الأزمة السودانية والحوار ب”التقسيط غير المريح”

 


 

 

ينخرط أطراف الصراع السوداني كافة بمن في ذلك، الوسطاء الأفارقة والفاعلين الدوليين، في تسابق محموم وتحركات متقاطعة واتصالات متعددة لا يبدو بينها رابط، على الرغم من أن الجميع يبحث عن موطء قدم في تسوية منتظرة للأزمة السودانية، غير أن الشاهد أن طابع المناورة ومحاولة كسب النقاط الذي يطغى على أجندة المتسابقين في هذا المارثوان هو الخيط الجامع بين مجمل أطراف هذا الحراك الذي يعني عملياً أن البحث عن تسوية تاريخية على صعيد واحد لكل الفرقاء لم تعد حاضرة بعد تعثر مسار التسوية عبر مؤتمر حوار جامع بعد فشل محاولات التحضير اللازم لمعطيات إنجاحه، وباتت في المدينة الآن لعبة احدة هي البحث عن صفقات تسوية ثنائية ب"تقسيط غير مريح"، قد يعالج أزمة كل طرف على حدة، لكن المؤكد أنها لن تفلح في تحقيق تسوية تاريخية شاملة للأزمة السودانية.

تبدأ تعقيدات هذه السيرك السياسي بأزمة الوسطاء الأفارقة الذين تحولت مهمتهم من تسهيل التسوية إلى مأزق، ليست للآلية الإفريقية بزعامة الرئيس ثابو إمبيكي فحسب بل لمستقبل الدور الإفريقي نفسه، فقد ظلت مهمة الوساطة الإفريقية منذ سبتمبر 2014 تتركز وفق قرار مجلس السلم والأمن الإفريقي 456 في تأمين عقد "اللقاء التحضيري" للاتفاق على قواعد وإجراءات الحوار الوطني بحسبانه المدخل السليم لتوحيد منبر التفاوض، ثم جاء القرار 539 تعزيزاً له مع مهلة ثلاثة أشهر ليرفع إمبيكي تقريراً للمجلس عما حدث، انقضت المهلة، وكما وصفها سياسي بأنها انتهت دون أن "يتذكرها أحد، كما لم يبك عليها أحد" وفشلت الوساطة الإفريقية في مهمتها الوحيدة وبدلاً من إعلان وصولها إلى طريق مسدودة، لجأ إمبيكي لتفادي إعلان فشل مهمته إلى القفز على حاجز "اللقاء التحضيري"، إلى اختراع وسيلة "الاجتماعات غير الرسمية" لكسر الجمود بين الحكومة والحركات المسلحة.

كان إمبيكي يأمل بعقد اللقاء التحضيري بحلول منتصف الشهر الجاري، لولا أن تحفظات حكومية تتعلق بالتمثيل في اللقاء أجهضت خطته، وكان على إمبيكي المواجه بتقديم تقرير لمجلس السلم والأمن الإفريقي في العشرين من يناير الجاري، بين يدي انعقاد القمة الإفريقية المزمعة في أواخر الشهر الجاري، أن يجد ما يقدمه للمجلس من مبررات تبقي مهمته حية وهو ما دعاه للاستعاضة عن اللقاء التحضيري المجهض بالجولة الثانية من "الاجتماعات غير الرسمية" بين الحكومة والحركة الشعبية. ومن المفترض أن تقدم الآلية خطة عمل جديدة لمجلس السلم والأمن الإفريقي لتحصل بذلك على تفويض للاستمرار في مهمتها، والسؤال في ظل فشل الوساطة الأفريقة في تحقيق أي تقدم في المهمة الاساسية الموكلة إليها، فما الذي يفيد الشعب السوداني من استمرار دورها العاجز، غير الإسهام في إستدامة الأزمة الوطنية تحت لافتة وساطة غير فعّالة تعطي آمالاً كاذبة بإمكانية نجاحها في تحقيق تسوية بعدما دخلت هي نفسها سوق المناورات للحفاظ على وجودها على حساب مسؤولية لا تملك مؤهلات القيام بها.

أما الحركة الشعبية التي كانت أعلى صوتاً تمسكاً بالتسوية الشاملة وعدم تجزئة مسارات التفاوض فقد أرغمتها تطورات متسارعة عقدّت حساباتها إلى إعادة ترتيب أولوياتها وتغيير تكتيكاتها، وهي تطورات طالت أوضاعها الداخلية، وتحالفاتها الهشّة في الجبهة الثورية، فضلاً عن خضوعها لضغوط خارجية كثيفة، تقاطعت لتفرض عليها مفارقة مسارها السابق لتنخرط في مفاوضات ثنائية مع الحكومة تحت لافتة "اجتماعات غير رسمية"، وهي مدركة أن هذا التحول المفاجئ سيربك حلفاءها كما قد يشكل تهديداً لوحدة المعارضة لا سيما في تحالف قوى نداء السودان في ظل "التقارب المفاجئ" مع الخرطوم، وهو ما دعا الأمين العام للحركة ورئيس وفدها المفاوض ياسر عرمان إلى مخاطبة هذه الهواجس برسالة طمأنينة للحلفاء والأصدقاء، غير أنه من الصعب تفهم خطوة الحركة الشعبية بالانتقال من مربع الإصرار على دعوة كل قوى نداء السودان للمشاركة في"القاء التحضيري" ولو أدى ذلك إلى إحهاضه لرفض الحكومة مشاركة غير الموقعين على اتفاقية 5 سبتمبر 2014، إلى الانتقال إلى مربع جديد كلياً لا ترى فيه الحركة الشعبية بأساً في الدخول في مفاوضات "خلفية" مع الحكومة.

في الواقع وجدت الحركة الشعبية نفسها مضطرة لدخول لعبة "التفاوض الثنائي" والجزئي"على المنطقتين"، فالتحديات على صعيد تماسك قيادتها الداخلية بات على المحك، ولم تعد وحدة الهدف متوفرة كما كانت من قبل في ظل تصاعد دعوات إيقاف الحرب من أصحاب المصلحة من المتضررين من استمرارها، وهو ما أصبح يشكّل عبئاً ويطرح تساؤلات حول أجندة بعض أطراف القيادة، كان تغيير قيادة الجيش الشعبي أحد مظاهره، كما أن استمرار الحرب يتطلب دعماً لوجستياً أصبح يزداد صعوبة. وزاد الأمر تعقيداً الصراع الذي اندلع في تحالف الجبهة الثورية قبل بضعة أشهر ظاهره التنازع على القيادة إلا أنه في الواقع يعكس خلافات عميقة حول أجندة التسوية بين أطرافها وسط اتهامات متبادلة بنيّة استعداد كل طرف الدخول في تسوية ما مع الخرطوم، وهو ما يشير إليه دخول الحركة الشعبية فعلاً في تفاوض ثنائي، في حين تنظر حركات دارفور للدخول في مسار موازي.

بيد أن العامل الأكثر حسماً في توجه الحركة الشعبية جاء من تلقاء الضغوط الخارجية، لا سيما من قبل الولايات المتحدة الأمريكية المستعجلة لطي ملف المنطقتين لاعتبارات تتعلق بانشغالها بالوضع في جنوب السودان أكثر من ارتباطها بتسوية شاملة للأزمة السودانية، فالإدارة الأمريكية تعتقد أن استمرار مشكلة المنطقتين عالقاً سيعقّد أية محاولة لتحسين العلاقات بين الخرطوم وجوبا، وأن الطريق لتهدئة الوضع في جنوب السودان بالإستعانة بالحكومة السودانية يتطلب احتواء "خميرة العكننة" التي تشكلها أزمة المنطقتين بين الشمال والجنوب.

بالإضافة إلى ذلك تدرك الحركة الشعبية أن هناك تحولات وتحالفات جديدة تتشكل في المنطقة تعيد الخرطوم التموضع فيها على نحو يكسر العزلة الخانقة التي ظلت مرتهنة لها لفترة طويلة مما يمدها بأسباب حياة متجددة، فضلاً عن ثبوت أن الضغوط الغربية على الخرطوم هدفها منخفض السقف لا يتعدى الضغط من أجل تغيير "سلوك النظام" لجعله أكثر استيعاباً لآخرين، وليس بغرض "تغيير النظام" نفسه، وبالطبع فإن ذلك نتاج مصالح إقليمية ودولية معينة لا تتوافق بالضرورة مع حسابات الأطراف المعارضة الراغبة في التغير الجذري، وهذا سبب آخر يجعل الحركة الشعبية تعيد حساباتها المتكئة على دعم دولي "غير مشروط"، للخضوع إلى منطق حسابات مصالح القوى الإقليمية والدولية، وبالتالي لم يعد أمامها مناص من البحث عن أفضل تسوية عبر صفقة ثنائية لحل جزئي للمنطقتين على الرغم من لافتة التسوية لشاملة المرفوعة.

إزاء تقدم الحركة الشعبية بإتجاه مسار تسوية ثنائي وجزئي تحت ضغط هذه المعطيات، لم يجد الجناح الآخر في الجبهة الثورية الذي تهيمن عليه حركة العدل والمساواة بزعامة د. جبريل إبراهيم وحركة تحرير السودان يزعامة مني أركو مناوي بداً من أن يبحث له عن موطئ قدم في خضم هذه المعادلات الجديدة، التي تكاد تعزل ملف دارفور من سياق التسوية الجاري، فواشنطن المشغولة بهموم الأزمة الجنوب – سودانية تراجعت أولوية دارفور لديها في ظل تضاؤل فرصة التسوية الشاملة مع فشل الوسطاء الأفارقة في تأمين مسار "اللقاء التحضيري"، ومع انخراط الحركة الشعبية في مسار ثنائي، وعزم إمبيكي فتح مسار ثنائي آخر لحركات دارفور تحت لافتة "اجتماعات غير رسمية"، سارعت حركتي دارفور لتعزيز فرصها قبل الدخول في هذا المسار بمحاولة إعادة فتح خطوط تواصل مع "قطر" راعية "وثيقة الدوحة" المبادرة الوحيدة المطروحة على الطاولة بهدف رفع سقفها المقتصر حالياً على "الإلحاق" وليس إعادة التفاوض حولها، جاء لقاء باريس الاثنين الماضي بين الوسيط القطري السيد أحمد بن عبد الله آل محمود وجبريل ومناوي، حرص البيان المشترك على إثبات أن اللقاء تم بمبادرة وطلب من "الحركتين"، في مقابل استعداد الدوحة لاستماع لمطلب الحركتين في" ورقة تفصيلية للوساطة القطرية تتضمن رؤيتهما حول إمكانية إيجاد قواسم مشتركة  لعملية السلام في دارفور في أقرب وقت ممكن"، وهو ما يعني فعلياً الاستعداد لفتح التفاوض خلافاً لإصرار الخرطوم السابق بأن المطروح التوقيع لا غير على الوثيقة، ولعل ما يضعف الموقف الحكومي أن تقييم التزامها بتنفيذ تعهدات وثيقة الدوحة مع موقعيها بعد تجربة خمس سنوات لم يكن في مستوى تطلعات الوساطة القطرية، مما يبرر الآن إعادة فتح الوثيقة.    

في ظل هذه التطورات يجد حزب الأمة القومي بزعامة الأمام الصادق المهدي، الضلع الثالث في تحالف قوى نداء السودان، نفسه بين شقي الرحى وهو يرى الحركة الشعبية، وحركات دارفور تتجه لفتح مسارين جانبيين على حساب مسار التسوية الواحد عبر بواية "اللقاء التحضيري" الذي لا يزال متمسكاً به، ولأنه يدرك أن فتح المسارين اصبح أمراً واقعاً، تفرضه معطيات موضوعية، لذلك بادر إلى إعلان موقف مرحب ب"أية لقاءات ثنائية" وإن تمنى أن تصب في خانة المساهمة في "مهمة وقف العدائيات"، وفي تنفيذ اقرار الإفريقي 539 أي "تحقيق اللقاء التحضيري الإجرائي واللاء الجامع المنشود في داخل السودان"، وحذّر من أن تتناقض أية لقاءات ثنائية مع الموقف المشترك، وتهدم البناء الوطني، وتحقق سيناريوهات الاتفاقات السابقة التي لا تخاطب جذور المشكلة، وتنتهي ب"وعود كاذبة ووظائف زائف". وكما أعلن الحزب في بيان له فهو "مع وحدة الهدف لا وحدة الصف، ووحدة المسية لا وحدة المسار" نافياً عن نفسه الدخول في أي حار ثنائي مع النظام".

الشاهد أن مجمل هذه التطورات المتسارعة قادت إلى طرح أسئلة مفصلية في أوساط القوى المعارضة، لأن الإجابة عليها ستحدد ملامح التحولات المقبلة، ومن ذلك هل يمكن الاستمرار في عملية سياسية مفتوحة بلا سقوفات تحدد لها مضموناً وتوقيتاً وآليات تنتقل بها من المربع الراهن إلى مربع جديد؟, فالواضح الآن أن عملية الحوار الوطني الجارية في نسختها الحالية الموشكة على الانتهاء تجعل الحديث عن "اللقاء التحضيري" خارج سياق "الواقع السياسي" فقد تجاوزته الأحداث، وما اللجوء لفتح مسارات جانبية إلا تأكيداً لذلك، ويبقى التمسك به وفي ظل عجز الوساطة الإفريقية في تحقيقه وفي ظل انصراف المجتمع الدولي عنه بلا معنى سياسي، وهذا ما يقتضي طرح أفكار ومبادرات جديدة بدلاً من البقاء داخل هذه الحلقة المفرغة.

من الواضح أن مبادرة الحوار التي طرحتها السلطة الحاكمة انتهت إلى مبتغاها وفق ما يخدم أجندة النظام، ولكنها بالتأكيد لا تخدم أجندة الحل الوطني الشامل، صحيح أن حالة السيولة هذه، المناورات قصيرة النظر من الأطراف كافة في الحكم والمعارضة قد تفيد الحكومة على المدى القصير، لكنها ستضع المزيد من التعقيدات على أوضاع مأزومة أصلاً، لتفويتها فرصة تسوية حقيقة للأزمة الوطنية، فما تزال الحاجة ماسة لمبادرة وطنية تتسم بالمصداقية والمسؤولية والجدية والشمول تتجاوز عقلية المناورات وكسب النقاط الصغيرة على حساب وطن مثخن بالجراح، عدم الوصول إليها في الوقت المناسب لن يجعل السودان استثناءاً من حالة الفوضى والدمار اللتي لحقت بالعديد من دول الإقليم لأن قادتها فوّتوا الفرصة المناسبة لتجنيب شعوبهم مشقة التغيير الحتمي بكلفة غالية.

tigani60@hotmail.com

 

آراء