اثر غياب البترول علي التأمين الصحي
د. حسن بشير
8 May, 2011
8 May, 2011
تعتمد الكثير من شركات التأمين علي الإنفاق الحكومي كمصدر رئيس لإيراداتها. لا يشكل الإنفاق العام مصدر الدخل الرئيسي للمؤسسات العامة والشركات الحكومية المستترة خلف رداء خاص فقط، وإنما يمثل الرافعة الرئيسية لمكاسب القطاع الخاص. بهذا الشكل فان غياب الإيرادات البترولية عن الخزينة العامة بعد الإعلان الرسمي لاستقلال دولة جنوب السودان في 9 يوليو 2011م سيشكل ضربة قاصمة للموارد الحكومية والمكاسب الخاصة ناهيك عن تأثيره علي دخول القطاع العائلي سيتم ذلك بشكل مباشر، من خلال تناقص عائدات عوامل الإنتاج او عجز المؤسسات الحكومية في الوفاء بالتزاماتها للإفراد والشركات، او عن طريق زيادة معدلات البطالة، أما التأثير غير المباشر فسيكون نتيجة لانخفاض قيمة الجنيه السوداني وارتفاع معدلات التضخم الأمر الذي ينعكس بشكل سلبي علي القوة الشرائية للنقود وبالتالي علي إشباع الحاجات الأساسية من السلع والخدمات. تبرز هنا حقيقة مهمة وهي ان الحكومة اعتادت عند أي نقص في مصادر إيراداتها الضغط علي المواطن عبر الرسوم والضرائب المفروضة علي السلع والخدمات الضرورية مما يشكل ضغطا معيشيا متزايدا سيصل في لحظة ما ، حتما الي درجة الانفجار.
من القطاعات المهددة بتزايد الضغط عليها الخدمات الصحية بما فيها التأمين الصحي. أصبحت في الآونة الأخيرة تتعالي نبرة ان "التأمين الصحي خاسر"، هذه النغمة يرددها مسئولو وموظفو شركات التأمين خاصة تلك الوثيقة الصلة بالحكومة والتي تربت وأثرت علي حساب المال العام. تطرح هنا أسئلة مهمة: أين ذهب مبدأ التأمين التكافلي المعمول به في النظام الإسلامي؟ لماذا يتم البحث عن الربح ويتم من اجله إهمال صحة المواطن بالرغم من التكافل الواسع في هذا القطاع؟ هل المبدأ التكافلي غير مجدي اقتصاديا وبالتالي يجب التخلي عنه لصالح مبدأ تعظيم الأرباح المعمول به في النظام الرأسمالي الصريح؟ لماذا يوجد تأمين طبي في جميع أنحاء العالم، خاصة العالم غير الإسلامي؟ الأمر في الدول الرأسمالية غير الإسلامية لا يتوقف علي التأمين الطبي او التأمين الاجتماعي فقط بل يتخطاه الي نظام الأمان الاجتماعي وشبكات الأمن الاجتماعي) Social Security Nets). إذا كان التأمين الصحي غير مربح لماذا يتم التعامل به من قبل القطاع الخاص في الدول الرأسمالية؟.
هناك حقيقة مهمة أخري وهي ان السوق يفشل في توفير السلع والخدمات الاجتماعية التي لا تتم تلبيتها بشكل كفء عبر آلية العرض والطلب. هذا الأمر يجد تفسيرا اقتصاديا واضحا له في نظرية السلع والخدمات الاجتماعية وفشل السوق. نتيجة لفشل آلية السوق في توفير السلع والخدمات الاجتماعية أوجدت المجتمعات البشرية طريقة لتوفير تلك السلع والخدمات عبر الموازنة العامة، إضافة لسن مجموعة من القوانين الخاصة بالتأمين الاجتماعي وحقوق العمل. بهذا الشكل أصبحت الاستقطاعات الخاصة بالتأمين الاجتماعي الشامل في كثير من الأحوال للتأمين الصحي تسمي بضريبة التأمين الاجتماعي والتي يتم تحملها بشكل تكافلي "في الأنظمة غير الإسلامية" بين المستخدم والمخدم في القطاعين العام والخاص. بهذا الشكل يتم استقطاع جزء يسير من دخل المستخدم وتتم تكملة النصاب المطلوب وفقا للقانون من المخدم وهكذا يتم تقديم خدمات التأمين الاجتماعي والضمان الاجتماعي. لا تتوقف تلك الخدمات علي تغطية العلاج ، إصابات العمل ، كفالة الأسرة ، بعض الحقوق الخاصة بتسوية ما بعد الخدمة وغيرها فقط وإنما تشمل التأمين ضد المرض او البطالة المؤقتة او الدائمة العجز والشيخوخة وغيرها من الخدمات الاجتماعية. بهذا الشكل فان التخلي عن خدمات التامين الاجتماعي من قبل الدولة وتطويرها الي شبكات للامان الاجتماعي تعتبر جريمة لا تغتفر في أي دولة مهما كانت المبررات والأسباب.
للأسف الشديد نجد النظام المالي وحتي النظام المتبع في الزكاة فاشلا في تلبية هذه المطالب علما بأنها في بلد مثل السودان لا تتوقف عند حدود التأمين الصحي او الاجتماعي وإنما من المفترض ان تمتد للحد من الفقر وتوفير الأمن الغذائي للأسر الفقيرة خاصة في الأرياف والأطراف الفقيرة في المدن. في هذا المنعرج الخطير الذي يمر به السودان ننبه الي خطورة ترك الحبل علي القارب لشركات التأمين الخاصة وشبه الخاصة لتتفنن في تعذيب المؤمنين بإخراج عدد كبير من الأدوية خارج مظلة التأمين والمبالغة في الإجراءات الإدارية التعسفية التي تضيف تكاليف جديدة للمؤمن بتردده بين المستشفيات ومكاتب الشركات بحثا عن إذن بإجراء الفحوصات والعمليات حتي الصغيرة منها. وصل الأمر الي مطالبة المريض بأخذ إذن من شركة التأمين لصرف الدواء في حالة تخطيه لسقف معين قدر في بعض الشركات ب 300 جنيه مع العلم بان أسعار الدواء في السودان "فوق كونية". يمكن للمريض المؤمن والذي لا يملك سيولة كافية "اعتمادا علي ضمان تأمينه" ان يفقد حياته قبل ان تكتمل الإجراءات الإدارية المفروضة عليه والمحاطة بغطاء وظيفي غليظ لا يرحم. في ظروف خروج البترول عن الموازنة العامة وتقلص الموارد الحكومية ستطبق الضائقة المعيشية فكيها علي المواطن العادي. في هذه الحالة لا يمكن إطلاق يد شركات التأمين للتربح علي صحة المواطنين الأمر الذي يتطلب اتخاذ إجراءات عاجلة لسد الثغرات في أنظمة التامين الصحي المتعددة في السودان.
الجانب الأخر هو ان علي الحكومة العمل بجدية لتطوير نظام التأمين الاجتماعي وتطوير شبكات للامان "الضمان" الاجتماعي الشامل لان هذا الأمر لا يحتمل الخضوع لقانون العرض والطلب المشوه أصلا في السودان. هذا الموضوع يبدو أكثر سهولة لأنه مشتمل علي أرباح معتبرة بعد التوسع في التأمين الصحي. الدليل علي صحة هذا القول هو ان عدد الشركات العاملة في التأمين الصحي قد أصبح في الاتساع بعد ان كان محتكرا علي شركة او شركتين، وهذا من حسن الطالع لأنه يبشر بفك الاحتكار. أما الأمر الأكثر صعوبة والذي يبدو انه مستعصي علي الحل فهو موضوع إصلاح النظام الطبي في السودان بما فيه موضوع المستشفيات الحكومية ومجانية الدواء وحقوق العاملين في الخدمات الطبية، وهذا موضوع أخر يحتاج لبحث مفصل.
Dr.Hassan.
hassan bashier [hassanbashier141@hotmail.com]