استنجدت بألمانيا لملاحقة تعهدات مؤتمر برلين: هذه موازنة “الصندوق”، فأين موازنة المواطن؟
(1)
هل هناك ما يستحق عناء الكتابة أو التحليل لما يُزعم أنه "موازنة الحكومة للعام 2021"، التي أجازها مجلس الوزراء في جلسة شكلية عابرة كما حدث أيضاً عند عرضها في الاجتماع المشترك مع المجلس السيادي الذي منحها صف قانونية غير مستحقة؟ يلمس المرء عند كثير من الخبراء المرموقين والمختصين ذوي الشأن عزوفاً تاماً عن التعاطي مع ما يُفترض أنه الحدث الاقتصادي الأهم للدولة في ظل ظروف عصيبة بالغة التعقيد لا سيما على صعيد الأوضاع الاقتصادية المتردية بوتيرة متزايدة التي أحالت معيشة غالب المواطنين إلى جحيم لا يطاق، وشظفاً وضنكاً، في وقت ترفل فيه الطبقة السياسية الحاكمة في بحبوحة الامتيازات ورغد العيش، على حساب سواد السودانيين المغلوبين على أمرهم، غير آبهة بمعاناتهم القاسية منشغلة بصراعات بائسة حول المحاصصات على اقتسام مغانم السلطة والثروة.
(2)
هذا الانصراف عن الاهتمام الواجب بأجندة "الموازنة" البالغة الأهمية في تحديد مصائر البلاد الاقتصادية يعود في المقام الأول إلى انعدام المسؤولية وعدم الجدية التي تعاملت به حكومة الدكتور عبد الله حمدوك مع هذه القضية التي تمس حياة الناس في الصميم، وتنعكس آثارها السلبية البالغة الخطورة على استقرار البلاد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وليت الأمر وقف عند هذا الحد من اللامبالاة وفقدان الحس الأخلاقي في التعاطي الحكومي مع الوضع الاقتصادي المأزوم منذ مجيئها إلى الحكم قبل عام ونصف، بل تعدى ذلك إلى ما هو أسوأ بالإمعان في ممارسة عملية تضليل واسعة للرأي العام، والتلاعب على نحو غير مسبوق بالبيانات في وثائق رسمية بشأن الموازنة مع سبق الإصرار والترصد، وهي مسألة ليست صدفة، ولكنها أصبحت ممارسة حكومية معتمدة في ظل السلطة الراهنة، وهذه الاتهامات الغليظة بحق لا نلقي بها جزافاً، ولم نخترعها اختراعاً، بل ما أثبتته بيانات رسمية صادرة عن اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير، وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع أطروحاتها فهي تمثل الضلع الشريك المؤسس للائتلاف الحاكم الذي تى بهذه الحكومة، وما أعلنه أيضاً ممثلون للجان المقاومة الممثلة لقاعدته الشعبية.
(3)
والمفارقة اللافتة للنظر في نهج التعامل الحكومي العبثي مع هذه الاتهامات الخطيرة التي كيلت لها وسارت بذكرها الركبان أنها لم تكلف نفسها عناء الرد عليها أو شجبها، والأهم من ذلك نفيها، بل صمتت عليها كأن شيئاً لم يكن، أو أنها تقر بأنها هي الحقيقة الماثلة ولذلك آثرت عدم الخوض فيها تجنباً لتأكيدها أو بالأحرى استهتاراً بها وبقائلها وتقليل من شأن شركاء متفرجين لا قيمة لهم عند السلطة الحاكمة، بالمناسبة أين مجلس شركاء الانتقال الذي قيل أن وجود تحتمه ضرورة لعب دور التوفيق بين أطرافه، واضح أن الجلبة التي رافقت تشكيله كانت "عوة فوق ضلف"، لا بأس ولا حاجة لنا لإزعاجه ربما ربما يستمتع هذه الأيام بحالة بيات شتوي.
(4)
وحين تورد اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير في مذكرة رسمية للسيد رئيس الوزراء اتهاماً صريحاً لوزيرة المالية المكلفة بأن البيانات التي أدلت بها إلى الرأي العام، عقب إجازة مجلس الوزراء لمشروع الموازنة "غير صحيحة"، وتمضي إى حد القول بان الاعتمادات المالية المخصصة للقطاعات الاقتصادية والوحدات الحكومية التي أجزيت "تكذّب أرقام الوزيرة المضلّلة وقصد بها الدعاية الإعلامية وإخفاء حقيقة ان جل الصرف موجه للقطاع السيادي والأمن والدفاع"، وحين تصدر هذه الاتهامات البالغة الخطورة الموجهة لوزيرة المالية ب"الكذب"، و"التضليل"، و"إخفاء الحقائق"، و"عدم صحة البيانات"، وتنكر الوزيرة لتعهدها بأن تكون الموازن شفافة ومعلوماتها في متناول الجميع، وانتهى الأمر بحجب التفاصيل عن الذين دعوا للمشاركة في المشاورات الأولية، كما أكد ذلك أيضاً ممثلو لجان المقاومة.
(5)
والحال هكذا فماذا بقي من هذه الموازنة ليناقش بجدية وقد اتضح أنها "مطبوخة" بالكامل بقصد تضليل الرأي العام، ولا شئ يدعو المرء لعدم أخذ هذه القضية بمنتهى الجدية، إذا كان السيد رئيس الوزراء، قبل حكومته، وزيرته لا يرون ما يدعوهم لدحض كل هذه النقائض المشينة في حقهم ورميهم بكل هذه الصفات التي تسلب منهم أية أهلية أخلاقية للقيام بالمسؤولية لتي يتقلدونها بغير وجه حق. ولا يمكن بأي حال تبرير صمت هذه الجهات المعنية، على الأقل احتراماً، للرأي العام تبيين وجه الحق في هذه القضية، ولكن من الواضح أن السلطة الحاكمة لا تقيم وزناً للشعب الذي أتى بها، ولا ترى أنه يستحق أن تضع له اعتباراً. فلماذا تتصرف على هذا النحو؟.
(6)
لماذا تصر الحكومة على تمرير موازنة "معلولة" في تجاهل تام للرأي العام، ودون اعتبار لتبعاتها الاجتماعية والسياسية؟ من الواضح أن ذلك لا يحدث صدفة، وحين تكرر الحكومة الأسلوب نفسه مع كل نتائجه الكارثية التي لا يزال يدفع الشعب ثمنها، فإن ذلك يعنئ شيئاً واحد أنها ليست معنية به، ولذلك لا تضع أي اعتبار للمواطن في حساباتها، وأن المخاطب الحقيقي بالموازنة أطرافاً خارجية تظن أن عندها حلولا سحرية لفشلها في إدارة الاقتصاد، وهو ما يفسر رهانها المستميت على حلول مستوردة، في ظل عدم إيمانها بحلول وطنية يكشف عنها عجزها في إطلاق مشروع تنموي وطني بنجاح متاح لبلد زاخر بالموارد، وبإطلاق طاقات التغيير في عملية البناء، وهو ما شهدته العديد من البلدان، على الرغم من فقر مواردها، التي توفرت لها قيادات ذات رؤية وبصيرة، وإرادة وطنية قوية وخلّاقة.
(7)
ما خلصنا إليه أنفاً ليس تحليلاً بل ما تثبته وثائق منشورة سبق أن تناولناها بالتفصيل في هذه الزاوية، فقد بذر مأزق الحل الأجنبي منذ الاجتماع الرابع لمجموعة أصدقاء السودان، بالمناسبة أين هي ولماذا توارت فجأة؟، بواشنطن في أكتوبر 2019، عقب الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين، وبعد بضعة أسابيع من تشكيل الحكومة الانتقالية، والذي تم فيها رسم مسار للإصلاح للاقتصادي يفرض نموذج الإصلاح الهيكلي لصندوق النقد، مقابل وعد برعاية مؤتمر للمانحين الذي تعثر قيامه حتى خواتيم يونيو من العام الماضي في برلين، وبعد أن تمكّنت المجموعة من ضمان إخضاع الحكومة لهذا المسار.
(8)
ففي الاجتماع السابع للمجموعة في باريس في مايو 2020 تم التوقيع على ما يُعرف بإطار الشراكة بين الحكومة والمجموعة، والذي يرهن بوضوح تقديمها لأي مساعدات للسودان على مدى التزامها بالتنفيذ الكامل لبرنامج الإصلاح الهيكلي تحت إشراف الصندوق، وهو ما أجبر الحكومة على توقيع اتفاق برنامج للتحرير مراقب من قبل موظفي الصندوق في 23 يونيو 2020 قبيل يومين فقط من انعقاد مؤتمر برلين، وقد لاحظت باستغراب أن السيدة وزيرة المالية ظلت تتجنب بشكل مريب وهي تحصي مرجعيات هذه الموازنة الإشارة إلى البرنامج الذي تعهدت به الحكومة لصندوق النقد الدولي تحت رقابة موظفيه، فما الذي يدعوها لذلك، فهل في الأمر ما يدعو إلى الاستحياء من ذلك؟
(9)
ولكن ذلك لم يكن كافياً لتحصل الحكومة على ما كانت تأمله من مساعدات مالية، وقد أعلنت وزيرة المالية أنها ستحصل على 90% من تعهدات مؤتمر برلين البالغة 1,8 مليار دولار قبيل نهاية العام 2020، وفي الواقع لم يتم يدفع سوى خمس هذا المبلغ لمشروع دعم الأسر، واللافت هنا أن السيد رئيس الوزراء طلب عند لقائه بمساعد وزير الخارجية الألماني الزائر للخرطوم اليوم الثلاثاء تذكير المانحين للوفاء بتعهداتهم في برلين. ومن الواضح أن تلكوء المانحين يحدث لأن الحكومة تأخرت في تنفيذ التزاماتها وفق اتفاقها مع صندوق النقد بتحرير سعر الصرف، ورفع الدعم عن السلع والخدمات، وهو ما يفسر قيام وزارة المالية على عجالة برفع أسعار الوقود والكهرباء قبيل إجازة الموازنة الجديدة في محاولة للاستجابة لهذه الشروط القاسية بغض النظر عن كلفتها الاجتماعية، ودون تحسب لتبعاتها السياسية، في سباق مع الزمن لإرضاء المانحين.
(10)
أما المعضلة الكبرى التي تواجه الحكومة للوفاء بشرط تعويم سعر الصرف، في ظل عدم توفر احتياطيات نقد أجنبي مقدرة للبنك المركزي تمكنه من السيطرة على معدلات سعر الصرف حال تحريره، وهو ما يعني انهياراً فلكياً محتوماً لسعر صرف الجنيه، بدأت بوادره المنذرة بتخطي الدولار لحاجز الثلاثمائة جنيه في بضعة أيام، في ظل عدم وجود أية جهة خارجية مستعدة لتوفير هذه الاحتياطيات اللازمة، والمفارقة أن المليارات التي تحاول الحكومة الإيحاء بأنها تدفقت عليها من الولايات المتحدة لا تعدو أن تكون عملية إلهاء للرأي العام، ذلك أن الحصول على هذه التسهيلات لمعالجة قضية المتأخرات لا تكفي ما لم يقر صندوق النقد بنجاح الحكومة في تطبيق برنامجه، ولن تستطيع الحكومة القيام بذلك بدون الحصول على موارد معتبرة من مانحين دوليين سواء لسد عجز الموازنة أو لبناء احتياطيات للبنك المركزي، هكذا تكون البلاد دخلت حالة دوران في حلقة مفرغة.
(11)
لا خلاف حول ضرورة إجراء إصلاح اقتصادي، ولكنه مستحيل وفق سياسات الصندوق لأنها تفتقر لأدنى المعطيات الموضوعية لإنجاحها، والشاهد أن البلدان تلجأ عادة إلى تبنى سياسات الإصلاح الهيكلي لأن ذلك يمكنها من الحصول على مساعدات مباشرة من الصندوق لإنجاحها، أما في هذه الحالة الشاذة فالمطلوب من السودان أن يقوم بهذه الإصلاحات القاسية في زمن وجيز بمفرده دون أي عون، والنتيجة كما تقول الطرفة ستكون أن العملية نجحت، لكن المريض انتقل إلى الأمجاد السماوية.
khalidtigani@gmail.com