اتفاقية سلام دارفور الإطارية: بين التوصيف والتوظيف … بقلم: إبراهيم علي إبراهيم المحامي-واشنطن

 


 

 

 

 

اتفاقية سلام دارفور الإطارية

بين التوصيف والتوظيف

الدعوة لوثيقة واحدة

 

 (ibrali7@hotmail.com)

فتحت اتفاقية سلام دارفور التي وقعتها الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة- كبرى حركات التمرد في دارفور- بالدوحة يوم الثلاثاء الموافق 23 فبراير 2010 آفاقاً وفرجة كبيرة من الأمل يمكن النفاذ منها للوصول إلى اتفاق شامل للسلام في دارفور توقع عليه جميع الأطراف، وذلك بوساطة مشتركة بين الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي ومساعدة ورعاية دولتي قطر وتشاد.     

 

بمجرد توقيعها، قوبلت الاتفاقية بترحيب كبير من القيادات السياسية السودانية وسط فرحة عامة اعتبرتها مبشرة بالنجاح. كما حظيت بتأييد واسع من قبل المجتمع الدولي وعلى رأسه مجلس الأمن الدولي الذي طالب بالتنفيذ الفوري للاتفاق، وباركته كل من  الولايات المتحدة، وكندا، وفرنسا، وجميع الدول العربية والإفريقية. وبعد توقيع الاتفاقية تصاعد العنف والقتال في منطقة جبل مرة، بعد أن شهدت دارفور تراجعاً في العمليات العسكرية بشكل كبير.

 

تعرضت الاتفاقية بمجرد توقيعها للانتقاد الحاد من قبل حركات التمرد الأخرى، خاصة حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور الذي وصفها بأنها تتعلق بالمناصب السياسية لأعضاء حركة العدل والمساواة فقط. كما أثارت جدلاً وشكوكا في أوساط المهتمين بالقضية، وعلى وجه الخصوص وسط ناشطي دارفور. تنحصر جملة هذه الانتقادات للاتفاق في أنه تجاهل المطالب الشرعية لشعب دارفور، وانه اتفاق ثنائي آخر، سيكون مصيره مصير الاتفاقيات الأخرى مثل ابوجا، وانه يغري بقية الحركات بالمزيد من التشرذم ومزيد من التمرد من اجل الحصول على مثل هذه الاتفاقيات، وانه يهدف إلى تسهيل فوز البشير بانتخابات الرئاسة، أو إيجاد مخرج له من محكمة الجنايات الدولية، وكونه اتفاق يهدف إلى وحدة الإسلاميين.

 

جاء الاتفاق في وقت حرج للغاية بالنسبة للسودان وبالنسبة لجميع الأطراف حيث يحتاج البشير إلى تحسين موقفه الانتخابي في السودان خاصة في دارفور، كما انه يأمل في إثبات انه رجل سلام في ظل التهم التي وجهتها له محكمة الجنايات الدولية. كما أنها جاءت في فترة مهمة من عمر السودان، يواجه فيها قضايا مصيرية معينة تحتاج إلى نوع من السلام والاستقرار والهدوء السياسي، حيث ستجرى انتخابات عامة في البلاد، واستفتاء شعب جنوب السودان حول الوحدة والانفصال.

 

تعتبر الاتفاقية بمثابة ثمرة طبيعية للتحولات السريعة التي حدثت في السياسات الإقليمية، والتي أدت إلى حدوث تغيير ايجابي في العلاقات السودانية – التشادية. وظلت تشاد تواجه ضغطاً دولياً كبيرا لتطبيع علاقتها بالخرطوم، للمساعدة في حل قضية دارفور. وقد سبق هذا التحول حراك سياسي دولي ورحلات مكوكية وقمم رئاسية بين أمير دولة قطر والرئيس التشادي، وبين الرئيس البشير والملك عبد الله آل سعود في الرياض في مطلع يناير الماضي، تبعته قمة ثلاثية بين سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير دولة قطر، والرئيس الفرنسي ساركوزي، والرئيس البشير، لتعقبه زيارة الرئيس إدريس ديبي الشهيرة للخرطوم. وبموجب هذا التحول الكبير استطاعت تشاد أن تلعب دوراً كبيراً في تسهيل الوصول إلى اتفاق الدوحة، الذي يضاف إلى سجل نجاحات دولة قطر في حل النزاعات الإقليمية.  

 

يمكن وصف الاتفاقية بأنها تمهيدية أوليةpreliminary   أكثر من كونها اتفاقاً إطارياً Framework تحتاج إلى ما يتبعها. وبتشريح بسيط لها يتضح أنها خليط يتكون من شقين:  شق يحتوي على 6 مواد تتعلق بوقف إطلاق النار، وترتيبات أمنية تخص استيعاب قوات العدل والمساواة في القوات النظامية، إضافة إلى إثبات حسن النوايا بإطلاق سراح الأسرى. وشق آخر يحتوي على بنود إطارية تمهد الطريق للمفاوضات حول بعض القضايا الهامة والمحدودة مثل اقتسام السلطة (م3/11)، واقتسام الثروة(م10)، ووضع الإقليم (م9) وعودة النازحين والتعويضات (م8). هذه التوليفة تجعل من الاتفاقية اتفاقا تمهيدياً لاتفاق السلام الشامل المتوقع قريباً، أكثر من كونه اتفاقاً إطاريا يمثل الدليل الهادئ والمرشد للمفاوضات الشاملة المقبلة.           

 

الشق الأول من الاتفاق يحتوي على بنود تتعلق بوقف إطلاق النار وبعض الترتيبات الأمنية التي تخص موضعة positioning وتدريب قوات العدل والمساواة واستيعابهم في القوات النظامية، إضافة إلى إثبات حسن النوايا بإطلاق سراح الأسرى. وهذا هو المهم، وهو الذي احتفى به المجتمع الدولي لأنه إذا وضعت حركة العدل والمساواة- وهي أقوى الحركات عسكرياً- سلاحها على الأرض وارتضت التفاوض سلماً فإن ذلك من شأنه أن يصنع سلاماً ملموساً ويحدث نقلة نوعية على الأرض، ومن شأنه أن يساعد في وقف نزيف الدم في دارفور، ويضع حداً لعملية النزوح والتشريد، بحيث يمكن أن يتفرغ الجميع لتنمية الإقليم والعمل على عودة النازحين لمناطقهم. إلا انه من المهم أن ننوه إلى انه سبق للطرفين أن وقعا سلسلة طويلة من اتفاقيات وقف إطلاق النار فشلت جميعها في تحقيق السلام على الأرض.

 

اتفاق وقف إطلاق النار –إذا كتب له النجاح- سينقل دارفور من حالة الحرب إلى مرحلة السلم. ويبدو أن حركة العدل والمساواة وضعت هذا الاتفاق بناء على إستراتيجية ساحرة جدا ولكنها خطيرة، مفادها انه بمجرد توقيع الاتفاق فإنها ستسحب البساط من تحت أقدام الحركات الكثيرة التي تدعي أن لديها قوات تقاتل في دارفور وتطالب بتمثيلها في طاولة المفاوضات، وبالتالي فإن توقيع الاتفاق وحلول السلام سيفقدها كل المبررات لإشراكها في المفاوضات، طالما أنها لا تشكل تهديدا أو ضغطاً على الحكومة من الناحية العسكرية. وتكمن خطورة هذه الإستراتيجية في أن توقيع الاتفاق قد يكون حافزا فعلياً على تصعيد القتال في جبهات أخرى من دارفور، لمجرد إثبات الوجود وبالفعل بدأنا نشهد بوادر هذا التصعيد في جبل مرة.

 

أما الشق الثاني من الاتفاقية فيمثل التزاماً قوياً من الطرفين وعكساً لرغبتيهما في الدخول في مفاوضات جادة وشاملة حول كافة القضايا المختلف عليها من اقتسام للسلطة والثروة وموضوع تنمية الإقليم، وعودة النازحين، والتعويضات، وغيرها من القضايا الجذرية. هذا الشق يمثل جزءا يسيراً من الموقف التفاوضي للطرفين، حول قضايا محدودة، ولكنه يشكل ويرمز لبداية انطلاق المفاوضات بشكل هادئ، حول جميع القضايا التي تخص إقليم دارفور وشعبه. جملة هذه القضايا لا يمكن معالجتها دون الدخول في مفاوضات مفصلة حولها، ولا يمكن معالجة تاريخ طويل من التهميش السياسي والتنموي لشعب دارفور دون الاتفاق على صيغة لاقتسام السلطة والثروة. وطالما أن حركات التمرد جميعا تتحدث عن مظالم سياسية تاريخية وتهميش سياسي متعمد من قبل المركز، فمن الأولى أن يعالج هذا التهميش والمظالم السياسية بوصفة ما لإشراك الآخرين في السلطة. 

 

حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور تحتاج إلى مراجعة مواقفها المتعنتة تجاه المفاوضات، لأنه ليس من العقل أن ترفض حركات التمرد أية مفاوضات مهما كانت، خاصة إن كانت تستهدف وقف القتل والتشريد في دارفور. و لا يمكن تحقيق السلام في دارفور حسبما يطلب السيد نور في ظل الوضع الحالي من تشظي الحركات، دون اتفاق سلام جاد ودون خطوات ايجابية تتخذها جميع الأطراف وتقديم تنازلات في طاولة المفاوضات. وان نجحت هذه الاتفاقية في وقف الحرب وتحقيق السلام على ارض دارفور، فعلا لا قولا،  سوف لن يجد بعدها عبد الواحد ما يفاوض عليه.

 

ما يحتاجه الطرفان الآن هو نصوص إطارية أخرى مكملة ومفصلة وشارحة لهذا الاتفاق تحدد المبادئ المتفق عليها، والقضايا المختلف عليها بين الطرفين وأسس الاقتراب منها في طاولة المفاوضات، وتحدد الجهات المستفيدة منه، وتزيل الغموض الذي لازم بعض النصوص. معروف أن الاتفاقيات الإطارية دائما تحتوي على نصوص مرشدة تساعد على معالجة كافة القضايا وتحدد كيفية التفاوض حولها.

 

 ما يشجع في هذا الاتفاق انه جاء بصيغة سهلة يمكن تمديدها في صيغة أخرى يسهل معها انضمام الحركات الأخرى له خاصة حركة التحرير والعدالة وحركة عبد الواحد. ومثلما حذر الكثيرون من مغبة تكرار تجربة توقيع اتفاق مع حركة واحدة مثلما حدث في ابوجا 2006، نحذر من مغبة توقيع أكثر من اتفاق مع أكثر من حركة واحدة، إذ أن ذلك سيؤدي إلى الفوضى و"بازار" من الاتفاقيات يصعب تنفيذها، ويعطي الحكومة كل الأسباب للمماطلة حتى تذهب قوة الحركات أدراج الرياح.

 

المطلوب هو اتفاق سلام شامل واحد لدارفور، ويحتاج الطرفان إلى صيغة ما للخروج من أزمة تعدد الحركات ومشكلة توحيدها التي كثيراً ما عطلت التفاوض، وبالتالي أطالت عمر النزاع. هذه الصيغة يجب أن تراعي أهمية استيعاب الجميع في المفاوضات، ومعالجة قضايا التمثيل للمجتمعات المحلية في نفس الوقت. ونقترح هنا أن تقوم الوساطة والأطراف بتبني الصيغة التالية: التفاوض مع الجميع ولكن بوثيقة واحدة Multiple Parties: One Document مع منح كل فصيل حجمه وقدره الطبيعي من الناحية العسكرية والسياسية، وحقيقة ودرجة تكامل تمثيله لشعبه في دارفور، ثم وضع تراتبية تفاوضية وفق هذه المعايير. بهذه الصيغة نضمن وجود الجميع على طاولة المفاوضات، ونضمن خروج اتفاق واحد شامل مقبول من الجميع.  

 

 

آراء