرى مواطنين من الدرجة الثانية. ولتجاوز سلبيات هذه التحفظات الأيديولوجية طلبت الحركة الشعبية لتحرير السودان بحق الجنوبيين في تقرير مصيرهم بعد انتهاء الفترة الانتقالية (2005-2011). بَيْدَ أن المؤلف قد ماز بين تقرير المصير "الخارجي" وتقرير المصير "الداخلي"؛ واصفًا الأول بأن يفضي إلى الانفصال والثاني يقود إلى الحكم الذاتي. وبناءً عليه انتقد المؤلف تنازل الحكومة السودانية للجنوبيين بممارسة حقهم السياسي في تقرير مصيرهم (الخارجي)، لأن القانون الدولي قد حصر نطاق تطبيقه على الشعوب الخاضعة للاستعمار التي تناضل من أجل استقلالها، بينما منح المجموعات الإثنية التي تعاني من ظلم النخبة السياسية المسيطرة على مقاليد الحكم أن تقرير مصيرها الداخلي بإنشاء حكمٍ ذاتيٍ يستجيب لطلعاتها في مشاركة عادلة في السلطة والثروة في إطار دولة السودان الموحدة. وفي ضوء هذه المداخل المفاهيمية، قدَّم المؤلف تحليلًا نقديًا لبعض نصوص اتفاقية السلام الشامل، وعرض نموذجًا دستوريًا للوحدة القومية، بغية تعزيز فرص الوحدة الطوعية على فرص تقرير المصير الخارجي (الانفصال)، الذي أقرته اتفاقية السلام الشامل لسنة 2005.
وانتقد بونا ملوال أيضًا في كتابه عن "اتفاقية السودان الأخيرة للسلام" المشروع الحضاري (الدولة الإسلامية) الذي تبنته حكومة الإنقاذ (1989-2019) ومشروع السودان الجديد (الدولة العلمانية) الذي رفعته الحركة الشعبية لتحرير السودان شعارًا سياسيًا، واصفًا إياهما بأنهما أطروحتان متعارضتان، ولم يكن تطبيق أي منهما ممكنًا عبر نظام حكم ديمقراطي؛ ولذلك مال الطرفان إلى حسم الصراع بينهما بقوة السلاح؛ الأمر الذي جعل ترتيب السلام المستدام في مؤخرة أولوياتهما السياسية. ولذلك عزا جلوس طرفي الصراع على مائدة المفاوضات التي أفضت إلى اتفاقية السلام الشامل لسنة 2005 إلى "الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة" الأمريكية وحلفاؤها الغربيون على الأطراف المتحاربة جاعلين أمر السلام ممكنًا في السودان. كما وصف بونا الاتفاقية المتأثرة بنفوذ الخارج بأنها "غير عادلة"؛ لأنها لم تسع لإنشاء نظام حكم ديمقراطي يكون ضمانًا لاستدامتها؛ بل كرست سلطة طرفيها المتنازعين خلال الفترة الانتقالية (2005-2011)، دون أن يكون لهما شرعية مستمدة من صناديق انتخابات حرة ونزيهة. وأنها "غير شاملة"؛ لأنها كانت ذات طابع ثنائي بين الحكومة والحركة الشعبية، ولم تستوعب كل الحركات المُسلَّحة التي تمردت على المركز الذي لم يستجب لمطالبها المشروعة في قسمة السلطة والثروة، وتحقيق التنمية المتوازنة والعادلة في مناطقها المهمشة.
وخضعت اتفاقيات سلام دارفور إلى دراسة وافية في الكتاب الذي أصدره مركز الجزيرة للدراسات بعنوان "دارفور: حصاد الأزمة بعد عقد من الزمان"، لمجموعة من الباحثين، الذين ناقشوا بعمق أسباب الصراع التي قادت إلى انفجار أزمة دارفور عام 2003، وتاريخ الحركات المطلبية، وكيف تحولت إلى حركات مسلحة، والافرازات الناتجة عن الحرب الأهلية وتداعياتها على النسيج الاجتماعي والاقتصادي الدارفوري. وفي إطار هذه الموضوعات المتنوعة، استعرضت بلقيس بدري "اتفاقيات سلام دارفور: الجهود وتحديات التطبيق"، وقدمت سردية كاملة للمفاوضات والاتفاقيات التي أُجريت منذ عام 2003، ثم ركزت على عرض ومناقشة ثلاث وثائق منها، أولها اتفاقية سلام دارفور (أبوجا) لسنة 2006، وثانيها حوار دارفور هايدلبرغ لسنة 2009، وثالثها وثيقة الدوحة لسلام دارفور لسنة 2011. وخلصت المؤلفة على عدة نتائج، من أهمها: أنَّ الاتفاقيات التي تطرقت لها لم تكن شاملة؛ لأنها وُقعت مع حركات منفردة، ولم تضم كل الحركات المُسلَّحة الدارفورية المتمردة على الحكومة المركزية، كما أنها لم تتصد لصراعات دارفور ومشكلاتها الداخلية، علمًا بأنها تمثل جزء أصيلًا من عملية إحلال السلام المستدام في الإقليم المضطرب. وأن المصفوفات (الجداول الزمنية) التي وضعت لتنفيذ الاتفاقيات لم تكن واقعية، وجهة نظر المؤلفة؛ لأنها لم تراع محدودية تمثيلها الجزئي لحركات دارفور، ولم تقدر الواقع المالي لحكومة السودان، عندما رهنت أمر تنفيذها بتمويل باهظ الكلفة من الحزينة العامة التي تعاني من شح الإيرادات.
ومن أهم الدراسات التي تناولت اتفاق سلام شرق السودان لسنة 2006 بالعرض والتحليل، دراسة منزول عسل عن ست أعوام بعد التوقيع على الاتفاق، والتي تطرق فيها إلى تدهور العلاقات بين الخرطوم وأسمرا، وكيف دفع أسمرا إلى توحيد فصائل الشرق (مؤتمر البجا وتنظيم الأسود الحرة) المعارضة لحكومة الخرطوم في جبهة واحدة (جبهة الشرق) عام 2005، كما شهدت هذه الخطوة التحولات السياسية في الساحة السودانية التي أعقبت اندلاع الحرب الأهلية في دارفور عام 2003 والتوقيع على اتفاقية السلام الشامل لسنة 2005. وأبان المؤلف أيضًا التحولات الإقليمية التي أسهمت في انتقال مفاوضات جبهة الشرق من طرابلس إلى أسمرا؛ لأن العلاقات بين الخرطوم وأسمرا قد تحسنت، وأن مؤتمر البجا لم يكن راضيًا عن الدور الذي قامت به طرابلس في تسهيل المفاوضات بين تنظيم الأسود الحرة وقبيلة الرشايدة من طرف والحكومة السودانية من طرف ثانٍ، والتي أفضت إلى توقيع اتفاقية ديسمبر 2005. وبعد ذلك استعرض منزول بنود اتفاق سلام شرق السودان لسنة 2006، وناقش التحديات التي تواجه تطبيقه من ناحية عدم الإيفاء بالمناصب التشريعية والتنفيذية التي خصصت لجبهة الشرق على المستويين الفيدرالي والولائي، والصعوبات التي واجهت ضم ولاية القضارف إلى إقليم الشرق، فضلًا عن عجز الخزينة العامة عن دفع المستحقات المالية التي خصصت لتنفيذ الاتفاق، وكذلك الدعم الخارجي كان أقل من المتوقع.
مقارنة بالدراسات التي تناولت اتفاقيات السلام السودانية المشار إليها أعلاه، نلحظ أن اتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان لم يخضع لدراساتٍ أكاديميةٍ مكثفةٍ وعميقةٍ؛ لكنه تعرَّض إلى جملة من القراءات الصحافية والتقويمات السياسية. ومن أهم الدراسات الأكاديمية التي تناولت الاتفاق تناولًا موضوعيًا: دراسة نيلس كريستيان بورمان (Nils-Chritian Pormann) وإبراهيم البدوي، وعنوانها "تقاسم السلطة في اتفاق سلام جُوْبَا: هل يعزز السلام والانتقال الديمقراطي في السُّودان؟". أسست الدراسة مقاربتها على فرضية مُؤَدَّاهَا أنَّ الاتفاق خطوة "براغماتية" مهمة نحو تحقيق السلام والانتقال الديمقراطي؛ بيدَ أنه لم يكن اتفاقًا شاملًا ومؤسسًا على جذور المشكلة ومشاركة أصحاب المصلحة كافة في المركز والأطراف. واستند الباحثان إلى كمٍ مقدّرٍ من تجارب قسمة السلطة التي أُبرمت في نحو 48 دولةً منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية. وخلصا إلى أنَّ قسمة السلطة الشاملة يمكن أن تحقق السلام المستدام، لكن لا يعني ذلك إحداث انتقال ديمقراطي حقيقي؛ لأن إجراءات الانتقال الديمقراطي تحتاج إلى عوامل أخرى تتجاوز مطلب تقاسم السلطة.
ومن زاوية أخرى، تختلف دراسة بورمان والبدوي عن دراسة أحمد أمل محمد عن "تقاسم السلطة الشاملة وأثره على الانتقال السياسي في السُّودان"، التي تفترض أن تقاسم السلطة بعد سقوط حكومة الإنقاذ في 11 نيسان/ أبريل 2019، كان تقاسمًا شاملًا بين "مجموعة من الفاعلين غير المتجانسين في إدارة البلاد في مرحلة انتقالية ممتدة". ومن وجهة نظر المؤلف، مرَّ هذا التقاسم الشامل عبر مرحلتَين مختلفتَين؛ تتمثل أولاهما في توقيع الوثيقة الدستورية في 17 آب/ أغسطس 2019 بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى إعلان الحرية والتغيير؛ وتتجسّد ثانيتهما في توقيع اتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان بين حكومة السُّودان والجبهة الثورية (أو ممثلي المسارات). واستنادًا إلى ذلك، تفترض الدراسة أن النموذج "الشامل" يوفر فرصًا كبيرةً لإنجاح الانتقال السياسي المعقد، ويُسهم في بناء توافقٍ عامٍ بشأن إجراءات المرحلة الانتقالية، والحدّ من عودة حكومة الإنقاذ. إلّا أن هذه الافتراض محل نظر؛ لأن تقاسم السلطة على المستوى القومي (الوثيقة الدستورية)، وعلى مستوى العملية السلمية (اتفاق جُوْبَا)، لم يكن شاملًا؛ والدليل على ذلك أن المرحلتين المشار إليهما متناقضتان؛ لأن شراكة أطراف سلام جُوْبَا كانت بمنزلة ترياقٍ مضادٍ، استند إليه المكوّن العسكري في حسم صراعه مع قوى إعلان الحرية والتغيير، وقد ظهر ذلك جليًّا في الأحداث التي سبقت انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، والتي أعقبته. وعلى مستوى اتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان، لم يكن الاتفاق شاملًا كل أصحاب المصلحة، والشاهد على ذلك أنه قد رُفض من الحركة الشعبية لتحرير السُّودان (جناح عبد العزيز الحلو) وحركة تحرير السُّودان (جناح عبد الواحد محمد نور)، وعارضته نظارات البجا والعموديات المستقلة في شرق السُّودان. ويبدو أن أحمد أمل محمد قد استدرك في خاتمة دراسته عدم صواب الفرضية التي استند إليها، وسجّل خلاصة مهمة، مفادها أنَّ عجز النموذج الذي يراه شاملًا عن استيعاب الأطراف المؤثرة في المشهد السُّوداني، ربما "يسفر عن انتكاس المسار الانتقالي كليًا، وانفتاح السُّودان على التفاعلات الصراعية العنيفة من جديد، في تكرار لما شهدته البلاد حتى سقوط [عمر] البشير" (1989-2019). وفضلًا عن ذلك، أشار المؤلف إلى أنَّ فشل نموذج الانتقال السياسي سيؤدي إلى "مزيد من تفكك الدولة السُّودانية، خاصة في ظل ما آلت إليه تجربة اتفاق السلام الشامل" في عام 2005، وكيف أفضت إلى انفصال (أو استقلال) جنوب السُّودان في عام 2011.
كما ثمّة دراسة بعنوان "اتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان: تحدِّيات الواقع وآفاق المستقبل"، قدّمها بهاء الدين مكاوي محمد قيلي في مؤتمر "الموجة الثانية من الانتفاضات العربية: تجربتا السُّودان والجزائر" الذي نظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بين 19 و21 تشرين الأول/ أكتوبر 2021. ناقشت الدراسة اتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان وَفْق سؤال تأسيسي عن التحديات التي تواجه الاتفاق، وأسئلة فرعية عن الأسباب الرئيسة التي أدّت إلى الحروب والنزاعات، ونقاط الاتفاق البارزة ومدى استجابتها لمطالب الحركات المُسلَّحة، ومستقبل السلام الناتج من هذا الاتفاق، والسيناريوهات المحتملة في حالة نجاحه أو فشله، وكيفية تأثيره في عملية الانتقال الديمقراطي في السُّودان. وتناولت الدراسة أهم بنود الاتفاق، ومدى استجابتها لقضايا النزاعات الجهوية، وطبيعة الحلول التي طرحها الاتفاق في سبيل تحقيق السلام المستدام والانتقال الديمقراطي السلس. وختم قيلي دراسته بنتيجة لها تقاطعات مع النتائج التي توصّلت إليها الدراستان السابقتان، حصيلتها أن اتفاق جُوْبَا يواجه جملة من التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، كما أن لديه فرصَ نجاحٍ، بحكم أنه يتمتع بثقة الأطراف المشاركة فيه، ويحظى بمساندة شعبية واسعة، ويتوقع أن تُسهم الدول الضامنة في تنفيذه على أرض الواقع. ويحثّ الباحث طرفَي الاتفاق على التعامل بالشفافية اللازمة في تنفيذ بنود الاتفاق، خاصة المالية منها، مع ضرورة مراعاة الحركات التي وقّعته الظروف الاقتصادية والسياسية الحرجة التي تمر بها البلاد، وأن تتعامل بصفتها شريكًا أصيلًا في الحكم "يتوجّب عليه النظر إلى الأمور بمنظور التجرد والمسؤولية، مع الابتعاد عن أساليب المساومة والابتزاز"، إلّا أنَّ الواقع أثبت خلاف ما يصبو إليه المؤلف؛ لأن انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021 قد هزَّ الثقة النسبية التي كانت قائمة بين أطراف العملية السلمية، وقلَّص قاعدة السند الشعبي التي اكتسبها الاتفاق لحظة توقيعه، كما قلّل من فرص الدعم الخارجية المتوقعة لتنفيذه. والشاهد على ذلك أنَّ ما نُفّذ من الاتفاق لم يتجاوز 10 في المئة، حسبما جاء في وقائع ورشة تقييم الاتفاق التي عُقدت بين الحكومة وأطراف العملية السلمية في جُوْبَا، عاصمة جنوب السُّودان، في الفترة 18-19 شباط/ فبراير 2023.
ونلحظ أنَّ تحديات الاتفاق التي تناولها قيلي بالشرح والتحليل، والنتائج السلبية التي أحدثها انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021 قد تقاطعتا في بعض النقاط مع المقالات الثمانية التي نشرها صديق الزيلعي في صحيفة سودانايل الإلكترونية في الفترة 20 تشرين الأول/ أكتوبر-12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، تحت عناوين متسلسلة من مفهوم التهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي، إلى كيفية تراكم التهميش بأنماطه المختلفة عبر أنظمة الحكم المتعاقبة، وكيف أسهم ذلك التراكم في خلق غبنٍ تنموي وغبنٍ اجتماعي "تفجّرا في شكل غضب سياسي، ودعوة قوية لتغيير الأوضاع على المستوى الإقليمي والمركزي". وبناءً على ذلك، انتقد الزيلعي فكرة حل قضايا التهميش على أساسٍ جغرافي أو إثني؛ لأن المنطلق الجغرافي أو الإثني، من وجهة نظره، لا ينتج اتفاقًا شاملًا ومرتبطًا بجذور المشكلات. وبذلك تكون معالجة قضية التهميش معالجة قاصرة؛ لأنها قدمت البُعدَين الجغرافي والإثني على البعد القومي؛ الأمر الذي سيخلق "عداوات مصطنعة، ويمزّق وحدة الشعب السُّوداني، ويجعل للقبلية والإثنية والمناطقية اليد العليا في تقرير المسائل الوطنية المهمة، ولا يقدم حلًا لأنه يشكل معادلة صفرية".
أضافت بعض النتائج المستخلصة من هذه الدراسات السابقة بُعدًا ثانيًا لهذه الدراسة الوثائقية؛ لأنها وسَّعت إطار تقنية تحليل المضمون الذي تبناه المؤلف في قراءة نصوص اتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان، كما أنها تقاطعت مع استنتاجات القراءة النصية لبنود الاتفاق في واقع سياقاتها السياسية والتاريخية المؤثرة فيها إيجابيًا وسلبيًا.
أما فيما يتعلق بأقسام الكتاب، فهو يشتمل على مقدمة وستة فصول وخاتمة، والنص المعتمد لاتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان، وملحقات الوثائق السابقة له واللاحقة. يُلقي الفصل الأول الضوء على خلفية الحركات المُسلَّحة ونشأتها وعلاقاتها بالمركز، وكيف تحوَّلت من حركات مطلبية سلمية إلى حركات مُسلَّحَة. ويناقش الفصل الثاني القواسم المشتركة بين اتفاقيات السلام (1972-2020) التي وقّعتها الحكومة السودانية مع الحركات المُسلَّحة، وأوجه الاختلاف التي مازت بعضها. ويتناول الفصل الثالث المناخ السياسي الذي ألقى بظلاله على النصوص الدستورية الموجّهة لمسار المفاوضات، ومنهج التفاوض، والآليات التي أُنشِئَت لتسهيل الحوار بين الطرفين (الحكومة الانتقالية وأطراف العملية السلمية)، والدوافع السياسية الكامنة في مخرجات العملية التفاوضية، وأثر المناخ السياسي المحيط بعلاقات أطراف العملية السلمية في اختيار وفد الحكومة الانتقالية المفاوض في جُوْبَا. ويقدّم الفصل الرابع عرضًا وصفيًا لمراحل مفاوضات جُوْبَا التي بدأت بالإعلان السياسي لإجراءات بناء الثقة والتمهيد للتفاوض في 11 أيلول/ سبتمبر 2019، وانتهت بتوقيع اتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان. كما يناقش إجراءات المفاوضات، والتحديات التي واجهت طرفَي التفاوض ووساطة دولة جنوب السُّودان، ويتناول بالشرح والتعليق الآراء والمواقف المعارضة للمفاوضات من حيث المبدأ والمنهج والقضايا المطروحة، والنتائج التي تمخّضت عنها. ويتناول الفصل الخامس اتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان من خلال بُعْدَيه الشكلي والموضوعي. ونعني بالبُعد الشكلي البناء الهيكلي لاتفاقيات المسارات الخمسة واتفاقية الترتيبات الأمنية مع الجبهة الثالثة - تمازج، من حيث التبويب وعناوين الفصول والبنود التي شملتها الاتفاقيات. ويُقصد بالبُعد الموضوعي مناقشة محتويات القضايا المركزية التي شكّلت جذور مشكلات التهميش وإفرازاتها اللاحقة، مثل معايير قسمة السلطة والثروة، وإعادة توطين المهجرين واللاجئين والترتيبات الأمنية، فضلًا عن المفوضيات واللجان والمجالس المنفذة لفصول الاتفاق وبنوده على أرض الواقع. ويناقش الفصل السادس التحديات التي تواجه تنفيذ اتفاق جُوْبَا لسلام السودان، ويعرض المعالجات التي طرحها بعض الباحثين والناشطين السياسيين لتجاوز سياج المسارات الجغرافية ومحاصصاتها السياسية؛ لتكون مخرجات العملية السلمية مقنعةً للأطراف الرافضة والمناصرة لها، ويترتب على ذلك إجماع في القضايا الكلية وآليات تنفيذها ومصفوفاتها الزمنية؛ ما يُشعر الجميع بأنهم شركاء في السلام والبناء.
ahmedabushouk62@hotmail.com
دراسة تحليلية ووثائقية لاتفاق جوبا لسلام السودان
المؤلف أحمد إبراهيم أبوشوك
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
تاريخ النشر: يناير 2025
حجم الكتاب: 508 صفحة
مراكز التوزيع: مكتبة المركز العربي (الدوحة وبيروت) ووكلاء التوزيع في القاهرة والخرطوم.
*****
يَسرنِي أن أَقدَم لِلْقارئ اَلكرِيم فِي هَذِه المساحة مُقَدمَة كِتَاب "اِتِّفاقيَّات السَّلَام السُّودانيَّة (1972-2020): دِراسة تحْليليَّة ووثائقيَّة لِاتِّفَاق جُوبَا لِسلام السُّودان" بَعْد أن نَزعَت مِنهَا الهوامش والْحواشي التَّوْضيحيَّة، بِهَدف أن تَكُون مَيسُورة القراءة، وتعْطِي فِكْرَة عَامَّة عن مُحْتويات الكتاب، وتموضعه بين الدراسات السابقة، وتبين الْمنْهج اَلذِي اعتمد اَلمُؤلف عليه فِي إِنْجازه.
*****
مقدمة
بعد أن نال السُّودان استقلاله الرسمي في كانون الثاني/ يناير 1956، واجه العديد من المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، المتجذّرة في تحديد شكل نظام الحكم، وتحقيق التنمية المتوازنة، وإدارة التنوّع الثقافي والاجتماعي في إطار وحدة وطنية مستدامة. وتجسّدت مظاهر هذه المشكلات في بروز حركات مطلبية في المديريات الطرفية، تنادي بعدالة حقّها المشروع في السلطة عبر نظام حكم فدرالي، وتطالب بنصيبها في الثروة والتنمية، قياسًا بالمديرية النيلية في شمال السُّودان ووسطه، لكن استجابة الحكومات المركزية المتعاقبة لم تُلبِّ طموحات المطالبين وتوقعاتهم. فتدريجيًا، تحوّلت تلك الحركات المطلبية السلميَّة إلى حركات مسلحة، عزّزت خطابها المطلبي بقوة السلاح؛ ما دفع السلطة الحاكمة في الخرطوم إلى عقد اتفاقيات سلام ثنائية معها، لكن بعضها لم يعالج جذور المشكلات المسببة للصراع، وبعضها الآخر نقضته السلطة الحاكمة في المركز، فكان مصيرها كلها الفشل، أو العجز عن تحقيق سلام مستدام.
ونتيجة لذلك، أكدت بعض الحركات المُسلَّحة في اتفاقياتها اللاحقة مع الحكومة على ضرورة إدراج حقها في تقرير المصير؛ لضمان خروجٍ آمنٍ في حالة نكوص الحكومة عن المواثيق والعهود بينهما، وتجسَّد هذا المطلب في اتفاقية الخرطوم للسلام لسنة 1997، وبصورة جلية في اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) بين حكومة جمهورية السُّودان والحركة الشعبية لتحرير السُّودان في عام 2005، التي لم تُفلح في تحقيق الوحدة؛ إذ أفضت إلى انفصال الجنوب وتأسيس دولة جنوب السُّودان في عام 2011. لكن انفصال الجنوب لم يُسهم في إحداث استقرار سياسي أو اقتصادي في شمال السُّودان، بل بقيت جذوة الصراع المسلح مشتعلةً في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وشرق السُّودان ضد حكومة الإنقاذ (1989-2019)، وتخللت تلك الصراعات المُسلَّحة سلسلة من اتفاقيات السلام الجزئية، التي لم تحقق نجاحًا مستدامًا إلى أن انعدلت ثورة كانون الأول/ ديسمبر 2018، رافعةً شعار الحرية والسلام والعدالة.
وبعد سقوط حكومة الإنقاذ، وقّع المكوّنان العسكري (المجلس العسكري) والمدني (قوى إعلان الحرية والتغيير) الوثيقةَ الدستورية في 17 آب/ أغسطس 2019؛ لتنظيم شؤون الفترة الانتقالية التي حُدد قيدها الزمني بتسعة وثلاثين شهرًا. وأولت الوثيقة الدستورية اهتمامًا خاصًا بقضية "تحقيق السلام العادل والشامل، وإنهاء الحرب، بمخاطبة جذور المشكلة السُّودانية، ومعالجة آثارها مع الأخذ في الاعتبار التدابير التفضيلية المؤقتة للمناطق المتأثرة بالحرب، والمناطق الأقل نموًا، والمجموعات الأكثر تضررًا". وبموجب ذلك، بدأت إجراءات مفاوضات السلام في مدينة جُوْبَا، عاصمة دولة جنوب السُّودان، مع الحركات المُسلَّحة كلها، باستثناء حركة تحرير السُّودان (جناح عبد الواحد محمد نور)، وبعض الكيانات السياسية، وتمخّضت هذه المفاوضات عن "اتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان" الذي اعتمدته حكومة السُّودان وأطراف العملية السلمية في 3 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، وضمَّنته في الوثيقة الدستورية المعدلة في عام 2020.
يهدف هذا الكتاب إلى تقديم مقاربة تحليلية ووثائقية لاتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان، ويناقش الأسباب التي أدّت إلى نشأة الحركات المطلبية في الأقاليم الطرفية، ولماذا تحولت تلك الحركات السلمية إلى حركات مسلحةً، مطالبة بحقها السياسي في السلطة والثروة والتنمية؟ وما طبيعة اتفاقيات السلام التي أُنجزت مع الحكومة السُّودانية؟ وما السمات المميزة لتلك الاتفاقيات، وما القواسم المشتركة التي تجمع بينها وبين اتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان؟ وفي أي مناخ سياسي أُجريت مفاوضات اتفاق جُوْبَا، وما المشكلات التي واجهتها؟ وكيف يمكن تقييم الاتفاق من حيث الشكل والمضمون؟ وما طبيعة التحديات التي تواجه تنفيذه على أرض الواقع؟ كما يحتوي الكتاب على النصوص الكاملة لاتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان والوثائق المصاحبة له.
اعتمد الكتاب على منهج مركب، استند شقه الأول إلى المنهج التاريخي في مناقشة نشأة الحركات المطلبية السلمية وتحوّلها إلى حركات مسلحة، وتحليل اتفاقيات السلام التي أُبرمت بينها وبين حكومة السُّودان. واستند شقه الثاني إلى تقنية تحليل المضمون للنظر في نصوص اتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان لفهم البناء الهيكلي للاتفاق ومقارنته باتفاقيات السلام السابقة له، وتحليل محتواه الموضوعي، في ضوء المصطلحات والمفاهيم والعبارات المفتاحية المستخدمة، مثل المواطنة والديمقراطية والفدرالية وتقاسم السلطة وتقاسم الثروة وعلمانية الدولة وديمقراطية النظام وإدارة التنوع. وكذلك إبراز القواسم المشتركة لاتفاقيات السلام السابقة وعلاقتها باتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان. واستأنس الكتاب أيضًا في عرضه وتحليله بعدد من الدراسات السابقة التي تناولت اتفاق جُوْبَا من زوايا مختلفة.
الدراسات السابقة
توجد كثير من الدراسات السابقة عن اتفاقيات السلام السودانية، التي أبرمت قبل اتفاق جوبا لسلام السودان (2020)، وننتخب منها الدراسات التي تناولت هذه الاتفاقيات بعمق، ووضعت خلاصات مفيدة عنها. ونذكر في مقدمتها، دراسة أبوبكر العبيد عن "التداعيات السياسية لاتفاقية أديس أبابا"، والتي كان أصلها أطروحة تقدم بها لنيل درجة الدكتوراه بجامعة أبسالا السويدية عام 1980. وتكمن أهمية الدراسة في أنها قد أُعدت قبل انهيار اتفاقية أديس أبابا، وخلصت إلى نتيجة مفادها أن الاتفاقية قد أمَّنت وحدة السودان بصفة مرحلية، لكنها في جوهرها تُشبه "الهدنة" أكثر من كونها اتفاقية "سلام" مستدام، ولذلك ستقود أوجه قصورها البنيوية ونصوصها المتعارضة أحيانًا مع الدستور إلى "انفصال حتمي". لكن منصور خالد يرى خلاف ذلك؛ لأنه يصف الاتفاقية بأنها قد أُسست على ركزتين لضمان استدامتها، أولاهما إنشاء نظام حكم ذاتي في جنوب السودان، وثانيتهما الاعتراف بالتباين الثقافي والديني والعرقي في السودان وجعل المواطنة أساسًا لكسب الحقوق، وتحديد الواجبات، وشغل الوظائف العامة. ولذلك ثمَّن منصور نصوص الاتفاقية وآليات تنفيذها الناجعة، لكنه عزا أسباب اخفاقها إلى ممارسة الرئيس جعفر محمد نميري (1969-1985) شبه المطلقة (أو غير الديمقراطية)، وصراعات الساسة الجنوبيين ذات الطابع السلطوي، التي القت بظلالها السالبة على تجربة الحكم الذاتي في الجنوب وأفسدتها، ثم مهدت الطريق لاندلاع الحرب الأهلية الثانية (1983-2005).
وإلى جانب اتفاقية أديس أبابا لسنة 1972 حظيت اتفاقية السلام الشامل لسنة 2005 باهتمام أكاديمي وتداول صحافي واسع. ومن أميز الدراسات الأكاديمية التي تناولت الاتفاقية بالعرض والتحليل دراسة أمين حامد زين العابدين، "اتفاقية السلام الشامل وخلفية الصراع الفكري"، التي شكلت فصولها الخمسة الأولى مداخلًا تأسيسية لمناقشة "الإثنية ونشوء الوعي القومي في السودان"؛ و"الدولة الإسلامية: أيديولوجية الجبهة الإسلامية القومية"؛ و"الدولة العلمانية: أيديولوجية الحركة الشعبية"؛ و"السودان وتجربة الدولة العلمانية"؛ و"حق تقرير المصير". ومن خلال هذه الموضوعات حلل المؤلف بعض المفاهيم المفتاحية، مثل: مفهوم الدولة الإسلامية، ومفهوم الدولة العلمانية، وحق تقرير المصير، وخلص إلى نتيجة مفادها أن استخدام المصطلحين الأولين كشعارات لتسويق الخطاب السياسيّ دون وعي بمفاهيمهما المتعددة والمتجددة دومًا قد عاق مسار المفاوضات بين الطرفين؛ لأن الحكومة نظرت إلى العلمانية من زاوية فصل الدين عن الدولة دون أدنى اعتبار لإمكانية التفاعل بينهما، كما رفضت الحركة الشعبية لتحرير السودان مقترح الدولة الإسلامية، متعللة بأنه يجعل الجنوبيين والطوائف غير المسلمة الأخرى مواطنين من الدرجة الثانية. ولتجاوز سلبيات هذه التحفظات الأيديولوجية طلبت الحركة الشعبية لتحرير السودان بحق الجنوبيين في تقرير مصيرهم بعد انتهاء الفترة الانتقالية (2005-2011). بَيْدَ أن المؤلف قد ماز بين تقرير المصير "الخارجي" وتقرير المصير "الداخلي"؛ واصفًا الأول بأن يفضي إلى الانفصال والثاني يقود إلى الحكم الذاتي. وبناءً عليه انتقد المؤلف تنازل الحكومة السودانية للجنوبيين بممارسة حقهم السياسي في تقرير مصيرهم (الخارجي)، لأن القانون الدولي قد حصر نطاق تطبيقه على الشعوب الخاضعة للاستعمار التي تناضل من أجل استقلالها، بينما منح المجموعات الإثنية التي تعاني من ظلم النخبة السياسية المسيطرة على مقاليد الحكم أن تقرير مصيرها الداخلي بإنشاء حكمٍ ذاتيٍ يستجيب لطلعاتها في مشاركة عادلة في السلطة والثروة في إطار دولة السودان الموحدة. وفي ضوء هذه المداخل المفاهيمية، قدَّم المؤلف تحليلًا نقديًا لبعض نصوص اتفاقية السلام الشامل، وعرض نموذجًا دستوريًا للوحدة القومية، بغية تعزيز فرص الوحدة الطوعية على فرص تقرير المصير الخارجي (الانفصال)، الذي أقرته اتفاقية السلام الشامل لسنة 2005.
وانتقد بونا ملوال أيضًا في كتابه عن "اتفاقية السودان الأخيرة للسلام" المشروع الحضاري (الدولة الإسلامية) الذي تبنته حكومة الإنقاذ (1989-2019) ومشروع السودان الجديد (الدولة العلمانية) الذي رفعته الحركة الشعبية لتحرير السودان شعارًا سياسيًا، واصفًا إياهما بأنهما أطروحتان متعارضتان، ولم يكن تطبيق أي منهما ممكنًا عبر نظام حكم ديمقراطي؛ ولذلك مال الطرفان إلى حسم الصراع بينهما بقوة السلاح؛ الأمر الذي جعل ترتيب السلام المستدام في مؤخرة أولوياتهما السياسية. ولذلك عزا جلوس طرفي الصراع على مائدة المفاوضات التي أفضت إلى اتفاقية السلام الشامل لسنة 2005 إلى "الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة" الأمريكية وحلفاؤها الغربيون على الأطراف المتحاربة جاعلين أمر السلام ممكنًا في السودان. كما وصف بونا الاتفاقية المتأثرة بنفوذ الخارج بأنها "غير عادلة"؛ لأنها لم تسع لإنشاء نظام حكم ديمقراطي يكون ضمانًا لاستدامتها؛ بل كرست سلطة طرفيها المتنازعين خلال الفترة الانتقالية (2005-2011)، دون أن يكون لهما شرعية مستمدة من صناديق انتخابات حرة ونزيهة. وأنها "غير شاملة"؛ لأنها كانت ذات طابع ثنائي بين الحكومة والحركة الشعبية، ولم تستوعب كل الحركات المُسلَّحة التي تمردت على المركز الذي لم يستجب لمطالبها المشروعة في قسمة السلطة والثروة، وتحقيق التنمية المتوازنة والعادلة في مناطقها المهمشة.
وخضعت اتفاقيات سلام دارفور إلى دراسة وافية في الكتاب الذي أصدره مركز الجزيرة للدراسات بعنوان "دارفور: حصاد الأزمة بعد عقد من الزمان"، لمجموعة من الباحثين، الذين ناقشوا بعمق أسباب الصراع التي قادت إلى انفجار أزمة دارفور عام 2003، وتاريخ الحركات المطلبية، وكيف تحولت إلى حركات مسلحة، والافرازات الناتجة عن الحرب الأهلية وتداعياتها على النسيج الاجتماعي والاقتصادي الدارفوري. وفي إطار هذه الموضوعات المتنوعة، استعرضت بلقيس بدري "اتفاقيات سلام دارفور: الجهود وتحديات التطبيق"، وقدمت سردية كاملة للمفاوضات والاتفاقيات التي أُجريت منذ عام 2003، ثم ركزت على عرض ومناقشة ثلاث وثائق منها، أولها اتفاقية سلام دارفور (أبوجا) لسنة 2006، وثانيها حوار دارفور هايدلبرغ لسنة 2009، وثالثها وثيقة الدوحة لسلام دارفور لسنة 2011. وخلصت المؤلفة على عدة نتائج، من أهمها: أنَّ الاتفاقيات التي تطرقت لها لم تكن شاملة؛ لأنها وُقعت مع حركات منفردة، ولم تضم كل الحركات المُسلَّحة الدارفورية المتمردة على الحكومة المركزية، كما أنها لم تتصد لصراعات دارفور ومشكلاتها الداخلية، علمًا بأنها تمثل جزء أصيلًا من عملية إحلال السلام المستدام في الإقليم المضطرب. وأن المصفوفات (الجداول الزمنية) التي وضعت لتنفيذ الاتفاقيات لم تكن واقعية، وجهة نظر المؤلفة؛ لأنها لم تراع محدودية تمثيلها الجزئي لحركات دارفور، ولم تقدر الواقع المالي لحكومة السودان، عندما رهنت أمر تنفيذها بتمويل باهظ الكلفة من الحزينة العامة التي تعاني من شح الإيرادات.
ومن أهم الدراسات التي تناولت اتفاق سلام شرق السودان لسنة 2006 بالعرض والتحليل، دراسة منزول عسل عن ست أعوام بعد التوقيع على الاتفاق، والتي تطرق فيها إلى تدهور العلاقات بين الخرطوم وأسمرا، وكيف دفع أسمرا إلى توحيد فصائل الشرق (مؤتمر البجا وتنظيم الأسود الحرة) المعارضة لحكومة الخرطوم في جبهة واحدة (جبهة الشرق) عام 2005، كما شهدت هذه الخطوة التحولات السياسية في الساحة السودانية التي أعقبت اندلاع الحرب الأهلية في دارفور عام 2003 والتوقيع على اتفاقية السلام الشامل لسنة 2005. وأبان المؤلف أيضًا التحولات الإقليمية التي أسهمت في انتقال مفاوضات جبهة الشرق من طرابلس إلى أسمرا؛ لأن العلاقات بين الخرطوم وأسمرا قد تحسنت، وأن مؤتمر البجا لم يكن راضيًا عن الدور الذي قامت به طرابلس في تسهيل المفاوضات بين تنظيم الأسود الحرة وقبيلة الرشايدة من طرف والحكومة السودانية من طرف ثانٍ، والتي أفضت إلى توقيع اتفاقية ديسمبر 2005. وبعد ذلك استعرض منزول بنود اتفاق سلام شرق السودان لسنة 2006، وناقش التحديات التي تواجه تطبيقه من ناحية عدم الإيفاء بالمناصب التشريعية والتنفيذية التي خصصت لجبهة الشرق على المستويين الفيدرالي والولائي، والصعوبات التي واجهت ضم ولاية القضارف إلى إقليم الشرق، فضلًا عن عجز الخزينة العامة عن دفع المستحقات المالية التي خصصت لتنفيذ الاتفاق، وكذلك الدعم الخارجي كان أقل من المتوقع.
مقارنة بالدراسات التي تناولت اتفاقيات السلام السودانية المشار إليها أعلاه، نلحظ أن اتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان لم يخضع لدراساتٍ أكاديميةٍ مكثفةٍ وعميقةٍ؛ لكنه تعرَّض إلى جملة من القراءات الصحافية والتقويمات السياسية. ومن أهم الدراسات الأكاديمية التي تناولت الاتفاق تناولًا موضوعيًا: دراسة نيلس كريستيان بورمان (Nils-Chritian Pormann) وإبراهيم البدوي، وعنوانها "تقاسم السلطة في اتفاق سلام جُوْبَا: هل يعزز السلام والانتقال الديمقراطي في السُّودان؟". أسست الدراسة مقاربتها على فرضية مُؤَدَّاهَا أنَّ الاتفاق خطوة "براغماتية" مهمة نحو تحقيق السلام والانتقال الديمقراطي؛ بيدَ أنه لم يكن اتفاقًا شاملًا ومؤسسًا على جذور المشكلة ومشاركة أصحاب المصلحة كافة في المركز والأطراف. واستند الباحثان إلى كمٍ مقدّرٍ من تجارب قسمة السلطة التي أُبرمت في نحو 48 دولةً منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية. وخلصا إلى أنَّ قسمة السلطة الشاملة يمكن أن تحقق السلام المستدام، لكن لا يعني ذلك إحداث انتقال ديمقراطي حقيقي؛ لأن إجراءات الانتقال الديمقراطي تحتاج إلى عوامل أخرى تتجاوز مطلب تقاسم السلطة.
ومن زاوية أخرى، تختلف دراسة بورمان والبدوي عن دراسة أحمد أمل محمد عن "تقاسم السلطة الشاملة وأثره على الانتقال السياسي في السُّودان"، التي تفترض أن تقاسم السلطة بعد سقوط حكومة الإنقاذ في 11 نيسان/ أبريل 2019، كان تقاسمًا شاملًا بين "مجموعة من الفاعلين غير المتجانسين في إدارة البلاد في مرحلة انتقالية ممتدة". ومن وجهة نظر المؤلف، مرَّ هذا التقاسم الشامل عبر مرحلتَين مختلفتَين؛ تتمثل أولاهما في توقيع الوثيقة الدستورية في 17 آب/ أغسطس 2019 بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى إعلان الحرية والتغيير؛ وتتجسّد ثانيتهما في توقيع اتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان بين حكومة السُّودان والجبهة الثورية (أو ممثلي المسارات). واستنادًا إلى ذلك، تفترض الدراسة أن النموذج "الشامل" يوفر فرصًا كبيرةً لإنجاح الانتقال السياسي المعقد، ويُسهم في بناء توافقٍ عامٍ بشأن إجراءات المرحلة الانتقالية، والحدّ من عودة حكومة الإنقاذ. إلّا أن هذه الافتراض محل نظر؛ لأن تقاسم السلطة على المستوى القومي (الوثيقة الدستورية)، وعلى مستوى العملية السلمية (اتفاق جُوْبَا)، لم يكن شاملًا؛ والدليل على ذلك أن المرحلتين المشار إليهما متناقضتان؛ لأن شراكة أطراف سلام جُوْبَا كانت بمنزلة ترياقٍ مضادٍ، استند إليه المكوّن العسكري في حسم صراعه مع قوى إعلان الحرية والتغيير، وقد ظهر ذلك جليًّا في الأحداث التي سبقت انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، والتي أعقبته. وعلى مستوى اتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان، لم يكن الاتفاق شاملًا كل أصحاب المصلحة، والشاهد على ذلك أنه قد رُفض من الحركة الشعبية لتحرير السُّودان (جناح عبد العزيز الحلو) وحركة تحرير السُّودان (جناح عبد الواحد محمد نور)، وعارضته نظارات البجا والعموديات المستقلة في شرق السُّودان. ويبدو أن أحمد أمل محمد قد استدرك في خاتمة دراسته عدم صواب الفرضية التي استند إليها، وسجّل خلاصة مهمة، مفادها أنَّ عجز النموذج الذي يراه شاملًا عن استيعاب الأطراف المؤثرة في المشهد السُّوداني، ربما "يسفر عن انتكاس المسار الانتقالي كليًا، وانفتاح السُّودان على التفاعلات الصراعية العنيفة من جديد، في تكرار لما شهدته البلاد حتى سقوط [عمر] البشير" (1989-2019). وفضلًا عن ذلك، أشار المؤلف إلى أنَّ فشل نموذج الانتقال السياسي سيؤدي إلى "مزيد من تفكك الدولة السُّودانية، خاصة في ظل ما آلت إليه تجربة اتفاق السلام الشامل" في عام 2005، وكيف أفضت إلى انفصال (أو استقلال) جنوب السُّودان في عام 2011.
كما ثمّة دراسة بعنوان "اتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان: تحدِّيات الواقع وآفاق المستقبل"، قدّمها بهاء الدين مكاوي محمد قيلي في مؤتمر "الموجة الثانية من الانتفاضات العربية: تجربتا السُّودان والجزائر" الذي نظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بين 19 و21 تشرين الأول/ أكتوبر 2021. ناقشت الدراسة اتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان وَفْق سؤال تأسيسي عن التحديات التي تواجه الاتفاق، وأسئلة فرعية عن الأسباب الرئيسة التي أدّت إلى الحروب والنزاعات، ونقاط الاتفاق البارزة ومدى استجابتها لمطالب الحركات المُسلَّحة، ومستقبل السلام الناتج من هذا الاتفاق، والسيناريوهات المحتملة في حالة نجاحه أو فشله، وكيفية تأثيره في عملية الانتقال الديمقراطي في السُّودان. وتناولت الدراسة أهم بنود الاتفاق، ومدى استجابتها لقضايا النزاعات الجهوية، وطبيعة الحلول التي طرحها الاتفاق في سبيل تحقيق السلام المستدام والانتقال الديمقراطي السلس. وختم قيلي دراسته بنتيجة لها تقاطعات مع النتائج التي توصّلت إليها الدراستان السابقتان، حصيلتها أن اتفاق جُوْبَا يواجه جملة من التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، كما أن لديه فرصَ نجاحٍ، بحكم أنه يتمتع بثقة الأطراف المشاركة فيه، ويحظى بمساندة شعبية واسعة، ويتوقع أن تُسهم الدول الضامنة في تنفيذه على أرض الواقع. ويحثّ الباحث طرفَي الاتفاق على التعامل بالشفافية اللازمة في تنفيذ بنود الاتفاق، خاصة المالية منها، مع ضرورة مراعاة الحركات التي وقّعته الظروف الاقتصادية والسياسية الحرجة التي تمر بها البلاد، وأن تتعامل بصفتها شريكًا أصيلًا في الحكم "يتوجّب عليه النظر إلى الأمور بمنظور التجرد والمسؤولية، مع الابتعاد عن أساليب المساومة والابتزاز"، إلّا أنَّ الواقع أثبت خلاف ما يصبو إليه المؤلف؛ لأن انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021 قد هزَّ الثقة النسبية التي كانت قائمة بين أطراف العملية السلمية، وقلَّص قاعدة السند الشعبي التي اكتسبها الاتفاق لحظة توقيعه، كما قلّل من فرص الدعم الخارجية المتوقعة لتنفيذه. والشاهد على ذلك أنَّ ما نُفّذ من الاتفاق لم يتجاوز 10 في المئة، حسبما جاء في وقائع ورشة تقييم الاتفاق التي عُقدت بين الحكومة وأطراف العملية السلمية في جُوْبَا، عاصمة جنوب السُّودان، في الفترة 18-19 شباط/ فبراير 2023.
ونلحظ أنَّ تحديات الاتفاق التي تناولها قيلي بالشرح والتحليل، والنتائج السلبية التي أحدثها انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021 قد تقاطعتا في بعض النقاط مع المقالات الثمانية التي نشرها صديق الزيلعي في صحيفة سودانايل الإلكترونية في الفترة 20 تشرين الأول/ أكتوبر-12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، تحت عناوين متسلسلة من مفهوم التهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي، إلى كيفية تراكم التهميش بأنماطه المختلفة عبر أنظمة الحكم المتعاقبة، وكيف أسهم ذلك التراكم في خلق غبنٍ تنموي وغبنٍ اجتماعي "تفجّرا في شكل غضب سياسي، ودعوة قوية لتغيير الأوضاع على المستوى الإقليمي والمركزي". وبناءً على ذلك، انتقد الزيلعي فكرة حل قضايا التهميش على أساسٍ جغرافي أو إثني؛ لأن المنطلق الجغرافي أو الإثني، من وجهة نظره، لا ينتج اتفاقًا شاملًا ومرتبطًا بجذور المشكلات. وبذلك تكون معالجة قضية التهميش معالجة قاصرة؛ لأنها قدمت البُعدَين الجغرافي والإثني على البعد القومي؛ الأمر الذي سيخلق "عداوات مصطنعة، ويمزّق وحدة الشعب السُّوداني، ويجعل للقبلية والإثنية والمناطقية اليد العليا في تقرير المسائل الوطنية المهمة، ولا يقدم حلًا لأنه يشكل معادلة صفرية".
أضافت بعض النتائج المستخلصة من هذه الدراسات السابقة بُعدًا ثانيًا لهذه الدراسة الوثائقية؛ لأنها وسَّعت إطار تقنية تحليل المضمون الذي تبناه المؤلف في قراءة نصوص اتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان، كما أنها تقاطعت مع استنتاجات القراءة النصية لبنود الاتفاق في واقع سياقاتها السياسية والتاريخية المؤثرة فيها إيجابيًا وسلبيًا.
أما فيما يتعلق بأقسام الكتاب، فهو يشتمل على مقدمة وستة فصول وخاتمة، والنص المعتمد لاتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان، وملحقات الوثائق السابقة له واللاحقة. يُلقي الفصل الأول الضوء على خلفية الحركات المُسلَّحة ونشأتها وعلاقاتها بالمركز، وكيف تحوَّلت من حركات مطلبية سلمية إلى حركات مُسلَّحَة. ويناقش الفصل الثاني القواسم المشتركة بين اتفاقيات السلام (1972-2020) التي وقّعتها الحكومة السودانية مع الحركات المُسلَّحة، وأوجه الاختلاف التي مازت بعضها. ويتناول الفصل الثالث المناخ السياسي الذي ألقى بظلاله على النصوص الدستورية الموجّهة لمسار المفاوضات، ومنهج التفاوض، والآليات التي أُنشِئَت لتسهيل الحوار بين الطرفين (الحكومة الانتقالية وأطراف العملية السلمية)، والدوافع السياسية الكامنة في مخرجات العملية التفاوضية، وأثر المناخ السياسي المحيط بعلاقات أطراف العملية السلمية في اختيار وفد الحكومة الانتقالية المفاوض في جُوْبَا. ويقدّم الفصل الرابع عرضًا وصفيًا لمراحل مفاوضات جُوْبَا التي بدأت بالإعلان السياسي لإجراءات بناء الثقة والتمهيد للتفاوض في 11 أيلول/ سبتمبر 2019، وانتهت بتوقيع اتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان. كما يناقش إجراءات المفاوضات، والتحديات التي واجهت طرفَي التفاوض ووساطة دولة جنوب السُّودان، ويتناول بالشرح والتعليق الآراء والمواقف المعارضة للمفاوضات من حيث المبدأ والمنهج والقضايا المطروحة، والنتائج التي تمخّضت عنها. ويتناول الفصل الخامس اتفاق جُوْبَا لسلام السُّودان من خلال بُعْدَيه الشكلي والموضوعي. ونعني بالبُعد الشكلي البناء الهيكلي لاتفاقيات المسارات الخمسة واتفاقية الترتيبات الأمنية مع الجبهة الثالثة - تمازج، من حيث التبويب وعناوين الفصول والبنود التي شملتها الاتفاقيات. ويُقصد بالبُعد الموضوعي مناقشة محتويات القضايا المركزية التي شكّلت جذور مشكلات التهميش وإفرازاتها اللاحقة، مثل معايير قسمة السلطة والثروة، وإعادة توطين المهجرين واللاجئين والترتيبات الأمنية، فضلًا عن المفوضيات واللجان والمجالس المنفذة لفصول الاتفاق وبنوده على أرض الواقع. ويناقش الفصل السادس التحديات التي تواجه تنفيذ اتفاق جُوْبَا لسلام السودان، ويعرض المعالجات التي طرحها بعض الباحثين والناشطين السياسيين لتجاوز سياج المسارات الجغرافية ومحاصصاتها السياسية؛ لتكون مخرجات العملية السلمية مقنعةً للأطراف الرافضة والمناصرة لها، ويترتب على ذلك إجماع في القضايا الكلية وآليات تنفيذها ومصفوفاتها الزمنية؛ ما يُشعر الجميع بأنهم شركاء في السلام والبناء.
ahmedabushouk62@hotmail.com