الأستاذ الطيب محمد عبد الرحمن: (آخر مدير لمكتب سودان بوكشوب) .. انطفاء أحد قناديل الاستنارة في السودان

 


 

 

حقاً استوقفني الرثاء الحزين الذي كتبه الأستاذ الباقر عبد القيوم علي، عندما علم بنبأ (14 أبريل 2021م) وفاة الأستاذ الطيب محمد عبد الرحمن، آخر مدير لمكتبة السودان- سودان بوكشوب (1967-2021م)، ورئيس نادي جلاس الثقافي-الاجتماعي-الرياضي بالخرطوم لعدة دورات. كتب الأستاذ الباقر منادياً الراحل في علياء ربه الأعلى: "قف، وتمهل بريهةً قبل أن تغادرنا أخي العزيز ... الطيب محمد عبد الرحمن؛ لتخفف علينا نوائب الدهر بطيب قلبك، ومعسول كلامك، وجمال روحك، وطول يدك ذات العطاء الفطري، الذي لا يصطنعه الرجال من أجل أن يكسوهم مهابة بين الأشباه منهم في مجتمع سقطت فيه معالم الرجولة، ومعاني الفضيلة، وصنعة العطاء ... قف لنحكي لك عن قسوة الحياة التي ألمت بنا، ولم تبارحنا حتى الآن، ونحدثك عن أوجاع الزمن الذي لا زال يلازمنا بقسوته، وقد أصبح يألفنا ونحن له كارهون؛ لأنه اعتاد على مباغتنا لينكأ علينا جروح قلوبنا القديمة التي لم تندمل بعد". أشعرني هذا الرثاء الأليم أنَّ الأستاذ الباقر لا يرثي الأستاذ الطيب وحده، بل يرثي جيلاً من الانداد يقفون على رصيف قطار الرحيل، ويرثي المجتمع السوداني، الذي، من وجهة نظره، قد تضاءلت فيه معالم الرجولة، ومعاني الفضيلة، وصنعة العطاء. لعمري، أن هذا رثاء محزنٌ حقاً، لواقع كان الطيب أحد حاملي أختام فضائله الثلاثة.
ورثاء الأستاذ الطيب من زاوية أخرى، فيه رثاء لأحد أعمد الاستنارة في السودان؛ لأن الرجل كان آخر مدير لمكتبة السودان (سودان بوكشوب)، التي أُسست عام 1902م، كشركة غير ربحية، يباع الكتاب فيها بسعر الغلاف، لخدمة طلبة كلية غردون التذكارية وجمهور القارئين. وكانت تدار بواسطة إدارة ثلاثية، تتكون من مدير شركة سودان ماركنتايل (Sudan Mercantile)، ومدير شركة ميتشل كوتس (Mitchell Coates)، ومدير شركة جلتلي هانكي (Gellatly Hankey)، وكان رئيس مجلس إدارتها من الكنيسة الانجليكانية في الخرطوم. وبعد هذه الإدارة الثلاثية آلت ملكيتها وإدارتها إلى شركة مصر للطيران، ثم إلى يوسف تادروس وزوجته عام 1966م في إطار السودنة، وأخيراً إلى الأستاذ الطيب محمد عبد الرحمن (1967-2021م)، الذي أُغلقت المكتبة في عهده.
ويقول أحد الطلبة (ربما يكون المهندس أبوبكر سيدأحمد؟؟؟) الذين عملوا بمكتبة السُّودان في النصف الثاني من عقد "الستينيات وإبان العطلة السنوية في مرحلة دراستي الثانوية، عملتُ بائعاً في سودان بوكشوب بتشجيع من والدي"، وكان صاحب المكتبة يوسف تادروس، ومديرها العام إسكندر فهمي، "الذي انتقل من سودان بوكشوب فيما بعد ليؤسس مكتبة مروي الشهيرة." ثم يمضي الطالب ويقول "كنت أتقاضى راتباً شهرياً يبلغ العشرين جنيهاً، ويا له من مبلغ في ذاك الزمن بين يديّ صبي دون العشرين، إذ كان يومها موظفو الحكومة غير الجامعيين لا يحلمون بهذا الراتب... كنا نعمل على فترتين من التاسعة صباحاً حتى الواحدة والنصف ظهراً، ومن الخامسة عصراً حتى الثامنة والنصف مساءً." وإلى جانب الكسب المادي، يذكر الطالب قائلاً: "لم تقتصر سعادتي على الراتب فحسب، فأنا مدين لهذه الفترة الطيبة بعشرات، بل مئات الكتب، التي التهمتها اقتناصاً من الزمن الذي كانت فيه المكتبة تخلو من الرواد والزبائن." وإلى جانب بيع الكتب وتوزيعها كانت سودان بوكشوب وكيلاً حصرياً لتوزيع الصحف الإنجليزية اليومية، التي تُنقل إليها على متن شركة الخطوط البريطانية، لذلك كان الدبلوماسيون الغربيون يتوافدون على المكتبة في الأمسيات لاقتناء هذه الصحف. وعن مجلس مديرها العام إسكندر فهمي، فيقول الطالب: وكان مجلس إسكندر "في الأمسيات أشبه بالمنتدى الأدبي، إذ يتحلق حوله كبار الساسة والدبلوماسيين والأدباء... قامات باسقة، أمثال جمال محمد أحمد، وهاشم ضيف الله، وبشير محمد سعيد، وعبد الله الطيب، وعمر محمد عثمان، وأحمد محمد ياسين، وخضر حمد، ومنير صالح، وإسماعيل العتباني، وحسن نجيلة، وسيد أحمد نقد الله، وسر الختم الخليفة، ومولانا هنري رياض، ومولانا دفع الله الرضي وغيرهم، ولا تجدني مبالغاً إذا قلت إن استراقي السمع من ذلك المجلس اليومي الوضيء كان كفيلاً بمنحي درجة علمية رفيعة."
هكذا كانت مكتبة السودان (سودان بوكشوب) موئلاً لرواد الثقافة والفكر وعشاق الأدب والرواية، وبذات المقام كان مديرها الأخير الطيب محمد عبد الرحمن، الذي شهد جميع زوار المكتبة له بالانضباط في الزمن، والمهنية في العمل، والسعة في الثقافة العامة، والانبساط في العلاقات الاجتماعية والإنسانية، ولذلك كان "عملةً نادرةً في زمن عزَّ فيه المال، ورمزاً لا يشبهه أحد في وقت تساقط فيه الرموز"، كما يصفه الأستاذ الباقر. ألا الرحم الله الأستاذ الطيب بقدر ما قدم للمكتبة السودانية والثقافة الإنسانية.

 

ahmedabushouk62@hotmail.com

 

آراء