الأبحاث الطبية التي أنجزتها البحرية الأمريكية في السودان الإنجليزي – المصري بين عامي 1948 و1950م .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

Medical Investigations of the United States Navy in the Anglo-Egyptian Sudan, 1948 – 1950

H. Hoogstraal اتش. هووقاسترال
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه هي ترجمة لمقال استعرض فيه الدكتور اتش. هووقاسترال مدير علم الحيوان الطبي في الوحدة البحثية الطبية الثالثة للبحرية الأمريكية بالقاهرة (نامرو 3، NAMRU-3) إنجازات وحدته في مجال الأبحاث الطبية بالسودان بين عامي 1948 و1950م. نشر المقال عام 1951م م بالعدد الثاني والثلاثين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات".
وكانت الوحدة البحثية الطبية الثالثة للبحرية الأمريكية قد أنشأت عام 1946م (وعام 1942م بصورة غير رسمية) ولا تزال تعمل إلى الآن. وهي تبحث في الأمراض المعدية في أفريقيا والشرق الأوسط. وقد سبق لعدد من السودانيين التدرب فيها لفترات مختلفة.
وظل الدكتور هووقاسترال يعمل في مجال التدريس الجامعي والبحث العلمي في مجلات الحشرات الطبية، ويشرف على طلاب الدراسات العليا (خاصة من الدول النامية)، وكانت آخر ورقة علمية له في عام 1990م.
المترجم
** ** **
ربما أندهش سكان السودان في كثير من المرات عند رؤية أفراد البحرية الأمريكية وهم يؤدون فترة أعمالهم الخارجية المفروضة عليهم ضمن برنامج عملهم، وهم يطوفون في صحارى وجبال وسافنا بلادهم. فيجب أن نعترف أن أراضي السودان الداخلية هي أراضٍ لا يتوقع المرء عادة أن يرى فيها أفرادا من البحرية الأميركية. وكان كثير من ضيوفنا في محطاتنا الأرضية / غير الساحلية يخبرونا بآخر الشائعات عما يقوله الناس عما نفعله، ولماذا نحن في بلادهم. ولكن مع تقدم عملنا بدأ الناس في فهم وتفهم دوافعنا ومجهوداتنا، وفي تقديرها.
وكان السيد ويندل فيليبس، من جامعة كاليفورنيا، قد تقدم بطلب في عام 1947م إلى البحرية الأمريكية لتقديم المساعدة الطبية لبعثة حفريات وآثار متجهة لأفريقيا كان مسؤولا عن تنظيمها. ووافق مكتب الطب والجراحة على إرسال مجموعة من الأطباء الأخصائيين المدنيين والعسكريين في البحرية وذلك لـ :
1. تلبية الاحتياجات الطبية لأعضاء البعثة
2. الحصول على صور وأفلام (متحركة) وعينات طبية لاستخدامها في تدريس مادة طب المناطق الحارة في المدرسة الطبية البحرية.
3. جمع معلومات عن العائل – الطفيل، ومعلومات علمية أخرى، خاصة تلك التي لها أي علاقة بالأمراض البشرية، لتقديمها للمؤسسات العسكرية والمدنية، والقيام بأبحاث ميدانية إن دعت الحاجة لذلك.
4. إعطاء أفراد الطاقم التدريسي فرصة الحصول على علم وتجارب أوسع في مجال طب المناطق الحارة.
5. جمع معلومات وبائية (epidemiological) عن الأمراض في أفريقيا، وعن أي معلومات متعلقة بعلاج الأمراض المدارية والوقاية منها، وهي معلومات ستفيد بلا ريب المهتمين في كل أرجاء العالم.
وتحركت القافلة التي كانت تضم علماء وأطباء وفنيي البحرية من منطقة شبين الكوم بالفيوم في مصر يوم 17 فبراير 1948م، ووصلت إلى وادي حلفا من الضفة الغربية للنيل في الأول من مارس. وهنالك عملت البعثة، بمساعدة خبير محلي هو الدكتور/ محمد أحمد علي*، على دراسة الأمراض في مستشفى المنطقة، وتصوير العديد من المرضى بالأشعة السينية، وجمع الكثير من العينات من الحيوانات الفقارية المحلية، والطفيليات التي تعيش فيها (وعليها)، والحشرات الطبية الموجودة في المنطقة. وأهم تلك الحشرات هي الهاموشيات (Chironomidae)، وهي تأتي بأعداد مهولة من النيل في مواسم معينة، وقد تسبب لبعض الناس في المنطقة الربو (الأزمة). ولا يعلم إلا قليل من علماء الحشرات أو الطب في كل العالم أن عائلة الهاموشيات لها أهمية طبية.
وبعد قضاء نحو عشرة أيام في وادي حلفا، تحركت البعثة إلى "أبو حمد" حيث رأي الأطباء حالات مرضية لم يشاهدوا مثلها في وادي حلفا، وجمعوا مزيدا من العينات المرضية. وعثر العلماء في شاطئ النيل على حشرات البعوض الأسود التي تنقل الدودة المسببة لمرض العمي النهري (يسمى في القواميس الطبية داء كلابية الذنب)، وأخذوا أعدادا كبيرة لأغراض التدريس لاحقا.
وتحركت البعثة من "أبو حمد" إلى الخرطوم بالسيارات. وفي الطريق من شمال أفريقيا إلى جنوبها أدرك أفراد البعثة الثروة البحثية الهائلة الممكنة في هذا البلد. وأتفق الجميع على أن السودان بلا ريب هو أغنى بلد زاروه من ناحية طبية بحثية، ولو ترك لهم الخيار لكان السودان هو البلد المفضل لهم للعمل البحثي. ولا شك أن المساعدات التي قدمتها الخدمات الطبية والبيطرية السودانية للبعثة كان لها الفضل في زيادة حصيلتنا من المعلومات في مختلف مجالات العلوم الطبية.
وأقامت بعثتنا وحدة لها في جنوب السودان كان مركزها في جوبا من بدايات أبريل إلى يونيو. وعند مقارنة العمل في تلك الوحدة بكل ما قامت به في أجزاء أفريقيا الأخرى، نجد أن مديرية الاستوائية كانت هي أكثر مكان تحصلت فيه البعثة على أهم المعلومات الطبية أهمية وقيمة علمية. ومن جوبا ذهبت مجموعة غربا إلى يوبو (Yubo) وتحصلت على الكثير من المعلومات المفصلة عن الأمراض المدارية بالمنطقة، وعن علاجها ووسائل مكافحتها، وجمعت كذلك الكثير من العينات المرضية، وأخذت صورا فتوغرافية لمرضى مصابين بأمراض مختلفة شملت الجزام وعمى النهر. ولغرض التدريب تم تسجيل شريط سينمائي (كودا كروم) عن كل أطوار مرض النوم، ومسببه، ومكافحته. وتم لاحقا تكملة الشريط في مناطق أخرى بأفريقيا. ومن جوبا سافرت مجموعة أخرى شرقا إلى كبويتا ودرست زباببيات الفيل ** (elephant shrew) والأمراض البشرية بالمنطقة، خاصة مرضي الكلازار والأكياس العُدارية (وقد تكون كبيوتا هي أكثر مكان في العالم إصابة بهذا المرض).
وفي يونيو واصلت المجموعة البحثية مسيرتها جنوبا في داخل أفريقيا، بينما استقلَّ القادة روبوش وهوسبيتلمان ولوليس والسيد تيري طائرة ومعهم 104 من زباببيات الفيل، من كبيويتا وتوريت في طريقهم إلى أمريكا، حيث ستجرى على تلك الحيوانات المزيد من الأبحاث. وفي بدايات شهر يوليو عاد كاتب هذا المقال مع السيد لوليس إلى توريت من كيينا لإجراء المزيد من الأبحاث عن زباببيات الفيل وعلى الطفيليات التي تحملها، وبقينا هنالك حتى سبتمبر.
وكان الهدف النهائي من مشروع الأبحاث عن زباببيات الفيل (الذي كان بطلب من معهد الأبحاث الطبية بالبحرية الأمريكية بالقرب من واشنطن) هو العثور على حيوان من الثدييات الصغيرة يكون مناسبا لأبحاث مرض الملاريا. وكانت كثير من المفاهيم القديمة عن الملاريا قد تغيرت وتبدلت كثيرا في السنوات القليلة الماضية بفضل الأبحاث البريطانية والأميركية. وثبت الآن أن هذا المرض مرض ثُنَائِيّ / مزدوج، له طور يحدث في الدم الجائل / الدائر في الجسم (كما يعرف الكل)، وهنالك طور آخر يكون مثبتا في أنسجة العائل. وكان على العلماء أن يحصلوا على مزيد من المعلومات عن الطفيل، وأن يطوروا دواءً (مثاليا) لعلاج البشر من مرض الملاريا ووقايتهم منه. ولتحقيق ذلك كان لزاما عليهم، الآن أكثر من أي وقت مضى، أن يستخدموا في أبحاثهم أحد الحيوانات الثدية الصغيرة الحجم التي يمكن أن تعيش في المختبر، وتتوالد تحت ظروفه، وأن يقبل جسمها العدوى بالملاريا البشرية. وأكدت دراسات سابقة أن زباببيات الفيل يصاب بالملاريا البشرية، وهو بهذا يلبي الشروط المطلوبة علميا، باعتباره نموذجا حيوانيا animal model لذلك المرض البشري.
وبعد ثلاثة أشهر من العمل في كبيوتا وتوريت وجوبا، ومن أبحاثنا في أمريكا على تلك العينات التي بعثنا بها لمختبراتنا من السودان، تبين لنا أن زباببيات الفيل لا يعيش طويلا، وله طبع شديد العصبية، ولا يتكيف أو يتأقلم على العيش في المختبر، ولا يقبل بالتزاوج تحت ظروف غير طبيعية. ورغم أن ذلك طفيل الملاريا في دم ذلك الحيوان كانت تحمل الكثير من الصفات المشابهة لأنواع معينة من الملاريا البشرية، إلا أن طبيعتها الدورية (المتكررة بانتظام) تشابه أكثر الملاريا عند الحيوانات الدنيا، مما دعانا لنخلص إلى أنه لا فائدة مباشرة تجنى من ذلك الحيوان في أبحاث الملاريا البشرية. غير أنه يظل مفيدا جدا في معرفة المزيد عن دورة حياة الطفيل، وعن الحشرات التي تنقله من واحد من زباببيات الفيل إلى آخر، وكيف يتم ذلك النقل.
ولدراسة تلك المواضيع البحثية، تم تكليف كاتب هذه الورقة مع السيد لوليس للعمل في وحدة الأبحاث الطبية التابعة للبحرية الأمريكية بالقاهرة، وذلك بعد أشهر قليلة من عودتنا من أفريقيا، وأسندت إلينا مهمة إنشاء محطة أبحاث في توريت. وكان من مهامنا أيضا البحث عن طفيليات في دماء حيوانات أخرى قد تكون ذات أهمية بحثية. عدنا إلى السودان في سبتمبر من عام 1949م، وباشرنا العمل في توريت، وبدأنا بتنظيم معينات البحث الضرورية استعدادا لأهم مرحلة مكثفة في البحث كان من المقرر أن تبدأ مع بدء هطول الأمطار في نهاية أبريل. غير أن تغيرا شاملا في كل استراتيجيات البحث العلمي بالوحدة تضمن إغلاق محطة توريت البحثية دون أن نتمكن من إنجاز ما أسند إلينا من مهمات. وقمنا بإخلاء تلك المحطة في الجنوب وذلك في الخامس والعشرين من أبريل عام 1950م.
وبقيت الكثير من الأسئلة البحثية والمجهولات التي حاولنا الكشف عن غموضها كما هي، دون إجابة أو تفسير. وسيظل الوضع كما هو الحال عليه إلى أن يتم عمل المزيد من الأبحاث المكثفة المتعمقة حول الملاريا في الحيوانات الدنيا من أجل مزيد من الفهم للملاريا البشرية. وفي ظل الواقع المضطرب الذي نعيش فيه الآن، وبالنظر إلى تعقيدات تلك المسائل البحثية، وتكلفة البحوث، وبعد المسافات، فإني أعتقد أنه سيمر وقت طويل قبل أن نزداد معرفة وعلما بالملاريا في الحيوان (والإنسان).
وكانت الأبحاث التي أجريناها بجانب أبحاث زباببيات الفيل قد عوضتنا (جزئيا على الأقل) عن اخفاقنا في إكمال أبحاثنا الرئيسة في ذلك الحيوان. وقمنا بالفعل بكتابة عدد من الأوراق العلمية عن كثير من الحشرات الخارجية والداخلية التي جمعناها في فترتنا بالسودان، وذلك بالتعاون مع عدد من العلماء البريطانيين والأمريكيين. فالرائد روبرت تراوب مثلا يقوم بكتابة ورقة عن البراغيث التي جمعها من السودان، ومن بينها أنواع لم تسجل في أي مكان آخر من قبل. وسيقوم دكتور بيكوارت، من جامعة هارفارد، بنشر سلسلة من الأوراق العلمية عن القواقع التي جُمعت من السودان. ويدرس كاتب هذا المقال التقرير المفصل الذي أُعد عن عمليات جمع وتصنيف أعداد وأنواع مختلفة من القراد بجنوب السودان تمهيدا لاستخلاص عدد من الأوراق العلمية من ذلك التقرير، ونشرها في المجلات العلمية، مع أخرى عن معلومات عن حيوانات فقارية تم جمع أكثر من 2,000 عينة منها، والربط بينها وبين نتائج الدراسات التي أجريت على الطفيليات بغرض زيادة المعرفة العلمية، ودراسة توزيع الأنواع المختلفة من الطفيليات في تلك الحيوانات، والدور الذي تؤديه في إحداث الأمراض. وأعد الدكتور كلاي ج. هيف من معهد البحرية الأمريكية للبحوث الطبية ورقة صغيرة عن طفيل الملاريا المسمى بلازموديم فالاكس Plasmodium fallax، الذي تم عزله من دجاج غينيا (الدجاج المزركش /الحبشي) في توريت. ووجدنا أن أعداد هذا الطفيل في دماء هذه الطيور وهي طليقة في بيئتها الطبيعية قليل جدا، ولكن عندما يتم نقل هذا الطفيل لدماء الحمام الذي يعيش في المختبر بأمريكا، نجد أنه يصاب بعدوى شديدة. ولعل هذا يشير لأهمية الأمر في دراسة المناعة ضد الملاريا.
وزارنا في مختبرنا بالقاهرة دكتور بي. سي. قارنهام (من مدرسة لندن لحفظ الصحة وطب المناطق الحارة)، وأريناه كائنا حيا غريبا وجدناه في دم الوبرhyraxes (حيوان يشبه الأرنب البري) بالقرب من توريت. وأبدى الرجل فضولا علميا واهتماما بالغا بذلك الطفيل للحد الذي دعاه لأخذه معه إلى مختبره في لندن. وبعد فحص وتمحيص خلص دكتور قارنهام إلى أن ذلك الطفيل يمثل جنسا ونوعا جديدا تماما من الكمثراوات (piroplasma)، وهو يعد ذلك الاكتشاف للنشر في وقت قريب. ويقوم دكتور قارنهام أيضا بكتابة ورقة عن داء المثقبيات (Trypanosomiasis) في أفريقيا ومدغشقر سيقدمها للنشر قريبا. وبالإضافة لذلك يقوم دكتور أمبرسون ودكتور اشفارز بالتعاون في كتابة تقرير شامل يلخص للبحرية كل أعمال البعثة.
ووفرت العينات التي جُمعت والأفلام التي صُورت في عام 1948م للعاملين في مدرسة البحرية الطبية مجموعة فريدة في نوعها لأغراض التدريس والبحث، إضافة لما جلبته البعثة من حيوانات (مثل الثدييات والحشرات وأنواع الطفيليات المختلفة) والعينات المرضية. وأهديت نسخ من تلك الأفلام والعينات الشبيهة إلى المؤسسات التعليمية والبحثية. وبإمكان المعلمين في مدرسة البحرية الطبية الاعتماد الآن على ثروة ضخمة من الملاحظات الشخصية، وتسمع الآن المحاضرين يبدؤون محاضراتهم بالقول: "عندما كنت في السودان ...".
يتقدم كل أفراد البعثة التي زارت السودان بجزيل الشكر حكومة السودان لتقديمها كل عون ممكن لهم، وسيذكرون دوما الصداقات التي أقاموها في غضون شهورهم في فترة أعمالهم الخارجية. **** **** ****
من المترجم:
* لعله غدا أول وزير صحة في العهد العسكري الأول عقب انقلاب 17 /11/1958م
** من الثدييات آكلة للحشرات، ولها أهمية طبية وبيطرية، ويأكلها بعض سكان المناطق مثل كينيا. يمكن رؤية ذلك الحيوان في الرابط goo.gl/tvNuuQ

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء